الحكاية بدأت حينما لاحظت أن هناك بعض المصطلحات الغريبة التي تتردد بين العديد من الشباب بمختلف أعمارهم وطبقاتهم الاجتماعية ووظائفهم سواء في الشارع أو علي المقاهي والكافيهات أو حتي وسائل المواصلات العامة , فكثيرا ما كنت أسمع أحدهم يقول للآخر 'معاك نص ؟! ' فيرد عليه زميله 'أبيض ولا تفاحة ؟! ' , وبرغم أن هذه المصطلحات وغيرها كانت تتردد بين نماذج مختلفة من البشر .. إلا أن سماتهم وملامحهم وطريقة كلامهم كانت تقريبا واحدة. طرف الخيط كان سائس جراج حينما وجدته يقسم لي قائلا: والله لم أنم منذ 36 ساعة بسبب غياب زميلي الذي يتناوب معي الورديات في المكان, ولولا 'الفرداية' التي أتناولها يوميا لم أكن أستطيع أن أواصل العمل يوما واحدا .. وحينما سألته عن معني هذا المصطلح الذي ورد علي لسانه , فقال : ' فرداية ' تعني حباية واحدة من أي نوع برشام مخدر , وقد تعودت علي تعاطي ' الساحر الأبيض ' وهو المعروف في المستشفيات باسم الترامادول , فبرغم أني أعلم أضراره إلا أني أصبحت لا أستطيع العمل بل حتي الحياة دونه , فهو يزيد من نشاطي اليومي ويجعلني لا أشعر بعناء العمل والسهر والبقاء مستيقظا طوال الوقت حتي أصبحت لا أستطيع القيام من الفراش دون أن أتناول علي الأقل نصف قرص . ومن خلال أحد المعارف استطعت دخول أحد الدواليب - هومكان لبيع المخدرات بأنواعها المختلفة - بمنطقة المرج والتي يتردد عليها المتعاطون لتلبية حاجاتهم , وهو عبارة عن بيت صغير مكون من أربعة طوابق داخل إحدي الحواري الضيقة التي تصل بين شارعين متوازيين , وهو مملوك لفرد واحد يتولي إدارة الدولاب بنفسه , حيث إن عملية البيع تتم بواسطته وبمساعدة أربعة من الناضورجية يقف كل اثنين منهم علي قمة كل مدخل من المدخلين , بخلاف تجار التجزئة والذين يقومون بتوزيع المخدرات بوسائل مختلفة منها التوك توك ومراكز الشباب وكافيهات البلاي ستيشن والمقاهي والجراجات الخاصة , ولم ينطق التاجر بكلمة إلا بعدما أبرم مع الوسيط ' عهد شرف ' بألا أذكر اسمه أو أحدد مكانه تحديدا وأن أكتفي بذكر اسم المنطقة التي بها العديد من الدواليب الأخري , وقال : إذا أردت الحديث حول المخدرات الكيميائية فيجب أن تعلم أن الترامادول بأنواعه هو ملك كل أنواع العقاقير الموجودة حاليا , والحكاية بدأت مع نزوله إلي الصيدليات عام 96 فكان يتم تصنيعه في مصر من خلال شركات مصرية حكومية وكان مكتوبا في نشرته الطبية ' إن الترامادول هيدروكلوريك يتفاعل مع مستقبلات الأفيون بالمخ ويعطي الشعور بتخدير الأفيون الطبيعي , وليست له أي آثار جانبية ' ولكن بدأ بعض الصيادلة في اكتشاف تأثيره علي غير المرضي حيث لم يكن في ذلك التوقيت مدرجا في أي من جداول المخدرات , وفي عام 2000 بدأت الحكومة اكتشاف ما يحدث , حيث بدأ انتشاره بشكل محدود بعدما زاد عدد متعاطيه بعد كثرة الحديث عن قوة مفعوله كمخدر , فتم إدخاله جدول مخدرات ' ب ' وكانت عقوبة التجارة فيه هي 3 سنوات سجنا وتعاطيه 6 أشهر سجنا , ولكنه كان يصرف من الصيدليات عن طريق روشتات طبية , ولم يكن هذا مانعا حقيقيا لإيقاف تداوله .. بل العكس زاد انتشاره والطلب عليه , ومنذ عام 2005 حدث تحول آخر في طريقة التجارة فيه حيث قامت الحكومة بإدراج الترامادول داخل جدول ' أ ' فأصبح مثل الهيروين والكوكايين , أي أصبحت عقوبة التجارة فيه ما بين 15 سنة والسجن المؤبد وبالنسبة للتعاطي ما بين 6 أشهر و 3 سنوات , وتحول سعر بيعه دون روشتة من 9 جنيهات وستين قرشا إلي 30 جنيها , وفي وقت تعثر وجوده كان يصل سعر الشريط إلي 40 جنيها , خاصة بعدما تم منع بيعه في الصيدليات وتوافر في المستشفيات فقط , فحتي من كانت معه روشتة فعليه أن يذهب لصرفها من المستشفيات الحكومية , ولكن من جانب آخر كانت تباع نسبة ثلثي حصة بعض المستشفيات الخاصة إلي دواليب المخدرات , ولكن حدث تحول جذري بعد ذلك حينما ظهرت المخدرات الصينية والهندية , فقد علمت من صديق لي أن إسرائيل افتتحت مصنعين للترامادول أحدهما في الصين تحت اسم سيجناتين والآخر في الهند تحت اسم هامبورج جيرماني , والمصنعان مهمتهما إدخال كميات كبيرة إلي مصر وبدأ نشاطهما يتضاعف بعد الثورة فوصلت نسبة وجوده إلي 90% من الترامادول المتوافر حاليا في مصر , وهذا هو سبب انخفاض سعر الترامادول في الوقت الحالي لأنه كأي سلعة يتعرض إلي قانون العرض والطلب , ولكن هذا البرشام ' ملعوب ' في نسبة المادة الفعالة التي به والمواد الكيميائية المستخدمة في تصنيعه فاكتشفت أنه يزيد من نسبة الكهرباء في الجسم مما يؤدي إلي الدخول في حالات إغماء بل بعد فترة من التعاطي يسبب قرحة في المعدة وانقباض عضلات القلب والفشل الكلوي وفيروسا في الكبد , ولذلك لا أعمل في بيعه مطلقا خاصة بعدما أيقنت أنه نكسة مصر الحقيقية حيث إن الحرب القادمة بين مصر وإسرائيل لن تكون بالسلاح حيث سيمنعون ضخ الترامادول فلن يستطيع أحد التحرك من فراشه , ولذلك لا أبيع إلا المصري وربنا يغنينا بالحلال . وهنا اضطر أن يتوقف عن الحديث حيث جاء أحد الزبائن المهمين وهو ما استشعرته في أسلوب تعامل التاجر معه وحينما تمت عملية البيع وجدته يقول : الراجل ده من أهم الزبائن عندي , بيشتري ' بلاستيكة ' كل أسبوع أو 10 أيام , وحينما سألته عن معاني هذه المصطلحات فقال : ' البلاستيكة ' عبارة عن 10 أشرطة من البرشام وسعرها ما بين 130 و 140 جنيها وبها 10 برشامات , ولا يشتري بهذه الكمية إلا الزبون اللارج , أما الزبون العادي فقد يشتري ' بالفرداية ' وهو نظام البيع بطريقة ' الفرط ' ويتراوح سعر البرشامة ما بين 3 و 5 جنيهات , ومعني ذلك أن الشراء بنظام ' البلاستيكة ' يكون أرخص , وبما أن الترامادول أكثر الأنواع مبيعا فأصبح له أكثر من اسم حركي فالبعض يسميه ' باور ' وذلك لأنه يعطي طاقة وأغلب من يطلقون عليه ذلك من يستخدمونه قبل حفلات الرقص أو للبقاء مستيقظين نظرا لظروف عملهم , والبعض يطلقون عليه الساحر الأبيض وهؤلاء من يستخدمونه في علاقاتهم الزوجية , أما الشباب ' الفرافير ' فيطلقون عليه ' تيمو ' وهم بذلك يدلعونه , والبعض يطلقون عليه ' تفاحة ' وهذا يطلق فقط علي النوعية ذات اللون الأحمر والتي يكون مرسوما عليه شكل التفاحة , وهو أقوي أنواع الترامادول تأثيرا من حيث التخدير , حيث إن هناك عدة ألوان من الأقل إلي الأقوي تأثيرا و يكون ترتيبها الأخضر ثم الأبيض ثم الأحمر , حيث تتراوح الجرعة ما بين 100 و 200 و 225 ملليجراما في القرص الواحد , ويأتي بعد الترامادول مشتقاته مثل التامول والتامول إس والترادول وترمودين , و يأتي بعد ذلك ' الزبادي ' وهو الاسم الحركي للأبترل وهو من فصيلة أخري يندرج تحتها الأموترل وهذه النوعية منتشرة بين المسجلين ومعتادي الدخول إلي السجون والأقسام , وذلك يرجع سببه إلي أن هذه النوعية من البرشام معروف عنها أنها جالبة للمشاكل , فيأخذه من يدخل إلي القسم لأنه يجعله لا يشعر بالضرب الذي يتعرض له بالداخل , وكأن جسمه شيء منفصل عنه , أما الآخرون فيستخدمونه قبل الدخول في الخناقات لنفس السبب ولأنه أيضا يسبب ثقلا في اللسان واعوجاجا في الفم مما يضفي علي من أمامه رهبة لمجرد علمه بأنه يتعامل مع شخصية ذات طابع خاص , حيث إن هذه النوعية من العقاقير يتم استخدامها مع مرضي الصرع وأصحاب الأمراض العصبية , ولكن حينما يستخدمها شخص عادي فتأتي معه بنتيجة عكسية , بخلاف أنه يبدأ يتخيل أشياء لا تحدث في الواقع فيري مثلا أخته وهناك شخص يمشي وراءها لمعاكستها فيذهب