للمرة الثانية.. محافظ الدقهلية يقرر تخفيض درجات القبول بالثانوي العام    بالصور.. وزير العدل يتفقد أعمال تطوير مبنى محكمة دمنهور الابتدائية بالبحيرة    جامعة حلوان تعلن ضوابط وأوراق قبول ذوي الاحتياجات 2025/2026    صور.. إزالة عقار مخالف على مساحة 1000 متر بعين شمس    كامل الوزير لمصنعي الأسمنت: خفضوا الأسعار وخففوا الأعباء على الناس    التأمين الصحي الشامل يشارك في قمة "تيكاد 9" باليابان    ترتيبات لاجتماع بين بوتين وزيلينسكي.. وضمانات أمنية لأوكرانيا    لحظة بلحظة بعد قليل.. النصر 1 - 1 الاتحاد.. رونالدو أمام بنزيما    سكاي: تمت.. موهبة مانشستر سيتي إلى ليفركوزن    فيديو صادم | نجار يعتدي على مسنة ويهددها بعصا خشبية.. والداخلية تكشف التفاصيل    صور.. النقل تحذر من هذه السلوكيات في المترو والقطار الخفيف LRT    بطلة مسلسل "أحلام أبو الهنا".. وفاة الفنانة إيمان الغوري عن عمر 58 عامًا    من هم أبعد الناس عن ربنا؟.. أستاذ بالأزهر يجيب    بعد جولة مفاجئة.. محافظ الدقهلية يحيل مسؤولين بمستشفى نبروه للتحقيق    العاهل الأردني يشدد على ضرورة الوقف الفوري لإطلاق النار في قطاع غزة    موعد حفل توزيع جوائز الأفضل في إنجلترا.. محمد صلاح يتصدر السباق    التربية المدنية ودورها في تنمية الوعي والمسؤولية في ندوة بمجمع إعلام القليوبية    إجازة المولد النبوي الأقرب.. العطلات الرسمية المتبقية في 2025    إيزاك يرفض عرضًا جديدًا من نيوكاسل لتمديد عقده    التعليم العالى: "بحوث الفلزات" يعلن افتتاح أول وحدة صناعية للمغناطيس    محافظ المنوفية يتفقد تطوير كورنيش وممشى شبين الكوم للارتقاء بالمظهر العام    استقرار الحالة الصحية لزوج لاعبة الجودو دينا علاء داخل العناية المركزة    جهود «أمن المنافذ» في مواجهة جرائم التهريب ومخالفات الإجراءات الجمركية    مواصلة جهود أجهزة وزارة الداخلية لمكافحة جرائم استغلال الأحداث    660 مليون جنيه تكلفة تأثيث 332 مجمع خدمات حكومية بالمحافظات    فى أجواء فنية ساحرة.. "صوت مصر" يعيد أم كلثوم إلى واجهة المشهد الثقافى    فيلم "فلسطين 36" ل آن مارى جاسر يمثل فلسطين بجوائز الأوسكار عام 2026    مهرجان الإسكندرية للفيلم القصير يبدأ استقبال الأفلام للمشاركة فى الدورة 12    استعدادًا للعام الجديد.. 7 توجيهات عاجلة لقيادات التربية والتعليم بالدقهلية    مدير أوقاف الإسكندرية يترأس لجان اختبارات القبول بمركز إعداد المحفظين    داعية إسلامية عن التعدد: «انتبهوا للخطوة دي قبل ما تقدموا عليها»    «الغول على أبوابنا».. ماكرون يوجه انتقادات لبوتين (تفاصيل)    مدير «الرعاية الصحية» ببورسعيد: «صحتك أولًا» لتوعية المواطنين بأهمية الأدوية البديلة    فنان شهير يفجر مفاجأة عن السبب الرئيسي وراء وفاة تيمور تيمور    رحيل الدكتور يحيى عزمي أستاذ معهد السينما.. وأشرف زكي ينعاه    «ڤاليو» تنجح في إتمام الإصدار السابع عشر لسندات توريق بقيمة 460.7 مليون جنيه    طبيب الأهلي يكشف حالة إمام عاشور ومروان عطية قبل مواجهة المحلة    رئيس الرعاية الصحية: بدء تشغيل عيادة