كانت الرقية بالنسبة لي كطفلة هي مكان الانطلاق والتلقائية والمرح بعيدا عن المدينة المزدحمة التي يخشى الناس فيها بعضهم البعض إلا فيما ندر، لم نسمع هناك عن حوادث خطف الأطفال، ورغم حواديت الجنيات والعفاريت والديابة التي كان الكبار يقصونها لتخويفنا من الذهاب بعيدا عنهم كان وجود الأهل والأقارب ومعرفة الناس لبعضهم بالاسم والكنية حتى تاريخ الأجداد مبعث للأمان والطمأنينة، حتى بين العائلات التي تتورط في حوادث ثأر أو مشكلات مزمنة، وكان الزمن عادة كفيلا بمداواة الجراح، كانت التمشية على الزراعية في الليالي المقمرة بصحبة الأهل هي الفسحة المفضلة التي لا نشعر فيها بالخوف رغم ظلمة الطريق، وكانت المشكلات بين أبناء القرية تحل في دار العمدة بجلسة صلح تنتهي بقراءة الفاتحة لتصفية الأجواء، وكانت مشكلاتهم لا تتعدى خلافا على ري الأرض أو تأخر السماد من الجمعية أو الحصول على تقاوي الزرع، أما المشكلات الشخصية فكانت لا تتخطى مشكلة خلافات بين زوجين يتم جمع طرف من أهليهما لإتمام الصلح أو الاتفاق على الانفصال بمعروف وإحسان، أو مشكلة دين تأخر سداده. كانت الحياة هادئة في مجملها حتى في أصعب الظروف، ولكن يوما لم تتوقف الحياة في القرية، فما إن يأتي الصباح حتى يعود الهدوء للقرية ويعود الفلاحون للغيطان والطلبة للمدارس، وتبقى المشكلة لا تتخطى حدود جلسات السمر الليلية لينفس بها الفلاحون عن غضبهم أو خوفهم بالكلام، فرغم وجود بعض العصبية والتعصب في الفلاحين، إلا أنهم يحبون الحياة أكثر من حبهم للمشكلات، فمن اعتاد أن يزرع ويروي وينتظر بفارغ الصبر مواسم الحصاد، ليس من طبعه أن يفكر كثيرا في الانتقام إلا في لحظات الغضب القصوى. كانت مواسم الحصاد في القرية بمثابة الأعياد التي ينشط فيها كل الفلاحون لجمع المحصول، وكانت روح التعاون تسود بين الجميع، فمن يأت عليه دور الحصاد يقض أيامه في ترتيب شئونه من تأجير "الأنفار" الذين يساعدونه في الحصاد، فيقوم بتأجير البعض والتأكيد على بعض المقربين ممن جاملهم من قبل في حصادهم ليرسلوا له من عائلاتهم من يساعده، فكانت كل أسرة تقوم بمساعدة جيرانها أو أقاربها في الحصاد، ليردوا لهم المجاملة حين يحتاجها، فكان حصاد القمح موسم عمل تتحول فيه الجرارات الزراعية إلى مقطورات لتشغيل ماكينات "الدريس" التي تقوم بفصل القمح عن سنابله وتحويل "عيدان" القمح إلى تبن يستخدم في علف المواشي أو ضرب الطوب اللبن، وكانت عملية الدريس تتم عادة إما في الحقل حيث يتم تجميع القمح المحصود في تلال مجاورة لماكينة الدريس، أو في "جُرن القربة"، ويتم نقل التبن والقمح بعد الدريس في أجولة إلى منزل صاحب المحصول، وهناك يتم تخزين ما يحتاجه المنزل، ويعد للطحن للحصول على الدقيق وبيع ما يفيض عن حاجتهم لتدبير شئون المنزل، وكان حصاد الذرة يتم عادة بتقطيع أعواد الذرة في الحقل، وتحملها الجمال إلى منازل الفلاحين، حيث تقوم النساء والأطفال بفصل "كيزان الذرة" عن العيدان بعد جفافها، وتسمى عملية "تمليط الذرة"، وتنقل الكيزان إلى أسطح المنازل لتتعرض للشمس حتى تمام جفافها، ثم تقشر وتحمص في الأفران وتفريطها لتجهيزها للطحن للحصول على الدقيق اللازم لعمل الخبز والفطير والكعك، كان دقيق "الزيرو" مجرد زائر لا يستخدم إلا في بعض المواسم، وكان شراؤه يقتضي تدابير معينة لندرة وجوده واستخدامه في القرى. كان فلاحو القرية ينتجون عادة ما يكفيهم من غذاء، وما يفيض عنهم يبيعونه في السوق الأسبوعي، وبثمنه يشترون ما يريدونه من احتياجات تتمثل فيما لا يقدرون على زراعته أو صناعته، وكانت مواسم الحصاد تلك مرتبطة دائما بالأفراح حيث يستطيع الفلاحون تجهيز "شوار" بناتهم وتجهيز بيوت العرسان بالأجهزة، وإقامة الأفراح التي كانت لها هي الأخرى طقوس خاصة، ربما نحكي عنها في مرات قادمة.