لمشاجرته , كما أن للتامول استخدامات أخري , حيث يتم طحنه ومزجه بالفلورست ويتم ' شده ' عن طريق الأنف , ويلجأ لهذه الطريقة نوعان من المتعاطين الأول هو مدمن الهيروين والذي لم يعد قادرا علي ثمنه فبدلا من إنفاقه 200 جنيه ثمنا للبودرة أصبح ينفق 40 جنيها فقط ثمنا للشريط , وأصبحوا بعد الثورة 25 جنيها فقط بسبب انتشاره , والثاني هو من يريد الاقلاع عن ادمان الهيروين وفي كلتا الحالتين لا يخرج المتعاطي من دائرة الإدمان لأن الإقلاع عن البرشام يسبب الغثيان ووجعا شديدا في العظام وتعبا في الأعصاب وزيادة نسبة الكهرباء في المخ ولا تنتهي كل هذه الأعراض حتي يأخذ المتعاطي الجرعة ولذلك من يرد الإقلاع عنه لا يستطع , وبالنسبة لأبو صليبة فقد انتهي عصره منذ زمن طويل ولم يعد موجودا حتي في سوق البرشام . وفي أثناء تواجدي بالمكان رأيت أنماطا مختلفة من البشر وأعمارا تبدأ من 15 سنة إلي 45 سنة يتوافدون علي المكان للحصول علي غايتهم , وحينما طلبت من التجار الحديث مع أحدهم وافق بعد تردد منه وإلحاح مني , وهنا تحدثت إلي حمادة كما ينادونه وهو شاب في العشرينيات من عمره وما علمته منه أنه عاطل حاليا , قال : بدأت أتعاطي الترامادول حينما عرفني عليه أحد أصدقائي بالجامعة , وكان الهدف وقتها هو تجربة مفعوله حيث إني في الأساس أتعاطي مخدر الحشيش , وفي أول مرة أخذت نصف قرص وبعد تناول كوب من الشاي وأشعلت سيجارة لتشغيل المخدر بدأت أشعر بمفعولها حيث وجدت نفسي في حالة ' تسقيط ' وهو شعور يشبه غفوات النوم وهي أقصي نشوة يصل إليها متعاطي الترامادول , ولكني امتنعت عن تناوله لأني لا أحب أن أفقد الوعي بما يدور حولي , ولكني ظللت متذكرا أنني لم أنم لمدة يومين , وأيام الامتحانات كالعادة لم أكن أبدا في المذاكرة إلا في الأيام القليلة التي تسبق كل امتحان , وبما أن المناهج كبيرة وتحتاج إلي وقت فوجدت نفسي أذهب تلقائيا إلي البرشام لكي أظل مستيقظا وهو ما تم بالفعل , ولكني بعد أن امتنعت عن التعاطي بعد انتهاء الامتحانات , وجدت نفسي لا أقوي علي الحركة , ولدي شعور دائم بالإجهاد والصداع بل رعشة في يدي , وحينما سألت عن سبب حدوث ذلك علمت أنه تأثير عدم تعاطي الجرعة التي اعتدت عليها حيث إن إدمانها يأتي بعد التعاطي لمدة 3 أيام متصلة فوقتها لن يمر اليوم الرابع دون أخذ الجرعة التي زادت مع الوقت فبعد أن كنت أتناول نصف قرص في اليوم أصبح قرصا كاملا ثم قرصين حتي وصلت جرعتي إلي أربعة أقراص حيث إن الجرعة الثابتة بعد 10 أيام لا يكون لها تأثير فأصبحت أزيد ربع قرص في كل مرة , وهناك من أصدقائي من أصبحت جرعتهم شريطا كاملا حيث يبدأون يومهم بخمسة أقراص قبل النهوض من الفراش حيث يتركون الشريط تحت الوسادة , وطوال اليوم يتناولون باقي جرعتهم , وأصبحت أراعي عدم زيادة الجرعة قدر استطاعتي بعد أن علمت بخبر وفاة أحد أبناء منطقتي اثر تناول جرعة زائدة .. حيث دخل في تحد مع أحد أصدقائه علي تناول شريطين لكن لم يتسن له الاحتفال بفوزه بالرهان حيث سقط ومات وهو بالمستشفي , ووقتها حاولت الإقلاع جديا وقلت لشقيقي الأكبر الذي شرح الموضوع لوالدتي بهدوء ووضح لها رغبتي في الإقلاع عن التعاطي وأدخلوني مصحة حكومية للعلاج وبعد فترة طويلة من المقاومة اكتشفت أن عاملات النظافة يبعن الترامادول داخل المصحة فكانت البرشامة الواحدة تباع ب 50 جنيها وفي أحيان أخري تصل إلي 60 جنيها وهؤلاء يفرضن قانون ' الدفع قبل الرفع ' أي دفع ثمن البرشام قبل تعاطيه , وكنت أحصل علي النقود أثناء الزيارات بحجة أني أريد شراء السجائر , وبعد فترة اكتشفت أن اللي يدخل سكة البرشام مبيخرجش منها , ولذلك هربت من المصحة وأصبحت متعايشا مع الترامادول برغم معرفتي بخطورته .