العلاج الطبيعي للأطفال بمركز طب أسرة العوامية بالأقصر    جولة تفتيشية للوقوف على انتظام حركة التشغيل في مطاري الغردقة ومرسى علم    واعظة بالأزهر: الحسد يأكل الحسنات مثل النار    ارتفاع جماعي لمؤشرات البورصة بمستهل تعاملات اليوم    وزيرة التخطيط والتعاون تتحدث عن تطورات الاقتصاد المصري في مؤتمر طوكيو الدولي للتنمية    وزارة النقل تناشد المواطنين التوعية للحفاظ على مترو الانفاق والقطار الكهربائي    "قصص متفوتكش".. 3 معلومات عن اتفاق رونالدو وجورجينا.. وإمام عاشور يظهر مع نجله    53 مليون خدمة.. ماذا قدمت حملة "100 يوم صحة" خلال 34 يومًا؟    الداخلية تؤسس مركز نموذجي للأحوال المدنية فى «ميفيدا» بالقاهرة الجديدة    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الثلاثاء 19-8-2025 في محافظة قنا    رئيس الوزراء يلتقى وزير الدولة للاقتصاد والتجارة والصناعة الياباني    الأمم المتحدة ومنظمات غير حكومية: تكثيف الهجوم على غزة سيؤدى لأثر إنسانى مروع    بعد إلغاء تأشيرات دبلوماسييها.. أستراليا: حكومة نتنياهو تعزل إسرائيل    إيمي طلعت زكريا: أحمد فهمي سدد ضرائب والدي بعد وفاته    أبرزها 10 أطنان مخلل.. ضبط أغذية منتهية الصلاحية ومجهولة المصدر ببني سويف    رابط نتيجة تقليل الاغتراب 2025 بعد انتهاء تسجيل رغبات طلاب الثانوية العامة 2025 للمرحلتين الأولي والثانية    «عارف حسام حسن بيفكر في إيه».. عصام الحضري يكشف اسم حارس منتخب مصر بأمم أفريقيا    "الجبهة الوطنية بالفيوم" ينظم حوارًا مجتمعيًا حول تعديلات قانون ذوي الإعاقة    وقت مناسب لترتيب الأولويات.. حظ برج الدلو اليوم 19 أغسطس    عماد النحاس يكشف موقف لاعبي الأهلي المصابين من المشاركة في المباريات المقبلة    حقيقة إصابة أشرف داري في مران الأهلي وموقف ياسين مرعي من مباراة غزل المحلة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رسائل من امرأة مختفية: الرواية أداة لتمرير الأفكار والدفاع عن القيم
نشر في أخبار السيارات يوم 01 - 06 - 2019

في روايته »رسائل من امرأة مختفية»‬،الصادرة حديثا (2019) عن دار الفنك،يشيدُ محمد برادة عالما متخيلا يَنتهِلُ عناصره ومكوناته من التوغل ُفي التاريخ الرّاهن، وتحديدا سنوات الستينات التي اشتد فيها الصراع بين »‬المخزن» والقوي السياسية المتطلعة إلي القطع مع الماضي والبناء من جديد، من خلال شخصيات شبابية مبدعة تجسّد بأفكارها وأحلامها وطموحها إلي الاكتمال عبر اختبار الحب اختبارا شخصيا فريدا، ذلك المناخ »‬الثوري» الذي غمر المغرب مع حكومة عبد الله إبراهيم.هذه الشخصيات الممتلئة بالعالم، والكاشفة عن انشغالات ثقافية وسياسية واجتماعية عميقة، لا تنهضُ فقط بتكثيف تطلعات تلك المرحلة إلي التغيير الجذري الذي يَضعُ البلاد علي سكة الحداثة والديمقراطية، وإن كان الحلم بأن الاستقلال سيحقق الحرية والتغيير قد غدا مجرد وهم، وإنما تُمثلُ أيضا رسالة للأجيال المعاصرة، في سياق تطبعه تحولات متسارعة تكرّس الهيمنة علي السياسة، وتَعصفُ بما ناضلت من أجله الجماهير المتعطشة إلي الحرية والانعتاق.
