"لن تفهم شيئا من تاريخك..لن تفهم سر الحاضر..ما لم تفهم هذا الشاعر" هكذا يقول أدونيس في إحدى قصائده التي تقمص فيها روح المتنبي متوحدا معه وكأنه أراد أن يقول لنا إننا لن نفهم شيئا من تاريخنا، ولن نفهم حاضرنا ما لم نفهم هذا الشاعر الذي هو"أدونيس" نفسه. إنها دعوة يعوزها شيء من التواضع وإن لم يعُزها شيء من الواقعية،لان أدونيس هو الشاعر الذى يعتبر نفسه "متنبي" هذا العصر. وكما كان المتنبي لايعرف التواضع فإن أدونيس لابد أن يكون مثله، مخاصما التواضع غير مقر به ولكن لم يغب عن بالنا نحن أننا نتحدث مع شاعر يعيش عصره ويحمل همومه وقضاياه فوق كاهله. وحول هذه الهموم والقضايا كان حوارى معه حين حضر إلى القاهرة عام 96 من القرن الماضي وبمجرد أن جلست قبالته بادرته بالسؤال قائلا: أنت متهم بالدعوة إلى هدم التراث والترويج لأفكار يراها البعض هدامة، فما رأيك في ذلك؟ وهل دعوتك تتضمن ثورة "على" التراث أم ثورة "في" التراث وهل هي ثورة على اللغة أم ثورة في اللغة والعقل؟ بدت على أساريره علامات الارتياح بمجرد أن انتهيت من سؤالى فاعتدل فى جلسته وقال: نعم إن تعبيرك عما قصدته أنا هو ما كنت أحتاج إليه لوصف مانذرت نفسى له منذ سنوات أربعين، حين دعوت ومازلت أدعو إلى ثورة فى اللغة، وليس إلى ثورة على اللغة، فلغتنا العربية جميلة وشاعرية، كما أنها موحية، لكن لو تخلصت من كل مايشوبها من تقعير وجمود، وهو ما يسود كل كتابات التراثيين الذين يتحدثون عن الماضى، وبلغة تنتمى إلى ذلك العصر الغابر، أما نحن فيجب ألا يشغلنا سوى الحديث عن المستقبل، وكل ماهو متوقع الحدوث فيه، لذا وجب الحديث عنه بلغة مستقبلية، تتسم بالحيوية وتتحاشى التقعير والحذلقة، لغة حاضرة فلا يمكن التعبير عن المستقبل بلغة تنتمى إلى الماضى، إنني لا أدعو إلى ثورة على العقل العربى، بل إلى ثورة فى العقل وبالعقل، لإصلاح طريقتنا فى استعماله، إذا كانت لغتنا العربية لا تعجبك هكذا كان ردى عليه– لأنها لا تستجيب لاحتواء أفكارك كما تريد، فلماذا لا تكتب باللغة الفرنسية وأنت –كما أعلم –تقيم فى باريس منذ سنوات وتجيد الفرنسية بالتأكيد، سارع ادونيس قائلا بأن عدم كتابته باللغة الفرنسية هو خير دليل على حبه وحرصه وتمسكه بلغته العربية، ولو لم يكن غيورا عليها ومحبا لها لما دعا إلى تغييرها، وإصلاحها متحملا فى سبيل ذلك كل هذا العناء والمشقة، إلى حد اتهامه بالعمالة والخيانة من البعض، فما الذى يعنينى -كما قال- من أمر هذه اللغة مالم يكن لدى كل هذا الحب لها والحرص عليها وهنا تذكرت على الفور ما جاء فى كتابه "الكتاب"من أن تاريخنا العربى كله بما يحمله من تراث ليس فيه سوى القتل، والصلب، والسجن، والحروب والمؤامرات، فسألته:ألا يعنى ذلك أنك تتنكر لهذا التراث وتُدينه، وتدعونا إلى التخلص منه؟.. أتذكر- الآن- كيف بادرنى بابتسامة ساخرة ،وسألنى: أليس هذا هو تراثنا السياسى، وهل ذكرتُ غير الواقع؟..نعم لقد تحدثت فى هذا "الكتاب" عن الجانب المظلم من تاريخنا وتراثنا العربى، ولكنى لم أكتف بذلك فقط فتحدثت أيضا عن الجوانب المضيئة، مثل المتنبى وكثير من الشعراء الذين يمثلون الجانب المضىء من تراثنا..هل يستطيع أحد أن يتجاهل تلك الجوانب السلبية من تراثنا أو يدافع عنها؟ لقد تذكرت حوارى معه حول التراث العربى وما جاء فى كتابه "الكتاب" حين رأيت تجاهلا تاما- من الدارسين- لاسم أدونيس كواحد من أهم المفكرين العرب الذين طرقوا أبواب الاستنارة فى مجتمعنا العربى، فلم يفتح لهم أو لغيرهم! تذكرت أدونيس الثائر على كل شىء.. بادئا بنفسه.