سبق أن كتبت مقالًا بعنوان: "من أين جاء مصطلح التحرر؟". والخلاصة التي ذكرتها أنها أتت من قبل الملاحدة! قال الدكتور محمد بن عودة السعوي في كتاب العقيدة ص26: لوحظ عند كثير من المفكرين الملحدين النفرة من تصور خالق لهذا الكون، لأن هذا التصور يؤدي الى ان تُحد حريتهم بمحظورات شرعية. اه. وهذا المقال يؤكد على ما سبق كتابته مع إضافات جديدة. وما أجمل ما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالته العبودية: (فالحرية حرية القلب، والعبودية عبودية القلب، كما أن الغنى غنى النفس). فبعض الناس يقصد بالتحرر: "التحرر في العقائد" فلا يريد أن يعقتد ما أمره الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم. وبعضهم يقصد بالتحرر: "التحرر في العبادات" فلا يريد أن يعبد الله بما شرع، وإنما يريد أن يعبد الله بهواه. وبعضهم يقصد بالتحرر: "التحرر في الأخلاق" فيعتدي على الناس بالقول كالشتم، وبالفعل كالضرب، من باب الحرية. وبعضهم يقصد بالتحرر: "التحرر من الحكام" والأمر بالخروج عليهم! وما يلي تفصيل لكل مسألة على حدة: 1) التحرر في العقائد: قال العلامة صالح الفوزان في شرح رسالة "معنى الطاغوت": فلو كان كما يقولون: إن الناس أحرار في عبادتهم، وفي اعتقاداتهم، ولا يُعترض على أحد، لبطلت كل هذه الأمور، ولما صار هناك فائدة للدعوة إلى الله، والجهاد في سبيل الله، بل لما كان هناك فائدة لخلق الجنة والنار، فما دام الكفار أحرارًا لماذا يدخلون النار ويعذبهم فيها أبد الآباد وهم آخذون بالحرية كما يقول هؤلاء؟ فهذا كلام باطل. اه. وقال العلامة ابن عثيمين: من اعتقد أنه يجوز لأحد أن يتدين بما شاء وأنه حر فيما يتدين به فإنه كافر بالله. انتهى من مجموع فتاوى ابن عثيمين (100/3). 2) التحرر في العبادات: قال العلامة ابن عثيمين في شرحه على الأربعين النووية: الرسول صلى الله عليه وسلم جمع شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله في ركن واحد، وذلك لأن العبادة لا تتم إلا بأمرين: الإخلاص لله وهو ما تضمنته شهادة أن لا إله إلا الله، والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ما تضمنته شهادة أن محمدا رسول الله. اه. فمن يدعو إلى الحرية في العبادات بأن يُعبد الله متى ما شاء وكيف ما شاء، فهو في الحقيقة يرفض شهادة "ألا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله". 3) التحرر في الأخلاق: قال تعالى: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ). قال ابن عباس كما روى عنه الطبري في تفسيره: "لعلى خلق عظيم" أي: على دين عظيم. اه. فأطلق الجزء"الخلق" وأريد به الكل"الدين". الدين يدخل فيه العقائد والعبادات والأخلاق، فالأخلاق جزء منه، ولكن لشرفه وأهميته أثنى الله على رسوله صلى الله عليه وسلم بهذه الخصلة. ودعاة الشر سموا الكذب "مصلحة"، وشرب الخمر "غذاء روحي"، والربا "فوائد"، وشتم الناس "حرية"، وضرب الناس "تأخذ حقك بيدك"، وعلاقة المرأة بالرجل الأجنبي"علاقة أخوية". فهذا هو التحرر في الأخلاق الذي لا يحبه الله ولا يرضاه، بل نهى عنه وحذر منه، ولا حياة لمن تنادي من "دعاة التحرر"! 4) التحرر من السلطان: ليس في الإسلام شئ يسمى "التحرر من السلطان". بل هناك سمع وطاعة! كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم: (اسمع وأطع وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك) رواه مسلم. وحكى الشوكاني أن أحاديث السمع والطاعة للحاكم بلغت حد التواتر! فتميز الخوارج والمعتزلة عن أهل السنة بالخروج على حكام المسلمين. قال العلامة صالح الفوزان في شرح رسالة الإمام المجدد إلى أهل القصيم ص139: (أما الذين يحملون السلاح في وجوه المسلمين، ويقولون: هذا هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهذا مذهب الخوارج، ومذهب المعتزلة). وقال الدكتور سفر الحوالي في كتابه أصول الفرق والأديان: (يتميز الخوارج عن سائر الفرق المخالفة للجماعة بالثورة والإندفاع والتهور). ومع ذلك فالدكتور سفر الحوالي كان أول مَن هنأ بثورة مصر -عفا الله عنه وأحسن خاتمته-. ولمح بعضهم بالتحرر من السلطان من خلال كتبه ومحاضراته، وقد صرح بعضهم بذلك -بالتحرر من السلطان-، كالأستاذ محمد قطب في كتاب "منهج التربية الإسلامية" ص155: الذي يخاف الموت لا يقدم، والذي يخاف الفقر يجعل همه المال، والذي يخاف السلطان يتحاشى كل عمل يعرضه للصدام، والذي يخاف الألم أو الهزيمة يفر من المعركة، معركة الحياة الكبرى، وينحسر بنفسه عن المغالبة والاقتحام، والذي لا يخاف شيئا من ذلك كله فهو متحرر منه، طليق من ضغطه عليه، مقتحم متمكن غلاب. اه. فالذي لا يخاف ما يعرض الحاكم للصدام فهو "متحرر" و"طليق" و"متمكن" في وجهة نظر الأستاذ محمد قطب. والعجيب أن هناك كلاما قريب منه في كتاب "بروتوكولات حكماء صهيون"، وهذا الكتاب لزعيم صهيوني! قال في ص152 من كتاب "بروتوكولات حكماء صهيون": ان تجرد كلمة "الحرية" جعلها قادرة على اقناع الرعاع بأن الحكومة ليست شيئاً آخر غير مدبر ينوب عن المالك الذي هو الأمة، وان في المستطاع خلعها كقفازين باليين. وان الثقة بأن ممثلي الأمة يمكن عزلهم قد أسلمت ممثليهم لسلطاننا، وجعلت تعيينهم عملياً في أيدينا. اه. الخلاصة: "الحرية المطلقة" هي حرية بلا قيود، فحتمًا يوقعك في محذور شرعي. ومن رفض الإنقياد لله في أمر من أمور الدين بحجة أن هذا الأمر يضيق حريته، فهو يرفض أن تُحد حريته بالشرع، فلا يعترف بشئ اسمه "شرع الله"، فحريته ليست لها حدود. وهذه الحرية من جنس حرية الملاحدة كما ذكرت في مقدمة المقال! [email protected] @Ashamsalden