في ليلة السابعَ عشر من رمضان، و النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم في الأربعين من عمره نزل القرآن الكريم عليه أول سورة منه وهي سورة العلق و شهدت أيام نزول القران اتصال الأرض بالسماء، و تنزل الوحي بالنور و الضياء، فأشرقت الأرض بنور ربها وانقشعت ظلمات الجاهلية الجهلاء. و من قبل ذلك شهد هذا الشهر الكريم نزولا آخر وهو نزول القرآن جملة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا، وكان ذلك في ليلة القدر قال تعالي{إنا أنزلناه في ليلة القدر}سورة القدر الآية الأولي وقال تعالي {إنا أنزلنا في ليلة مباركة}سورة الدخان الآية رقم 3 وفي ذلك يقول الصحابي الجليل عبد الله ابن عباس رحمه الله [ أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا ليلة القدر ثم أنزل بعد ذلك في عشرين سنة ] رواه الإمام النسائي والحاكم. وقال ابن جرير الطبري المفسر صاحب كتاب [ جامع البيان في تأويل القرآن ] المعروف ب [ تفسير الطبري ] ما نصه [ فقد نزل القرآن من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا في ليلة القدر من شهر رمضان ثم أنزل علي سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم على ما أراد الله إنزاله إليه]. وهي تلك الليلة الموعودة التي سجلها الوجود كله في فرح و غبطة و ابتهال ليلة الاتصال بين الأرض و الملأ الأعلى وهي أيضا ليلة ذلك الحدث العظيم الذي لم تشهد الأرض مثله في عظمته و في دلالته و في آثاره في حياة البشرية جميعا، العظمة التي لا يحيط بها الإدراك البشري . والنصوص القرآنية التي تذكر هذا الحدث تكاد تَرِفُّ و تنير بل هي تفيض بالنور الهادئ الساري الرائق الودود نور الله المشرق في قرآنه {إنا أنزلناه في ليلة القدر}، و نور الملائكة و الروح و هم في غدوهم ورواحهم طوال الليلة بين الأرض و الملأ الأعلى {تنزل الملائكة و الروح فيها} و نور الفجر الذي تعرضها لنصوص متناسقا مع نور الوحي و نور الملائكة … {سلام هي حتى مطلع الفجر} " [تفسير الظلال 6/ 3944] و أي نعمة أعظم من نعمة نزول القرآن؟ نعمة لا يسعها حمد البشر فحمد الله نفسه على هذه النعمة {الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب و لم يجعل له عوجا}. وهكذا إذن فقد شهد شهر رمضان هذا النزول الفريد لكتاب الله و من يوم ذاك ارتبط القرآن بشهر رمضان قال تعالي{شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس و بينات من الهدى و الفرقان}سورة البقرة ومن يوم ذاك أصبح شهر رمضان هو شهر القرآن. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال كان رسول الله صلى اللهم عليه وسلم أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن فلرسول الله صلى اللهم عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة [البخاري 6 مسلم 2308]. وقد قال ابن رجب رحمه الله دل هذا الحديث على استحباب دراسة القرآن في رمضان والاجتماع على ذلك، و عرض القرآن على من هو أحفظ له و هذا فيه دليل على استحباب الإكثار من تلاوة القرآن في شهر رمضان، وفي حديث السيدة فاطمة الزهراء رضي الله عنها عن أبيها صلي الله عليه وسلم أنه أخبرها أن سيدنا جبريل عليه السلام كان يعارضه القرآن كل عام مرة و أنه عارضه في عام وفاته مرتين ] رواه البخاري 3624 و مسلم 2450 وفي رمضان يجتمع الصوم و القرآن، وهذه صورة أخرى من صور ارتباط رمضان بالقرآن، فتدرك المؤمن الصادق شفاعتان، يشفع له القرآن لقيامه، و يشفع له الصيام لصيامه، قال صلى الله عليه وسلم: ((الصيام و القرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه، و يقول القرآن: رب منعته النوم بالليل فشفعني فيه فيشفعان)) [أحمد] وعن ابن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:[ يجيء القرآن يوم القيامة كالرجل الشاحب يقول: أنا الذي أسهرت ليلك و أظمأت نهارك] رواه الامام ابن ماجه "واعلم أخي المؤمن أنه يجتمع في شهر رمضان جاهدان لك وهم 1- جهاد بالنهار على الصيام! 