لا تتكونُ الروايةُ من فصول محددة علي النحو الذي نجدهُ في عدد من الروايات، بل تتشكلُ من محطات يختلف ُفضاؤها النصي باختلافِ الشخصيات التي تَنهضُ فيها بالسرد، والوقائع التي يتمُّ سردها أو النصوص المضمّنة (الرسائل). وعلي هذا الأساس، تُشكلُ الروايةُ مجموعة من المشاهدِ السرديةِ التي يَتحكمُ فيها عنصر التجاور. في مستهلّ الرواية يَتحدثُ »‬الكاتبُ الضمني» ويمكنُ وصفه بالراوي المشكّل، عن ظروف إنجاز الرواية مشددا علي أن الأمر يتمحورُ حول رسائل من جاذبية عبد العزيز التي يرغبُ الخبير الاقتصادي هيمان السبتي في استعادة التجربة التي عاشها معها عقبَ استقلالِ المغرب وإلي نهاية الثمانينات، لأنها تجربة تكتسبُ راهنيتها من حيث إنها مفيدة لفهم ما يعيشهُ المغرب ُفي الحاضر. وعليه،يشارك في كتابة الرواية كل من هيمان السبتي العارف بتفاصيل الحكاية، والحائز للوثائق التي تؤكدُ واقعيتها، والكاتب الضمني أو الذات الثانية لبرادة.هكذا يوفرُ هيمان للراوي الضمني مادة شفوية ومكتوبة شديدة الغني تتيحُ له كتابة سيرة بيوغرافية له ولجاذبية. ومن خلال هذا السرد الاستعادي نلمسُ عند محمد برادة في هذا النص، وفي أعماله الروائية السابقة، ذلك المفهوم المميز عن الرواية بوصفها فن التذكر.
هذه التقنية المتولّدة من حساسية روائية جديدة تمثلُ تمرّدا علي الدور التقليدي للسارد الذي يكتفي فيه بسرد ما حدث، وبحثا عن منفذ يُتيحُ له المشاركة في تصميمِ العالم وتشييده.وعليه،فالتموضعُ قريبا من عالم الرواية يُتيحُ للكاتب الاندساس بين الشخصيات، وفي العالم الذي تتحرك فيه لدعم وتعزيز القيم التي يتطلّع النص إلي إظهارها: قيم الحرية،والحلم، والبحث عن المستحيل في مقابل الضرورة، والقيم المضادة الماسكة بخناق الفرد والمجتمع. وبهذا المعني يَكونُ عنوان هذه الرواية »‬رسائل من امرأة مختفية» دالا ليس علي الاختفاء المادي لجاذبية وحسب، وإنما أيضا علي اختفاء وتبدّد القيم التي كانت تدافعُ عنها باسم كل النساء، وتُناضلُ، عبر الكتابة والأدب، من أجل غرسها وترسيخِهَا في مغرب ما بعد الاستقلال المشدود إلي الماضي، والتقاليد القديمة.
