شدتني كثيرا خطبة إمام مسجد؛ مضمونها مشكلة الخوف من المستقبل التي تلاحق البشرية. وقد شرح ذلك الإمام الفاضل بالتفصيل والتبسيط.. وبأسلوب اعتقد أنه كان في متناول جميع الحاضرين من المصلين، من صاحب التعليم العالي إلى الذي لم يدخل في حياته مدرسة. وقد أعطى ذلك الإمام أمثلة قصصية معبرة عن ماذا أراد قوله. وحسب ما استوعبته من كلام الإمام أن سبب البلاء الذي يصيب الإنسان هو عدم ثقته بأن له خالقا وهو الذي يتولى أمره في الحياة الدنيا حتى يوم مماته ويوم الرجوع إليه كما خلقه أول مرة. والله الذي خلق البشرية جمعاء قسم لها رزقها ولا ينسى أحدا من مخلوقاته، من دودة في قلب صخرة إلى حشرة في غياهب الأرض... فما بالك بالإنسان سيد هذه المخلوقات جمعاء!! وقد كانت قصة رسولنا الكريم سيدنا محمد، صلى الله وعليه وسلم، مع صديقه أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، وهما في الغار بأن قال له لا تخف فإن الله هو ثالثنا، أكبر دليل على أن من يوكل أمره لخالقه يكون محصنا من الضياع... وعدم ثقة الإنسان بخالقه هو الذي يؤدي إلى جميع الموبقات وترى الإنسان يلهث وراء جمع وتخزين المال بشتى الوسائل خوفا من الضياع في متاهات المستقبل، ولا يهمه كيف يحصل على ذلك المال بالنهب أو أكل حقوق الآخرين... ورغم المليارات المكعبة المخزنة من هؤلاء الناس تراهم غير سعداء تحسبهم من طبقة البؤساء في أيام "مسغبة" تجوز لهم الصدقة. والعكس صحيح، قد تجد إنسانا لا يعرف إن كان سيجد ما يتناوله في ذلك اليوم أم لا، ومع ذلك تجده سعيدا منشرحا لأن ثقته بالله أعظم وأكبر من ذلك صاحب المليارات. وقد أعطى ذلك الإمام مثلا قصة رجل ذهب إلى عالم يُحترم "بضم الياء" رأيه شاكيا إليه بأن الأجر الذي يتلقاه يوميا وهو أربعة دينارات "إذا كنت متذكرا جيدا الرقم" لا تكفيه في معيشته اليومية، فقال له ذلك العالم اذهب إلى صاحب العمل واطلب منه خصم دينار واحد لتصبح ثلاثة دينارات، ولم يناقش ذلك الرجل الأمر وفعل ما أمره به... وعاد إليه في المرة الثانية شاكيا إليه أيضا بأن ثلاثة دينارات لا تكفيه فطلب منه ذلك العالم نفس الطلب. بمعنى الطلب من صاحب العمل خصم دينار آخر! لكنه عاد إليه في المرة الثالثة منشرحا منبسطا بأن دينارين أصبحا كافيين. فرد عليه العالم ذلك المبلغ "دينارين" هو حقك، في المرات السابقة كنت تغش صاحب العمل وتتلقى أجرا أكبر مما تقدمه، لذلك نزعت منه البركة الإلهية... وقصة النملة مع سيدنا سليمان، عليه السلام، المذكورة في نفس الخطبة، هي أن سيدنا سليمان الذي آتاه الله العلم والحكمة وكان يعرف لغة النمل، رأى نملة بحوزتها حبة قمح واحدة تأكلها بالتمام فتوجه لله كيف لحبة قمح واحدة يوميا تكفي هذه النملة؟ فطلب منه الله أن يتولى من الآن فصاعدا أمر هذه النملة. وأصبح سيدنا سليمان يقدم لها كل يوم حبة قمح. لكن سيدنا سليمان تعجب من أمر تلك النملة بعد أن رآها تأكل كل يوم نصف حبة القمح وتخزن النصف الآخر... فطلب منها استفسارا، كيف لها في السابق كانت تأكل الحبة كلها والآن تترك نصفها؟ فردت عليه "عندما كان الله يتولى أمري كنت مطمئنة أن خالقي لن ينساني أبدا في رزقي، لكن بعد أن توليت أنت أمري خفت أن تنساني وأضيع جوعا"..