2- - وجهاد بالليل على القيام! فمن جمع بين هذين الجهادين في الدنيا و وفَّى بحقوقهما و صبر عليهما وُفِّي أجره بغير حساب يوم القيامة [لطائف المعارف 360] و من صور اختصاص شهر رمضان بالقرآن الكريم ايها الاحباب صلاة التراويح، فهذه الصلاة أكثر ما فيها قراءة القرآن، وكأنها شُرعت ليسمع الناس كتاب الله مجوداً مرتلاً، و لذلك استحب للإمام أن يختم فيها ختمة كاملة. فعن واثلة بن الأسقع- رضي الله عنه- عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: (أنزلت صحف إبراهيم أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لست مضت من رمضان، وأنزل الإنجيل لثلاث عشرة مضت من رمضان، وأنزل الزبور لثمان عشرة خلت من رمضان، وأنزل القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان): رواه الطبراني في الكبير ، وأحمد في مسنده وابن عساكر وحسنه الألباني صحيح الجامع رقم (1509). وشهر رمضان وإن كان موسماً لسائر العبادات، فإنَّ للقرآن فيه مزيد مزية وخصوصية، قال الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: من الآية 185]، {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} سورة القدرالاية الاولي وقال تعالي ايضا {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ}سورة الدخان الآية رقم 3 ولهذا كان للقرآن عند المسلمين الأوائل خصوصية في موسمه فبيوت الصالحين السابقين كان لها في رمضان خاصة دويّ كدويّ النحل، تشع نورًا وتملأ سعادة، كانوا يرتلون القرآن الكريم ترتيلاً، يقفون عند عجائبه ويبكون من عظاته ويفرحون ببشارته و يأتمرون بأمره وينتهون بنهيه! طلب النبي صلى الله عليه وسلم من ابن مسعود أن يقرأ عليه القرآن، فقرأ سورة النساء، فلما بلغ قوله تعالى: (فكيف إذا جئنا من كل أمةٍ بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً). قال له عليه الصلاة والسلام: ((حسبك الآن)). قال: فنظرت فإذا عيناه تذرفان)). إنه المحب سمع كلام حبيبه فبكى: وعن سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام أنه استمع لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه وهو يقرأ القرآن : ثم قال له: لو رأيتني وأنا أستمع إلى قراءتك البارحة، لقد أوتيت مزمارأً من مزامير آل داود فقال أبو موسى: لو علمت يا رسول الله أنك تستمع لي لحبرته لك تحبيراً] والمعنى لجملت صوتي أكثر وأكثر، فجعلت القرآن الكريم به أكثر تأثيراً وروعة وجمالاً. وكان عمربن الخطاب رضي الله عنه إذا اجتمع بالصحابة قال: يا أبا موسى الأشعري ذكّرنا ربّنا فيندفع أبو موسى يقرا بصوته الجميل وهم يبكون: وإني ليبكيني سماع كلامه فكيف بعيني لو رأت شخصه بدا تلا ذكر مولاه فحن حنينه وشوق قلوب العارفين تجدّدًا لما استبدل القرآن الكريم بغيره حل الفساد، وكثر البلاء، واضطربت المفاهيم، وفشلت العزائم. فهل لنا أن نعيش مع القرآن الكريم في رمضان وغير رمضان، وهل لنا أن نعرف عظمة القرآن الكريم فنملأ حياتنا سعادة بالقرآن الكريم، ونورًا بالقرآن الكريم، وإشراقاً مع القرآن الكريم. هل لنا أن نفعل ذلك؟ أخي الكريم، ها قد عرفتَ من فضل القرآن ما قد عرفتَ، و علمتَ من ارتباط هذا الشهر الكريم بالقرآن العظيم ما قد علمتَ، فلم يبق إلا أن تُشمِّر عن ساعد الجد، وتأخذ نفسك بالعزم، و تذرع الصبر، و تكون مع القرآن كما قال القائل في احدي أبيات الشعر وهو الآتي:::- ------------- أسرى مع القرآن في أفق فذ تبارك ذلك الأفق وسرى به في رحلة عجب من واحة الإيمان تنطلق وارتاد منه عوالما ملئت سحرا به الأرواح تنعتق يامن يريد العيش في دعة نبع السعادة منه ينبثق --- فأحوال النّاس مع القرآن في رمضان اليوم هي أحوال عجيبة. فمن النّاس من لا يعرف القرآن في رمضان ولا غير رمضان. ومن النّاس من لا يعرف القرآن إلّا في رمضان فتجده يقرأ القرآن في رمضان لعدة أيام ثم ما يلبث أن يترك القراءة وينكب على اللعب واللهو، فهذا استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير. ومن النّاس من يختم القرآن الكريم في رمضان ولكنه لاه القلب أعمى البصيرة لا يتدبر ولا يتأمل كلام الله عز وجل، وكأنّه في سجن؛ فإذا انسلخ شهر رمضان وضع المصحف وأحكم عليه الوثاق ولسان حاله يقول: وداعاً إلى رمضان القادم، وكأنّه أيقن أنّه سيدرك رمضان القادم. فلا حول ولا قوة إلّا بالله. قال صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين] قال تعالي في كتابه الكريم {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً} سورة الإسراء رقم 9 فالواجب علينا أيها الأحباب في كل مكان تلاوة القرآن الكريم بالتدبر والتفكر فهو سبب لحياة القلوب ونورها، وقوة الإيمان وطرد الشيطان، وإيّاكما وهجران القرآن؛ فهجرانه يورث النفاق، وعمى القلب، والغفلة، وتسليط الشيطان. وهي أيها الأحباب نملأ شهر القرآن بتلاوة القرآن؟ لنكون من الفائزين برضا الله تعالي في الدنيا والآخرة. ------- بقلم/ محمود طلبه كاتب وباحث وداعية مصري