لم أصل الى اتفاق مع طالبة الفنون الجميلة بشأن شراء رسم رسمته على قطعة من حرير تشبه الى حد بعيد الورق الشفاف ، ولكنني أسفت فيما بعد لأنني لم أدفع لها الثمن الذي طلبته في ذلك الرسم الجميل الذي صرفت على إنجازه ثلاثة أيام ، وبدقة متناهية عرف بها رسامو الصين منذ زمن بعيد ، فقد نقل لنا ابن بطوطة في رحلة الى الصين ، وبإعجاب شديد ، ما شاهده من براعة فناني الصين ، فكتب : ( وأما التصوير فلا يجاريهم أحد في إحكامه من الروم ولا سواهم ، فإن لهم فيه اقتدارا عظيما ، ومن عجيب ما شاهدته لهم في ذلك أني ما دخلت مدينة من مدنهم ثم عدت إليها إلا ورأيت صورتي وصورة أصحابي منقوشة في الحيطان والكواغد ، موضوعة في الأسواق ، ولقد دخلت الى مدينة السلطان فمررت على سوق النقاشين ، ووصلت قصر السلطان مع أصحابي ونحن على زي العراقيين ، فلما عدت من القصر عشيا مررت بالسوق المذكور ، فرأيت صورتي وصورة أصحابي منقوشة في كاغد قد ألصقوه بالحائط ، فجعل الواحد منا ينظر الى صورة صاحبه، لا يخطئ شيئا من شبه ، وذكر لي أن السلطان أمرهم بذلك ، وأنهم أتوا القصر ونحن به ، فجعلوا ينظرون إلينا ويصورون صورنا ونحن لم نشعر بذلك ) أما فن النحت على الصخور والأحجار الكريمة فلهم فيه حذق يضاهي حذقهم في فن التصوير ، وقد اشتريت أنا قطعتين منحوتتين لسد الصين العظيم من باعة في سوق مزدحم يؤدي إليه زقاق ضيق من الشارع الفسيح الخاص بالمشاة فقط ، والذي تحدثت عنه في ما سبق من هذه المقالة . يمتد ذلك الزقاق طولا ، ومنه تتفرع أزقة كثير تنتصب على جانبيها حوانيت صغيرة تبيع تحفا وسلع مختلفة أخرى ، وتدير أغلبها بائعات ماهرات في البيع ، بينما وقف باعة الشواء على مختلف ما يبيعون من لحوم مشوية بسفافيد من خشب ، في المقدمة من الزقاق الرئيس ، مثلما وقفوا على رصيف شارع يتقاطع مع بداية شارع المشاة ، والغريب الذي شاهدته هو أنهم كانوا يعرضون لحوم بعض الحيوان والحشرات التي تكرهها النفس ويمجها الذوق ، ومما رأيت هو أنهم كانوا يعرضون أصنافا من العقارب الحية ، وبألوانها المختلفة . حاولت أن استذوق الطعام الصيني لكنني لم أستطع ، وقد أرغمت نفسي على ذلك مرات لكنني فشلت ، حتى الرز والخضروات الذي يكثر من أكلها الصينيون لم استذوقهما أبدا ، فهم يعدون أنواعا مختلفة من الخضار مرة واحدة ، ولكنهم يضيفون لها مادة سائلة حلوة مثلما يضيفون لها الكثير من الفلفل الأخضر الحار ، كما أنهم يطهون الرز من دون ملح وبطريقة تسهل عليهم تناوله بعيدان خشبية ، والأكل عندهم رخيص السعر ، فقد تناولت مرة طبقا من رز فقط بإيوانين أي ما يعادل كرونتين سويديتين أو ثلثا من الدولار الأمريكي . ورغم تطور المطعم الصيني في بنائه وتنظيمه لكن المطبخ الصيني على ما يبدو ظل على حاله ، ولم يلحقه تطور بعد ، ولهذا تجد الكثير من المطاعم الأمريكية التي تقدم وجبات سريعة مثل ماكدونالدز قد انتشرت في العاصمة الصينية ، وفيها كنت أتناول أغلب وجبات العشاء ، بينما أتناول وجبات الغداء في مطعم تركي يقع في الطرف الشرقي الثاني من الشارع الذي أسكن فيه ، وعلى مقربة من سوق ياشو (Yashow) الذي أشرت إليه من قبل ، وكانت واسطتي للوصول له الحافلة رقم 115 أو 623 وتستغرق الرحلة بين عشرين الى خمس وعشرين دقيقة ، والمطعم التركي هذا يتوسط مطعمين أحدهما سوري باسم ألف ليلة وليلة والثاني إيراني ، وإذا كان لي من رأي أن أدلي به هنا هو أن المطعم التركي يظل