في السّرد الذي يضطلعُ هيمان السبتي بإنجازه بضمير المتكلم عن علاقته بجاذبية، والظروف التي أحاطت بالمغربِ خلال سنوات الستينيات، وبعد مرور عقود علي اختفائها،تَبرزُ شخصية جاذبية عبد العزيز الشابة العشرينية المتشبعة بالحرّياتية والمتطلعة إلي اختبار الحدود القصوي في البحث عن كينونتها رغم التقاليد والممنوعات التي تعيقُ مغرب تلك المرحلة. الاعتدادُ بالنفس، والمواظبةُ علي القراءة، والتطلعُ إلي أن تكون كاتبة، والإيمانُ بأهمية الانتماء إلي اللحظة الانتقالية التي يعيشها المغرب، خاصة فيما يتعلق بالإسهامِ في بلورة الوعي الجديد، ووصفِ التبدّلات التي تُطاولُ القيم والسلوكات، هي الأهداف الكبري التي ندرت لها جاذبية مسيرتها الحياتية رغم فشلها في الزواج ثلاث مرات: من ابن خالتها الفدائي الذي نجا من الإعدام لصغر سنه، وآثر أن يعيش المنفي بعد أن »‬أصبح متابعا من عيون السلطة بسبب ماضيه في المقاومة» وقد كتبت عن هذه التجربة القاسية روايتين قرّرت عدم نشرهما بسبب التقاليد الذكورية التي تمنعُ المرأة من التعبير عن مكنوناتها، ثم من مهندس معماري تعرّفت عليه في إحدي المناسبات، وقد شدّها إليه احترامه المرأة ومراعاته لمشاعرها. وهذا مقياس أساس في اختيار جاذبية لزوجها. والتجربة الثالثة مع كاتب يَنحدرُ من قبيلة أولاد حريز يدعي حميد زيدان، وكان يَترددُ علي مستشفي الأمراض العقلية بسلا، ويتطلعُ إلي إكمال رواية بعنوان: »‬قرية الحيران».
هذه العناصر السيرذاتية لا يتعرّف عليها القارئ فقط من خلال منظور هيمان، وإنما أيضا من خلال المحكي الذي تنجزه جاذبية أثناء اللقاء الذي جمعها بهيمان قارئها المتيقظ بمطعم الصخرة بالدار البيضاء مطلع الستينات. هاتان الشخصيتان يأتي حديثهما بضمير المتكلم، وبشكل مباشر، بالإضافة إلي نجاة وزيدان وهاديا، ما يعني أن من عاش الحدث هو نفسه من يرويه، وهذا ما يعطي للرواية نبرة أكثر إقناعا. وعلي هذا الأساسفالتقنيات الأسلوبيةالتي تقومُ عليها كتابة الذات،تعنيأن رواية »‬رسائل من امرأة مختفية» إذ تنفتحُ علي مقتضيات السيرة الذاتية، وتستعيرُ بعض مستلزماتها مثل التركيز علي الحياة الفردية للشخصية الروائية وتاريخها، فلكي تضطلعَ بتعميق الرؤية الذاتية وإبرازها، ووصل القارئ بهمسات الشخصية الروائية وسط ذلك المناخ الهارب الذي يحفّزها علي الإقبال علي الحياة، وعيشها برغبة وحلم.
في الرواية يبدو هيمان متابعا جيدا لما تكتبه جاذبية في مجلة »‬هنا الآن» من مقالات تنبش ما هو تحت القشرة السميكة للمجتمع، لهذا قرّر التعرّف إليها، لتنتسج بينهما علاقة عشق يتداخل فيها الحبّ والجسدُ بالرغبة في التحقّقِ وارتيادِ المجهولات، وتنتهي باختفاء جاذبية بعد انجلاء وهم التحرّر بعد الاستقلال، وإحساسها بصعوبة العيش داخل قوقعة »‬المخزن» الكابسة علي الأجساد والأرواح والرغبات، وقرار هيمان البحث عنها بعد تجربة الزواج الفاشلة من د. نعمت الصرداوي مديرة شركة أدوية، وتنتمي إلي تلك الطبقة النافذة من المجتمع التي تزاوج بين المال والسلطة لفرض هيمنتها وسطوتها علي الطبقات المحرومة. بعد ثلاث سنوات علي هذا الزواج،يَستشعرُ الخبير الاقتصادي هيمان فداحة التنكر لمواقفه وقناعاته السابقة، ويستبدّ به الشوق من جديد إلي جاذبية التي كان يجدُ معها من تشاطره التحليل، وتتقاسم معه القلق مما آل إليه المجتمع.هكذا يتشكلُ هيمان وجاذبية في هويتيهما من خلال استغراقهما في سرد الأحداث والوقائع والتجارب التي عاشاها، وتُمثل ُتاريخيهما الفعلي.
