ألعاب فلسفية أتكلم عن مخي الذي يتعجب من مخي الذي يتأمل مخي ويتساءل حوله ويحاول أن يصفه ويتفلسف حائرا سائلا : هل المخ هو العقل , هل العقل ماهو إلا نشاط المخ؟ أم أن العقل يستخدم المخ متخذا إياه مطية لتوجيه الرسائل العصبية لسائر الجسد؟أتكلم عن مخ يتكلم عن مخ يتكلم عن مخ , فهل كل هذه الأمخاخ واحد؟كيف يستوعب الشيء الشيء نفسه , ويحيط به , وهو في نفس الوقت هو نفسه؟ كيف تكون الدائرة الواحدة ثلاث دوائر متداخلة , والمخ ثلاثة أمخاخ متسائلة متحيرة؟ إن أعجب مافي الوجود المعروف هو العقل أم نقول المخ؟ من أعجب ألعاب العقل مسألة اللانهاية . كيف يكون المطلق مطلقا وهو يتحدد بالإدراك العقلي؟ كأن العقل يؤطر صورة لاحدود لها , حين يصك مصطلح المطلقواللانهائي ويصف به الكون أو الزمن . هل العقل إذن رغم قصوره أوسع من اللانهاية؟ إنه إذ يتصورها يستوعبها ويحتويها . هكذا يحتوي النسبي المطلق , والمحدود اللامحدود . ومن عجائب العقل أيضا مسألة الجينات . فقد اكتشف العلم أنه كما توجد جينات للون والطول والبدانة أو النحافة , والذكاء أو عكسه , واختلال العقل أو اتزانه , والموهبة أو غيابها توجد أيضا جينات للعنف والإجرام وانعدام الضمير ! نحن إذن أمام مسألة فلسفية وهوة عقلية عميقة ومخيفة , بل إننا أمام الحيرة الفلسفية الشهيرة بأقصي درجات حضورها وتوترها : هل الإنسان إذن مخلوق جبري حاضره ومستقبله مسجلان في جسده , وعقله مرسوم مصيره قبل أن يواجه الوجود , وبالتالي من العدل أن يعفي من أي مسئولية أخلاقية؟ أم أنه يستطيع أن يقاوم جينات إجرامه , وهرمونات شذوذه , بقوته الروحية , وبالتالي فهو مسئول أمام الله والناس والقانون عن سلوكه؟ إن الافتراض الأخير يقوم علي فكرة استقلال الروح التام عن العقل والجسد والمخ . وهي فكرة تؤيدها الأديان السماوية , وبالتالي تصالح بين الحتمية البيولوجية التي اكتشفها علم الجينات , وبين المسئولية الأخلاقية التي يدعو لها الدين والمجتمع , ولاتقوم بدونها للقانون قائمة , لأننا إذا أخضعنا نصوص القانون لاكتشافات العلم لانهدم النظام الاجتماعي من أساسه , بل وارتدت الحضارة الانسانية لعصور الفوضي فيما قبل التاريخ . لكن تظل الحيرة قائمة : إذا كان هذا اختبارا , والمصير المكتوب في الجينات الوراثية قدرا من طراز القرن الحادي والعشرين , فلماذا الامتحان بهذه الصعوبة؟ لماذا هو قدر محفور في اللحم ومنقوش في خلايا الدم؟ لا إجابة إلا أن نسلم بحكمة الله , وبأن له في خلقه شئونا . وحين نتحدث عن حكمة الله , فنحن نتحدث عن قصور العقل . فكما أننا نفسر بهذه الحكمة ما لا نستطيع أن نفهمه أو نتصوره , فنحن بالأحري لا نستطيع فهم أو تصور أو إدراك طبيعة الحكيم ذاته إلا من خلال صفاته . والعقل المتواضع , بل واللبيب , هو من يعلم ذلك تماما ويعترف به ويرضي ويخضع ويخشع , أما الذي يريد أن يري الله بعينيه فلن يري إلا غروره هو وايمانه الأعمي بمنجزاته كعقل إنساني , وينسي أنه لولا أن الله خلقه سميعا بصيرا عليما ذا يدين تصنعان ورأسا وعينين تحررتا من أسر الانكفاء نحو الأرض وصارتا تطالعان السماء , ولولا أن فضلنا الله علي كثير من خلقه لما امتلكنا الزهو الذي ينكره عند بعض العلماء ويكتفي بتفاصيل كونه المرئية , ويطلب منه أن يكون مثلها خاضعا للقياس العلمي والاختبار المعملي حتي يثبت وجوده ! إن الكثير من العلماء يعزون الحياة للصدفة , بمصادفة كيميائية كهربية نشأت الخلية الحية الأولي . وهي أسطورة علمية عجيبة , وحتي إذا سلمنا بها , فهل التطور المعقد الدؤوب والمتصاعد من البسيط للمركب للأكثر تركيبا , ومن المخ الضئيل للأكبر فالأكبر , ومن الكائن وحيد الخلية , للرخويات , للزواحف , للطيور , للثدييات ( ثم الإنسان الذي هو قمة الخليقة , وإن كان لا يخضع لقانون التطور بل خلقه الله خلقا آخر ) هل هذا البناء المهيب المعجز , حيث اللبنات واحدة ( الخلية التي بدأ بها الخلق ) لكن يختلف ما يتركب منها ويتشابه حسب الأنواع , كل هذا إعجاز , وخلية الصدفة الأسطورية العلمية أيضا , بل حتي ذرة الرمل إعجاز . وأعظم الإعجاز عقل الإنسان , الذي يتحدي مولاه , أو يخشع ويخشاه , أو يتحير بين هذا وذاك , العقل الذي يتأمل نفسه , ويتأمل نفسه وهو يتأمل نفسه , ويكتب عن نفسه حين تتأمل نفسها وهي تتأمل نفسها : ثلاثة أمخاخ في واحد . وبعض هذه الأمخاخ تحب الألعاب الفلسفية . وبعض هذه الألعاب متصل بالرياضيات : مثلا , مسألة الصفر والواحد . يقول بعض المتفلسفين إن الصفر هو اللانهاية , لأن كل الأعداد والأرقام بطبيعتها محدودة , حتي ولو كانت مليارات المليارات , بينما هو غير محدود . لكني أقول إن الصفر ليس هو اللانهاية , بل اللا شيء , وإن اللا نهاية هي الواحد . وهذا يبدو غريبا ومتناقضا مع المنطق , بما أن الواحد هو أصغر الأعداد . لكننا إذا تأملنا الواحد نجد أنه اللاتعدد , إذن فهو اللا عدد , وهو الوجود في مقابل الصفر الذي هو العدم . والواحد لأنه مستقل عن أي تعددية هو كون كامل في نفسه ووجود بلا انتهاء , ما ظل واحدا بلا نقص أو اضافة . والأسماء الحسني في الاسلام تعضد هذه الفكرة حين تصف الله بأنه الواحد . وفي هذا الإطار , فإن الواحد أكبر من الاثنين ومن مليارات المليارات مضروبة في مليارات التريليونات , لأن كل هذه الأرقام مهما اتسعت محدودة , بينما الواحد المستقل بنفسه هو الوجود المطلق , وبه وصف خالقه نفسه . هذه بعض الألعاب الفلسفية التي يمارسها من يحبون التأمل مثلي . وهي , رغم وصفها بأنها ألعاب , تتناول مسائل جوهرية , وتثير قضايا وإن كانت أثيرت من قبل لم يتم البت فيها , ومازالت في مقام الحيرة , الذي لا تقوم بغيره فلسفة .