بالنسبة لي وبالنسبة للكثيرين غيري أفضل مطاعم الشرق والغرب فيما يقدمه من وجبات طعام مختلفة الصنعة ، عالية الذوق ، والدليل على ذلك هو ما تناولته من طعام في مطاعم مدينة اسطنبول ، وربما يشاركني الرأي في هذا الصدد كل من قام بزيارة الى اسطنبول وأكل في مطاعمها . تنتشر في العاصمة الصينية ، بكين ، أسواق كبيرة للمواد الغذائية التي يمتد بعضها على مئات الأمتار عرضا وطولا ، وتفيض بكل ما يطلبه الإنسان ويريده ، ويبدو أن الحكومة الصينية مهتمة جدا بإشباع حاجات الناس اهتماما كبيرا ، وهي لا تبخل على شعبها ، رغم ما تنتجه الصين من غذاء كثير ومتنوع ، في استيراد أنواع منه من دول أخرى قريبة وبعيدة، فلقد لفتت نظري، وأنا أفتش عن قنينة ماء في أحد الأسواق الكبيرة ، قنينة ماء يقل حجمها عن نصف لتر مستوردة من فرنسا ، ومعبأة بماء من عيون في جبال الألب الفرنسية ، وكان سعرها يزيد على دولار أمريكي واحد ، بينما سعر قنينة مياه صينية بحجمها يقل عن عشر دولار ، هذا مع العلم أن مياه الصين عذبة ، طيبة المذاق ، ويدل على عذوبتها وطيبتها عصير الثمار والفواكه الصينية . أما أسواق الملابس والألكترونيات والصناعات الجلدية وغيرها فهي عديدة وكثيرة ، ولكن أكبرها سوق ياشو المار الذكر والواقع في شرق العاصمة وفي منطقة تقع فيها السفارات الأجنبية ، أما السوق الثانية فتقع غرب العاصمة وفي شارع ديامين الذي تمر من عنده الكثير من الحافلات ، وتعد منطقته من المناطق الشعبية وتقع على ضفاف نهر معتنى به يدعى : خُوخة كما قيل لي ، والكثير من فنادقها تلك المنطقة منازل للسياح الأوربيين لرخصها ، وعمليات البناء والتجديد مستمرة فيها نهارا وليلا . ويستطيع الزائر أن يركب الحافلة 107 كي يصل الى السوق الثالثة الواقعة قبالة حديقة الحيوان في العاصمة بكين ، وتظل السوق الرابعة التي تقع في منطقة تدعى بنجامين جنوببكين ، ويصل لها زائر المدينة بالحافلة رقم 60 ثم برقم 34 ، وفي هذا المنطقة تنتشر أسواق كبيرة متلاصقة تتوزع ما بين بيع الخضار والفواكه ، وما بين بيع الملابس والأحجار الكريمة ، وفيها أيضا أسواق لبيع الكتب القديمة الذي شاهدت فيه صور كل من لينين واستالين وماو تستونغ للمرة الأولى ، ولم أشاهد صور أخرى لرجال الحكم في الصين سوى صورة ماو المعلقة على الجدار الخارجي في مبنى متقدم من المدينة المحرمة يطل على الشارع الفسيح قبالة ساحة تيان – آن – من التي مر ذكرها من قبل ، ويبدو لي أن بهرجة الحكام في العالم الثالث ، ورفع صورهم في شوارع كثيرة من بلدانهم لم تصل الصين ، حتى أنني لم أشاهد مظاهر بذخ في احتفال الحزب الشيوعي الصيني بذكرى ميلاده التسعين التي مرت وأنا هناك ، فمما شاهدته في هذه المناسبة هو الشعار المركزي الجميل للذكرى مرسوما على لوحات تطول ، وتقصر ، منتصبة في بعض حدائق العاصمة ، هذا بالإضافة الى لافتات تحيي تلك الذكرى انتشرت على شوارع قليل ، كما أنني شاهدت الاحتفال المركزي الذي أقيم في قاعة الشعب الكبرى من خلال القناة التاسعة الصينية والتي تبث باللغة الإنجليزية ، وقد أفتتح الاحتفال بالنشيد الوطني الصيني ، وختم بنشيد الأممية : (هبّوا ضحايا الاضطهاد ... ضحايا جوع الاضطرار ) الذي كتبه الشاعر الفرنسي التقدمي : يوجين بوتييه ، ويُنشد بجميع اللغات في العالم بلحن واحد ، وقد كان عدد أفراد فرقة الإنشاد التي أنشدته في هذه الذكرى قد بلغ ستة آلاف شخص منشد !!! فتفكر عزيزي القارئ!