إذا كانت أحداث الرواية تَعودُ إلي مغرب مطلع الستينيات، فإنّ السرد يتم في أواخر التسعينيات من شقة هيمان السبتي بحي حسّان بالرباط حيث يستعيدُ الأجواء التي انغمرَ فيها مع جاذبية متأثرا بفداحة التحولات التي يَمورُ بها المغرب المعاصر، وبالحاجة الملحة إلي مثقفين وكتاب من طراز هذه المرأة المغربية المختلفة التي كانت مقالاتها تُزحزحُ المألوف، وتستنطقُ الأشياء التي تبدو عادية. وإذا كانت محكيات هيمان تضعنا في قلب الأحداث والصراعات والتوترات التي طبعت المغرب خلال منتصف الستينات، واتساع الفجوة بين القصر والجماهير الشعبية الباحثة عن أفق جديد، فإن الرسائل المتبادلة مع جاذبية تعزز البعد الواقعي، وتقرّبنا مما هو حميمي بين الفرد وذاته. وهذه الرؤية الذاتية إلي العالم والأشياء والأمكنة،تعدّ من السّمات التي تتميزُ بها الشخصيات الروائية عند محمد برادة،إذ يتعذّر علي القارئ فهم مواقفها وسلوكاتها إذا لم يصل ذلك بعوالم اللاشعور الخفية.
لنقل إن اختيار هذه الشخصيات الشابّة من مغرب ما بعد الاستقلال، يعكسُ الرّغبة القوية عند محمد برادة في الكشفِ عن كثافة الظل الذي يغشي هذه المرحلة المعاصرة، والإسهامِ في بث شعاع من ضوء في قلب مجتمع أضحي في منظور أفراده لغزيا ومتاهيا. ولا شك أن المرأة تُمثلُ بجرأتها، قياسا إلي الرجل، أهم عنصر يُسهمُ في الكشفِ عن التناقضات، وتعرية ضروب الزيف التي تخنق أنفاس المجتمع. وأعتقد أن القارئ الذي احتك بنصوص محمد برادة منذ روايته الأولي »‬لعبة النسيان» مرورا بنصوصه التالية »‬الضوء الهارب»، و»‬امرأة النسيان»، و»‬حيوات متجاورة»، و»‬قريبا من الضوضاء بعيدا من السكات» و»‬موت مختلف»، سوف يدركُ أسرار هذا الاهتمام الذي يوليه الروائي للمرأة، ولحضورها المؤثر في المجتمع. ويكفيها هنا أن نلحظ أن جاذبية تلتقي علي مستوي الوعي بقيمة الحرية والتمرد علي التقاليد البالية المحاصرة، بفاطمة ابنة غيلانة بطلة رواية »‬الضوء الهارب».كلاهما تصرّ علي الحرية، والجسارة، والمثابرة علي توسيع الهامش المتاح لكسر الطقوس البالية، والحدودِ الخانقة للأنفاسِ والرغبات رغم الاختلاف بينهما. ونحسب أن محمد برادة وهو ينمي لدي الشخصيات الوعي بما يعيقُ تطلعاتها، ويقوضُ أحلامها، إنما يشددُ علي أحد الأدوار الأساسية التي تنهضُ بها الرواية، بخلاف مؤسسات المجتمع المعنية بالأخلاق، وهي تحرير الغرائز بدل كبتها. وهذا ما يجعلُ منها (الرواية) بيئة ثقافية ملائمة للإنسان في هذا الزمن الراهن الذي تخترقه تحولات متسارعة وضبابية،تحجبُ الرؤية وتعطلُ إمكانياته علي السبر والفهم. ومن المؤكد أن الروائي، داخل هذه الدوامة، يدرك أنه، قياسا إلي الآخرين، الأقدر علي فكّ الشفرات، والغور في الدهاليز العميقة، وتعرية الأقنعة كشفا عن الأعماق والسطوح.
