وأنا أتابع فلماً قصيراً عرضته قناة (mbc) في إحدى نشراتها الإخبارية وهي تستقبل (عيد الأضحى) ومعاناة المسلمين مع (خروف العيد)، أخذتني تداعياتي بعيداً. الفلم عن لص تركي، لاحقته كاميرا البوليس، وهو يسرق خروفاً من على ظهر شاحنة كبيرة وهي سائرة في الطريق. كانت تقنية ذلك اللص في تنفيذ مشروعه، تُسجِل له براءة اختراع يستحقها عن جدارة. إن كان لجهة الفكرة التي عبّرت عن انتباهة شديدة لسوق عمله (كونه لص) أو لجهة مهارته وجرأته في تنفيذ الفكرة. لقد لحق الشاحنة المحملة بالأغنام بعربة يقال لها (طرطيرة). جعل معاونه يوازن سرعته مع سرعة السيارة من الخلف حتى نط على السيارة متسلقاً جدارها الخلفي لينتشل له خروفين (ليس واحد) ويرميهما في جوف (طرطيرته)، ثم نزل وجلس عند بضاعته وكأن شيئاً لم يحدث. بالطبع سائق الشاحنة أنسرق وهو ما يدري. لكنها الكاميرا اللعينة التي لم يحسب حسابها في خطته. حقاً لقد أثار إعجابي ذلك اللص الماهر ووجدت المثل السائر (يسرق الكحلة من العين) ينطبق عليه تماماً. تداولتني الصفنات الطوال، تارة عن اللص ومهارته العجيبة وتارة عن الكبش المسكين الذي سيّذبح في يوم العيد، وراحت بي الصفنة بعيداً إلى طقس الذبح الديني المتحول لدى ملايين العوائل في عالمنا الإسلامي، إلى مشكلة عويصة بل كابوس يأخذ من جيوبهم ورؤوسهم الكثير قبل وصول العيد.. وهل يُعقل عيد بدون ذبح..!!؟ غير إن إحدى الصفنات كانت لي هي الأخطر، ببساطة وجدتني بها أناقش وأجادل الدين ورجال الدين عن هذا الطقس الذي لم يستوعبه عقلي الصغير.. يا ترى لِمَ الذبح من الأصل..؟ وبعد مراجعة واستذكار لمعلومات قديمة كنت قد قرأتها عن أديان العراقيين القدماء، المعلومات التي حصلنا عليها ليس بطريقة (قال فلان عن علاّن) بل من الرُقِم الطينية في (أوروك) و(الوركاء) و(نفّر)، وجدتني أربط هذا الطقس أو (العادة) كما يحب البعض وصفها، بطقوس تلك الأديان التي تنتمي إلى زمن ما قبل الطوفان. والغريب أني وجدت عذراً لأولئك الذين عاشوا قبل الطوفان في طقسهم الذبحي ولم أجد نفس العذر للذين يعيشون في هذا الزمان. كانت رسالة آلهة ذلك الزمان للبشر الذين خلقتهم رسالة بسيطة جداً؛ هي أن يطعموها.. ولا شيء غير ذلك.. وإلاّ ستحل عليهم لعنتها..!! لأن آلهة ذلك الزمان كانوا مثل البشر، كذلك طبقات، طبقة آلهة إلإيكيكي كانوا يكدحون ويفلحون الأرض والأعلى منهم كان يتنعمون ويترفهون بكدح أولئك الشغيلة، حتى جزع هؤلاء وملَّوا من الكدح في الأرض وقرروا الإضراب (*). كل هذا قبل خلق البشر بالطبع. الأمر الذي جعل الأعلون في حيرة من أمرهم، من يطعمهم بعد الآن..!؟ عندها اهتدوا إلى هذه الفكرة المذهلة؛ أن يخلقوا البشر وهؤلاء يقومون بكل الأعمال من زراعة ورعي وصيد ليطعموهم. بمعنى إن الإنسان في ذلك الزمن البعيد كان هو الرزاق وليس الإله. لكنه رغم هذا كان مجبراً لتجنب غضب الآلهة القادرة على تطيين عيشته، على إطعام آلهته وإيصال روائح الشواء إلى أنوفها وهي في السماء.. كذلك من له ميت في العالم الأسفل سيصيبه شيئاً من اللحم وباقي الأطعمة.. كل هذا لأن آلهة ذلك الزمان كانت مثل البشر تأكل وتشرب وتتزوج.. والذين يموتون ويذهبون للعالم الأسفل كذلك يواصلون عاداتهم في الأكل والشرب..إلخ كل ذاك كان قديماً (قبل الطوفان)، السؤال هنا ما الذي جعل ذلك الطقس القديم يترسب في قاع الإيمان الديني لبشر هذه الأرض، ومن ثم يدخل وبتلقائية عجيبة في نسيج كل الأديان التي أعقبت الطوفان، رغم أن صفات ووظائف الآلهة الجديدة اختلفت تماماً عن تلك القديمة.. أخذت الآلهة تسمو رويداً رويدا عن كل ما له علاقة بالبشر من عادات ووظائف.. السؤال هنا لماذا استمر الإله الذي غدا واحداً غير متعدد على ذات العادة القديمة ينتظر تقدمة الإنسان العبد من الذبائح في مواسم معينة، ولا يهنأ باله ويستقر على عرشه ما لم يشاهد الدماء ويتنسم روائح الشواء. والمفارقة الواضحة لي الآن، هي أن الدين الإسلامي قد افترق عن كل ما سبقه من أديان بميزة مهمة هي التجريد و(التوحيد) المطلق للإله.. هو لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤاً أحد.. لا يأكل ولا يشرب ولا يتزوج.. إذن لمن ظل طقس الذبح دائراً بين معشر المسلمين..؟ قيل (والمشكلة كل مصائبنا جاءت بعد قيل) قيل إن الأضاحي هي للأموات وهل منا من ليس له ميت.. توزع على الفقراء بثواب الأموات.. لكن يا جماعة الخير المتوفي هو الآخر لا يأكل ولا يشرب ولا يتزوج لأنه انتقل إلى عالم آخر روحاني غير مادي.. والفقير الذي ستصيبه وذرة لحم في العيد سيظل فقيراً بعد العيد، يعني هذا ليس حلاً للمشكلة.. بصراحة وجدته سؤالاً محيراً.. ولم تعد تردعه حتى تلك القصة الدينية التي أراد بها النبي (إبراهيم) ذبح ابنه ومن ثم نزل عليه الكبش من السماء.. أظن أن الأمر ما زال يعود لما ترسب في قاع إيماننا الديني من عادات وطقوس تنتمي لأزمان غير زماننا ونتناقلها بلا وعي من مخزون وعينا الجمعي. (*) أسطورة الخلق السومرية