لقد أصبنا في هذه الأيام بمجموعة من البشر يظنون أنهم ملائكة لا يخطئون ؛ ولهذا تجدهم لا يقبلون نقداً ولا يعترفون بخطأ حتى وإن كان واضحاً لا يختلف عليه اثنين ، وللأسف أن هؤلاء لا يتغيرون بسهولة بلا يتوقع أن يتغيروا فالأستبداد بالرأي من سماتهم ، والمركزية في القرارات هي أسلوبهم ، والرد المجحف المتغطرس هو حالهم ، ولننظر إلى المسئولين في بلادنا من وزراء ومحافظين ومن دونهم نستشعر هذا ونلحظه ، وكم شاهدت أكثر من لقاء وقرأت تفاصيل للقاءات أخرى مع هؤلاء المسئولين فوجدت ما أشرت إليه آنفاً وكنت حينها أكظم غيظي وأقول في نفسي " ليسوا أفضل من عمر " !!. إن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه والذي تولى منصب الخلافة لأمة مترامية الأطراف وليست مدينة أو قرية كان قد وضع قواعد لخلافته منها كما جاء في نهاية خطبته التي استهل بها عهد خلافته : " .... فاتقوا الله وأعينوني على أنفسكم بكفها عني وأعينوني بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإحضاري النصيحة فيما ولاني الله من أمركم " ، وهكذا كان الحال في خلافته فلم يكن كلاماً معسولاً يستهل به بداية عهده حتى تستقر له أركان الحكم ويُسيطر على رقاب الناس ولكنه كان صادقاً في كلامه معنياً بكل لفظ من ألفاظه ولهذا جاءت المواقف والأزمات لتثبت ذلك ، فذات يوم يصعد المنبر ليتحدث للمسلمين في أمر جليل فيبدأ خطبته بعد حمد الله بقوله : " اسمعوا يرحمكم الله " ولكنّ أحد المسلمين ينهض قائماً فيقول :" والله لا نسمع والله لا نسمع " فيسأله عمر في لهفة : " ولم يا سلمان " فيجيبه : " ميزت نفسك علينا في الدنيا أعطيت كلاً منا بردة واحدة وأخذت أنت بُردتين " ، فيحيل الخليفة بصره في صفوف الناس ثم يقول : " أين عبد الله بن عمر ؟ " ، فينهض ابنه عبد الله : " هاأنذا يا أمير المؤمنين " فيسأله عمر : " من صاحب البردة الثانية ؟ " ، فيجيبه عبد الله : " أنا يا أمير المؤمنين " ، فيقول عمر : " إنني كما تعلمون رجل طوال ولقد جاءت بردتي قصيرة فأعطاني عبد الله بردته فأطلت بها بردتي " ، فيقول سلمان وفي عينيه دموع الغبطة والثقة : " الحمد لله والآن قل نسمع ونطيع يا أمير المؤمنين " ، فيالعظمة هؤلاء وعظمة من ربّاهم وعظمة المنهج الذي تربوا عليه فعمر وهو خليفة يقبل النقد والمعارضة ولا يضجر منهما بل انظر إلى السلاسة في الرد فلم ينهر الرجل أو يُوبخه على سؤاله أو اعتراضه أو يأمر بحبسه حتى يعتبر الآخرون ولا يتكرر ذلك في المستقبل كما يُفعل الآن بل ربما يُقتل الرجل قبل أن يقف معترضاً تحت دعوى الخوف على حياة الزعيم والقائد الملهم ولكن مع عمر تم قبول معارضته في حديثه وعدم الاستجابة له وتم الرد بالصدق والحسنى فكانت النتيجة على أفضل ما يرام . لقد فاق عمر رضي الله عنه تلك الحدود فلم يكن يقبل المعارضة فقط ولكن يشغله عدم معارضة الناس له وتخليهم عن تقويمه إذا أخطا خشيةً منه أو استعظاماً له، فيروى أن حذيفة رضى الله عنه دخل عليه مرة فراءه مهموم النفس باكي العين فسأله : " ماذا ياأمير المؤمنين؟ " فأجابه عمر: " إني أخاف أن أخطئ فلا يردني أحد منكم تعظيمً لي " ، فيرد حذيفة قائلآً: "والله لو رأيناك خرجت عن الحق لرددناك اليه" ، فيفرح عمر ويقول: " الحمد الله الذي جعل لي أصحاباً يقومونني إذا أعوججت " ، فانظر إلى من تحمل المسئولية فعرف قدرها وانظر في المقابل إلى هؤلاء الذين يفكرون في القضاء على كل من يعارضهم أو يناصحهم حتى تخلو الساحة لهم فيعيثون في الأرض فساداً يظلمون الناس ويأكلون حقوقهم ، بينما يحققون هم متعتهم ويتمتعون بمناصبهم بلا نكد ولا همّ . إن عمر رضي الله عنه يضرب المثل في التواضع الذي عناه الفضيل بن عياض رضي الله عنه في قوله :" التواضع أن تخضع للحق وتنقاد له وتقبله ممن قاله " ، فهاهو يخضع للحق وينقاد له ويقبله ممن قاله وياليتنا نعيش هذه المعاني ونرى في يوم من الأيام أصحاب المناصب في بلادنا يخضعون للحق وينقادون له ويقبلونه ممن قاله فلا يُعقل أن نرى ما نسميه " بالدول الكافرة " تلتزم بتعاليم ديننا وتطبقها بصورة تفوق ما يفعله المسلمون في بلادهم وما يُطبقونه فإنك تلحظ أن قبول المعارضة والاستفادة منها واحترام آراء الآخرين حتى وإن كانوا مخالفين والأعتراف بالخطأ وتحمل المسئولية واحترام القانون من سمات تلك المجتمعات وجزء أصيل يطبقونه بصورة يومية في حياتهم ، وكأنهم يعرفون ديننا أكثر مما نعرفه ، فياليتنا نستفيد من الكثير الذي بين أيدينا ونُصلح أنفسنا ونُحسن عرض قيمنا ومبادئنا ونُصبح قدوة لغيرنا فما أعظم ديننا حينما نطبقه تطبيقاً عملياً .