سَلَا القَلْبُ سَلَا القَلبُ عَمَّا كَانَ يَهوَى وَيَطلُبُ * وَأَصبَحَ لَا يَشكُوا وَلَا يَتَعَتَّبُ صَحَا بَعْدَ سُكْرٍ وَانتَخَى بَعدَ ذِلِّةٍ * وَقَلبُ الَّذِي يَهوَى العُلَى يَتَقَلَّبُ هذه القصيدة من أطرف القصائد في ديوان عنترة فقد قالها بعد ما أغضبته عبلة وبالغت في مضايقته . (سَلَا القَلبُ): وسَلَا من السلوى والسُلوان, الذي هو دواء الحزين, والمعنى أن عنترة يُشَبِّهُ حبه لعبلة بالمرض, الذي لا يفارقه, ولكنه الآن قد شُفِيَ من هذا المرض, والتهى قلبه وانصرف عنه, وصار لا يشكوا فراق هذا الحب لعبلة, ولم تعد نفسه تعتب عليه هجره لها . والآن صحا قلبه واستفاق مما كان فيه, ومن غيبته وسكره الذي أغرقته فيه محبته, تلك المحبة التي سببت له الغفلة والمذلة, لكنه الآن استوعب وأدرك خطأ ما كان فيه, وتعزز بعد ما كان يتذلل لعشقه وهواه, وذلك معنى قوله (وانتخى بعد ذلة), وعاد لرغبته الأساسية وهي طلب العُلا والمجد, ويعتذر عنترة عن غيبته, بأن قلوب راغبي المجد والعظمة, دائمة التقلب والتغير . إلى كم أداري من تريد مذلتي * وأبذل جهدي في رضاها وتغضبُ عبيلة أيام الجمال قليلةٌ * لها دولة معلومة ثم تذهبُ إن من طبائع النساء, الدلال على من يحبون من الرجال, ولعل عبلة قد بالغت في التدلل على عنترة, وهو يصبر إلى أن فاض به الكيل ولم يعد يحتمل, ويقول أن الإستمرار في السكوت على هذا التدلل, مذلة كبيرة لرجل مثله, وأنه لا يرى فيما يفعله الكفاية لإرضاء عبلة, وفوق ذلك تغضب وتتمنع وتأبى عليه نفسه, التذلل أكثر من ذلك . ومن ثم يخاطب عبلة ويناديها باسمها مصغراً, وفي هذا إشارات : الإشارة الأولى أنه تعمد مناداة عبلة باسمها مصغراً, ليقول أنها ليست بهذا القدر, وهذا المقام وتلك المكانة, التي تعتقد أنها تحتلها في فؤاد عنترة, وهذا هو الراجح في رأيي, والإشارة الثانية: أنه أتى باسم عبلة مصغراً, مراعاة للوزن والقافية, وهذا رأي قوي إلا أنه مرجوح بسابقه . ويقول عنترة لعبلة مُنَدِّماً لها, على ما تسببت به من الهجر والفرقة, بعد ما كان بينهما من وُدٍ ومحبة, وأيام جَمَّلَتها تلك المشاعر المتبادلة, أن تلك الأيام قليلة لا تدوم, فكما هو حال دول السابقين وأيامهم, تبقى إلى ما شاء الله ثم تذهب ويطويها النسيان, يكون حال هذه الأيام التي كانت بيننا. ويوجد هنا سؤال يطرح نفسه, وهو: كيف يصدر هذا القول من لسان عنترة, بالرغم من المعاناة التي لحقت به, جَرَّاءَ حُبِّه لعبلة, وعندما غضب منها يقول ذلك ؟ والجواب في رأيي أن ذلك أمرٌ طبيعي, فعنترة بطبيعة حاله عزيز النفس, لا يقبل الإساءة بكل ألوانها, وإن كان يتغاضى عنها أحياناً, ولا أرى كلامه هذا إلا نتيجةً لغضبه, فهو عندما يهدأ تعود إليه صبابته ومحبته, ومشاعره الأولى تجاه عبلة, والتي تأصلت في داخله.