شرعت بعض الحكومات قبل عقود مضت بزيادة راتب الموظف ، كان دافعها في ذلك غرض دعائي وهدف مبيَّت يقصد منه النيل من هذه الطبقة التي كانت صمام الأمان وعنصر الموازنة والتوفيق بين طبقات المجتمع كافة0 كانت طبقة الموظفين وما زالت تخلق التكامل وتعزز الاطمئنان وتربط الشعب بنسيج متوازن يعطى فيه كل ذي حق حقه وفق الاستحقاق الصحيح لمعايير الكفاءة والنزاهة والإخلاص الذي يؤدي إلى سعادة المجتمع وصون حقوق أفراده وضمان أمنهم ورقي حضارتهم ، لأن هذه الطبقة تشكل معظم المثقفين والعقلاء والراشدين ، والنيل منها يؤدي بالتأكيد إلى ضياع المجتمع بين الجهلة والانتهازيين من تجار الأزمات من الذين لاهم لهم سوى تحقيق أعلى الأرباح والمكاسب ولو كانت ممزوجة بحسرات وآلام الجائعين والأشقياء ، من المؤكد ان هذه الطبقة هي التي تمكنت دوماً من تشخيص الأخطاء ووضع الحلول الصائبة لها 0 الزيادات التي حصلت في رواتب الموظفين قبل عقود والتي أدت الى التضخم النقدي ، ومن ثم رفع الأسعار التي افضت إلى انعكاسات اجتماعية خطط لها مسبقاً ، ما ادى إلى أن تسلب مكانة هذه الطبقة الوسطى وتصفيتها ، وبالتالي إحداث أخطار شديدة ، لاسيما بعد أن رافقها تدبير ماكر وخسيس غرضه توجيه طعنة نجلاء ضد هذه الطبقة الفعالة والنزيهة والواعية في الغالب ، حيث رفعت أسعار السلع بتخطيط وتعمد إلى أضعاف النفع الذي حصل عليه الموظف عند زيادة راتبه ، ما جعله غير قادر على الحصول على السكن اللائق والعيش بكفاية وكرامة ، وحدا بهذه الطبقة للتفتيش عن بدائل لتعويض الضعف الحاصل في قوتهم الشرائية ، فبدد سكون حياتهم وساقهم إلى ممارسة الأعمال الإضافية واللجوء إلى الارتشاء والاختلاس واضطرار المعلمين منهم إلى ممارسة التدريس الخصوصي والى استجداء الصدقة من تلاميذهم ، وبالتالي ضياع وقارهم وهيبتهم أمام تلاميذهم ومجتمعهم ، حتى صارت السخرية والإستخفاف وإنعدام الإحترام تأخذ طريقها إلى المعلم في حصة الدرس وفي الأسواق والطرقات . كان هذا هو المفتاح الأخطر الذي أودى بالمجتمع ، فقد تطرق من خلاله الفساد إلى التعليم فحرف الأجيال عن جادة الصلاح والإستقامة وعن ثوابت الحق والفضيلة ، ونتج عن ذلك أيضاً إنحراف الضابط ورجل الأمن والقاضي والطبيب والمهندس والقانوني وحتى معلم المستقبل ، بحكم أن هؤلاء هم نتاج التربية والتعليم الحكومي في الغالب ، ثم تم القضاء على المجتمع الفاضل وأغرقت أيام وساعات الناس بالبؤس والشقاء وفقدان التوازن الإجتماعي المنصف . لو توفرت النيات الصادقة والسليمة عند هذه الحكومات لما حدث كل هذا الخراب الإجتماعي ، ولوسع الحكومات أن تَعْدِلَ عن زيادة الرواتب ، إلى تدعيم السلع الأساسية والحد من الإنفاق الحكومي وتوزيع الأراضي السكنية للمستحقين ، وخلق الفرص لتحقيق المزيد من فائض الإنتاج القومي ، ولحصل بذلك الرفاه المؤكد للموظفين الحكوميين وللشعب عامة ، أو كان من الممكن أن تزيد هذه الحكومات الرواتب تدريجياً وعلى مراحل ، ودون دعاية واسعة وتطبيل ، وبالتزامن مع ضخ سلع أساسية في السوق تمتص أي زيادة في الأسعار ، إضافة إلى إذاعة برامج ثقافية تحض على عدم رفع الأسعار وتشرح للتاجر ان رفع الأسعار لن يفيده بشئ ، إنما سيحقق له مصلحة آنية ، ثم سيعود الضرر عليه وعلى المجتمع مستقبلاً 0 المحزن في الأمر انَّ هذه الحكومات استطاعت وبمساعدة قواها الهمجية والفوضوية أن تنال من هذه الطبقة (الوسطى) ، لأن هذه القوى غذيت بمخططات وألاعيب مدروسة على يد أحذق الاختصاصيين في علم النفس والاقتصاد والسياسة وفي فنون القمع والإرهاب وتطويع الامم ، لتسلخ عن المثقف العاقل إنسانيته فيتحول إلى روبوت لا يتعامل إلا بالماديات ، فلم تترك له أدنى فرصة للتفكير وتدارك ما يحصل ، فقد هيأت له ظروفاً مصطنعة جعلته على الدوام يركض ويلهث دون شعور أو إحساس بما يجري حوله ، كان كل همه توفير الأساسيات لعيش كريم له ولأسرته ، لكن ذلك كان منالاً صعباً وعسيراً لا يتأتّى له بالطرق الشريفة0 عملت هذه الحكومات على تسويد الجهلة والفوضويين عن طريق دفعهم إلى مختلف الدراسات في الجامعات والمعاهد والمدارس ليحوزوا على شهادات ، بالحق أو بالباطل بالغش أو بالإستحقاق ، لتستبدلهم بموظفي حقبة المباديء والأمانة ، فيتسنموا مناصبهم ، ويحوزوا على صلاحياتهم ، رغم نقاء سلوكهم الوظيفي ، ورغم انهم لم يفرطوا بالثوابت الأخلاقية التي كانت لهم منهجاً يهتدون به ، ورغم أنهم طبقة نخبوية لا يمكن ان يرقى مجتمع فاضل راشد إلا بهم . أما الحكومات فقد سعت من اجل خداع شعوبها إلى أن تصطنع رقياً بديلاً خادعاً وظاهرياً حماية لسمعتها ، وهذا الرقي الزائف محض سراب خادع ليس للحقيقة فيه نصيب ، وعلى الشعوب أن تتعظ وتتنبه لئلا تقع كرة أخرى في حبائل هذا النمط من الحكومات التي لا تكترث للأمانة ولا تعبأ بالمسؤولية و(لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين) .