لا شك في أن شكل الرواية يلتحمُ بقوة بمضمونها، ومن ثم فهو عنصر أساس في فهمها وإدراك أبعادها ودلالاتها. وكأي رواية جديدة يتطلعُ كاتبها إلي الإسهام في الفورة الروائية، فإن إنجاز هذا الفعل لا يكتملُ إلا من خلال الشكل الفني الذي يبرزُ تضاريس الرواية والقيم التي تستبطنها محكياتها مما يسهمُ في تغييرِ الرؤية، وفتحِ المنافذ إلي مسارات جديدة لفهم الذات والعالم. ومحمد برادة باعتباره ناقدا روائيا وكاتبا، نجده دائما يؤكدُ علي القيمة التي يكتسيها الشكل الروائي، لا باعتباره مجموعة من التقنيات التي يَتعينُ علي الكاتب أن يتحكم فيها، وإنما بوصفه الصياغة التي نَلمسُ انطلاقا منها روح الكاتب في النص، لذلك فشكلُالرواية منغرسٌ في البنية الاجتماعية، ومشدودُ إلي المغامرة التي تنهضُ عليها الرواية. وإذا كان العملُ علي الشكل الفني للرواية هو فعل جمالي وثقافي في جوهره، لأنه مرتبط بثقافة الروائي، وبزاده الجمالي، أي بمدي اطلاعه علي ما يَتحققُ في بيئة الرواية العالمية من نصوص جيدة توسّع مفهومنا عن المتخيل، وقدرته علي تشييد عوالم ممكنة، فإن قيمته تكمنُ في بلورة أفكار تؤثر في المجتمع والسياسة وعلاقات الأفراد، كلما كانت الرواية أقدر علي البوح، والكشف، والتعرية، واحتضان الشيء ونقيضه. وهذا ما تلتقي حوله النصوص الروائية الجيدة التي كلما حاورها القارئ، عثر فيها علي ما يغني رؤيته، ويوسّع فهمه للذات والعالم، لأن الشكل الفني فيها قوامه الانتهاك لما هو راسخ، سواء علي مستوي الجنس الأدبي أو علي مستوي علاقة الفرد بالعالم، ما يعني أن قيمة الرواية وجدواها تتصل ُبالممكن، أي بالعوالم الممكنة التخييلية التي كلمانأت عن العالم المدرك،ازدادت قدرة علي توليد التأويلات المتعددة، وبلورة المعرفة التي تلتصقُ بما يشغلُ بال الناس علي امتداد العصور.
من هذه الزاوية يبدوأن رواية »‬رسائل من امرأة مختفية» تمثلُ تجربة جديدة في المنجز الروائي لبرادة. فالشكل الفني فيها يَنهضُ بوظائف شديدة الفعالية في حفز القارئ علي توليد الأسئلة، والتفكير في الافتراضات الملائمة لفهم الكتابة، والتقاط دلالات رموزها وإشاراتها. ولا تَرتدُّ هذه الوظائف إلي اللغة باعتبارها المادة الأولي التي لا نلج الرواية إلا من بابها، حيث الخاصية الشعرية، وموسيقي الكلمة، وقدرتها علي إثارة مخيلة القارئ بعيدا عن التلذذِ الهوسي باللغة، بل تتعدي ذلك إلي البنية متعددة الأصوات. فالشخصيات التي تتحرك في عالم الرواية، ونظراتها للإنسان والعالم تضفي،من خلال ملفوظاتها،علي السرد تنوعا مدهشا. وما نلاحظه هو ذلك التناغم بين مواقف الشخصيات ورؤياتها للعالم وما تستشعره من ضروبِ الاغترابِ واللّاانتماء، والمرجعيات التي انتهلت منها، والتي تضمنت أعمال كبار الكتاب والمبدعين العرب والعالميين الذين ألهبوا بأفكارهم شعور جاذبية ونجاة أختها وهيمان وهاديا وزيدان، وأوحوا إليهم برغبات مماثلة في فضح الأقنعة والهشاشة التي تنطوي عليها التقاليد والممارسات البالية التي تخيّم علي الحياة، وتعكر صفو جمالها. ويُضافُ إلي هذا تنويع ضمائر السرد، والمراوحة بين المرجعي والتخييلي، وتضمين خطاب الرسالة، خاصة