ضباب ملون وليس غيوماً ملونة... حاولت أن أعرف الفرق... أن أميز هذه من تلك، نوافذ السيارة التي حملتني إلى فسحة الحلم الضيقة لم تساعدني في ذلك... وقبل أن أصل، رائحة المستشفى تجول في صدري... ضجيجه، كآبته، دموعه، كل ذلك تعلقَ بين أضلعي منذ زيارتي الأخيرة قبل عدة أيام... ولا يكاد يفارقني. ضباب ملون يخترق عينيَّ ويقبع خلف صداعي المتمرد... ضباب يخترق فيّ كل شيء... وتنبعث منه رائحة المرض العتيقة... انتظرت زملائي الذين رافقوني قبل أسبوع ولكن أحداً منهم لم يأت... هل ملوا من التسجيل والحجز وتثبيت التسجيل وانتظار الطبيب وثرثرة الممرضة وتدخل المتدرب البليد... والتوتر المفرط كلما دخل العيادة مريض بدون موعد لأنه "موصى عليه" ويقول الطبيب: ما شاء الله ما أكثر ال "موصى عليهم اليوم".... أم هل يئسوا من رحمة الله - رحمة أصحاب الأغلفة البيضاء- لست أدري ولكنني أنتظر على المقعد البرتقالي المصفر مقابل مدخل العيادات كأنني أنتظر شخصاً ما... غودو؟ وأي غودو منهم؟ غودو لم يعد منذ هجر هذا الكون، وربما أنه لم يهجر أصلاً، إنما يتأملون ذلك ليؤملونا بقدومه/عودته... من مكان ما خلف الأفق كلما ارتعش الضوء وانطفأ... كلما تضاعفت تعاسة الآدمي وتفشّت الحسرة في دمائه المريضة... استهجنت عند زيارتي الأولى تحديق الناس فيّ وصرت أتفحص ملابسي ومظهري بل وأنظر حولي لأحلّ ذلك اللغز المحبط... ولكنني اليوم أنا أحدق في عيون الناس من حولي وأوضاعهم... وأحاول معرفة مصيبة كل واحد منهم بدون أن أتكلم مع أحد... وهم بدورهم ينظرون وفي عيونهم آلاف الأسئلة وملايين الاستفسارات... طالما حملت في مهجتي ذلك القدر من الأسئلة اللامنتهية... لكنني تعبت ومللت الانتظار، ذلك المفهوم المعقد الذي ولد معي ومعي نشأ وكبر، حتى أصبح قيمة من قيم الحياة التي أعيش لأجلها أو بها... أقترب قليلاً من الأغلفة البيضاء حيث لا أحد من زملائي السابقين! بل ها هو أحدهم... أو كأنه هو... عجوز يتعدى عمره السبعين على الأقل... ابتسمت لرؤيته... أو فرحت... يا الله! أظنه يفكر ويتساءل ما الذي تفعله فتاة في الخامسة والعشرين هنا ومنذ شهر! أواسي نفسي قليلاً حيث أن الممرضة استقبلتني هذه المرة بابتسامة وكلام لطيف... وبدون شروط كثيرة.... لكنني أكره مفهوم الشفقة أيضاً... أحاول كبح رغبة عارمة في البكاء... بل الانفجار بالبكاء... لا بد أن أمامي مشوار طويل وشاق... لا بد أن أوفر ما تبقى من دموع مريضة إلى حين أحتاجها أكثر... ولا أستطيع... بعض المشاهد في ذلك الممر المختنق تخنق أنفاسي... ولا أستطيع كتابتها في صفحة بيضاء! فما أبعدها عن البياض... ذلك العجوز الذي أسف كل "الجمهور" لحاله جعلني أبكي بشكل لفت أنظار من حولي... تمنيت لو أستطيع النهوض والهروب إلى مكان لا أعرف أحداً فيه ولا أعود إلى هنا.... ولا إلى البيت أيضاً.... رغبت في أن أنهض وأجري بأقصى سرعة... دون أن يراني أحد أو يستوقفني أحد من المتعاطفين! كم أكره مفهوم الشفقة! آه! وكم هي مزعجة رائحة المرض الكريهة وتساويها أو تفوقها في الإزعاج رائحة المراحيض النتنة التي تزعج الجميع وتستفزني! تباً لها من إدارة حقيرة! تظن أن وضعاً كذلك لا يؤثر في المرضى ولا حق لهم في الاعتراض أو التذمر... ألا يكفي أنهم "يتعالجون" مجاناً؟؟؟ والمزعج أكثر أن تضطر لاستعمال تلك المراحيض ولا تجد مهرباً يحول دون ذلك!!! سحقاً للحاجة! كم هو مؤلم ذلك الشعور وكم هو بائس! تباً للمرض وتباً لرائحة المرض! تباً للحاجة العمياء الصماء... ولمن لا يفهمون تلك الحاجة كما يجب... تباً لمن لا يستطيعون قراءة الألم والخيبة أو لا يكترثون... يقومون بعمل روتيني ويسمون ذلك "علاجاً" ثم "ارجع الخميس" أو بعد أسبوع... لا شك ذلك أهون عليك من موعد بعد شهرين أو أكثر!!! يبدو أن الانتظار سيطول أكثر، وها قد أخذ رفاقي بالتململ والانسحاب والتحسر والشتيمة أيضاً... ليتني أحظى ببعض الدفء على الأقل... صداعي يرافقني وتمنعني رائحة المرض من محاولة أكل شيء يساعدني في التيقظ... دموع حارة تصر على أن تنصب على وجنتيّ المصفرتين من البرد والخوف والألم... وأفشل في محاولة كبتها حتى المساء كما اعتدت منذ ولدت... ومنذ ولد معي ذلك الطيف البغيض... لا مزيد من الكبت كما يبدو لكن مزيداً من الانتظار ينتظرني... مزيد من التنهدات يطلقها أصحابي ولديّ منها أكثر... الممرضة تنادي اسمي فأسرع بينما يحدق فيّ زملائي تحديقاً ربما هو تشجيع... يا للبؤس! Thur. Dec 8, 2011 8 am