رسائل جاذبية التي تضفي لغتها علي وجودها مسحة من العمق والاندفاع الذي يتعذر سبره أو محاصرته. فالرسائل تنهضُ بالكشف عن ذلك الوهم الجميل الذي يشدّ جاذبية إلي الحياة، ويخلصها من تيار عقل يفسد عليها هذا الحلم. ومن ثم فالرسالة، مثل الكتابة، تمثل لقاء أساسيا، وبحثا قاسيا عن ذلك المماثل الذي تحلم جاذبية بأن تجعل منه المؤتمن عن جراحها وأحلامها. هكذا لا تَعملُ الرسالة فقط علي تعقيد بناء الرواية، وإنما تَضطلعُ أيضا بخلخلة المعايير التي درج عليها القارئ في تلقي النصوص وتأويلها. إنها تُعيّنُ الكتابة بوصفها ذلك الفعل العلاجي الذي يسند الشخصيات في بحثها اللاهث عن الحقيقة، واندفاعها نحو ذلك المجهول الذي يشعرها بالوجود والتحقق. ومن المؤكد أن مفهوم محمد برادة عن الكتابة المستظل بفهم حداثي للرواية، هو المسئول عن حرصه علي تفاصيل البناء السردي، ابتداء من الشخصيات وانتهاء بعتبات الرواية، والتي تشكل مكونا سرديا موازيا دالا علي رؤية برادة التي تتسم بالعمق والجذرية والشمولية.
يَجبُ أن نسجل لمحمد برادة في ختام هذه القراءة أنه من رواية لأخري يَحرصُ علي ارتياد أفق جديد يضفي علي الكتابة سمات التميز والاختلاف. فإذا كانت أعماله الروائية السابقة، علي مستوي الأحداث والوقائع المتصلة بالتاريخ الراهن، تلتقي بالعديد من التجارب الروائية لكتاب مغاربة انتهلوا من معين الواقع الاجتماعي والسياسي، فإن هذه الأحداث والتجارب تأخذ في رواياته أبعادا متميزة، بفعل تصوره المختلف للشكل الفني، وحرصه المتواصل علي تنويع طرائق الصوغ والتشكيل، واحتضان المغامرة الكاشفة عن لغزية العالم، وحيرة الإنسان فيه. وهذا ما يتيح للرواية من خلال تلك اللحظة التي تتجمع فيها كامل حياة الشخصيات ومعناها وجوهرها، أن تتوغل في المناطق الداجية للذات والعالم. وفي رواية »‬رسائل من امرأة مختفية» تتعددُ العناصر الفنية والجمالية التي توسّع ممكناتها التخييلية، أما العناصر الواقعية التي ينفتحُ عليها السرد فتنهضُ بتجذير الرواية في البنية الاجتماعية والسياسية للمغرب المعاصر. فالإشارات المكثفة إلي فضاءات بعينها كمطعم الصخرة والحي المحمدي بالدار البيضاء،وحي حسان بالرباط، كما أن الإحالة إلي ما عرفه المغرب من أحداث بعد الاستقلال، وتجربة حكومة عبد الله إبراهيم المجهضة والتي لم تدم أكثر من سنتين، ومظاهرات 1965، وسنوات الرصاص، وغيرها من الأحداث المرتبطة بالتاريخ الراهن، وبالذاكرة السياسية والثقافية، كل ذلك يجعلُ من هذه الرواية ليس فقط تمثيلا لما عاشه المغرب بعد الاستقلال، وإنما نافذة مشرعة علي الحاضر، وما يشهده من تحولات.ومن المؤكد أن هذه الإحالة إلي ما هو مرجعي لا تتم بشكل مباشر، وإنما من خلال الشكل الفني الذي يستمدّ ألقه من اللغة، والتخييل، وتنويع السرد، وتعدد الأصوات، لإنتاج عالم مغاير يكتسبُ قيمته من رموزه وإشاراته.وهذا مايؤكد المفهوم عن الرواية بوصفها جنسا أدبيا يلتقطُ التوتر بين الفرد والمؤسسات الاجتماعية،كما يحتضنُ ما هو حميم بين الفرد ونفسه بشكل مغاير لما هو سائد في الخطابات الأخري.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.