أن تظل في وظيفة يهينك فيها صاحب العمل مدة حياتك فيها، وقد تكون من المعمرين، وتكون بذلك قد عمرت الإهانة معك فهذا لا يعترف به دين. السبت: عرفت فالزم، عبارة كان يرددها السادة العلماء، يقولونها لكل من يعلمون من طلاب العلم، أي قد عرفتك وعلمتك فالزم ما علمت، واتبع سبيل ما عرفت، وقد عرفنا هذا الدين بالاستقامة، ومن معانيها الالتزام بالأحكام والآداب المشروعة ضمانا للحياة التي خلقنا الله لنعيشها، أن تكون علي صراط الله المستقيم ما وسعك جهدك واجتهادك، وليس معني أن تكون علي صراط مستقيم أن تكون نبيا معصوما، أو ملاكا مقربا، فأنت وكل البشر عدا الأنبياء تخطئ وتصيب، وتتوب، وترجع، وهذا بيت القصيد، ولب الموضوع، أما أن ينحرف سلوك إنسان انحرافا دائما، فهذا ما نسعي إلي تغييره؛ ليعود المرء علي الصراط المستقيم، الذي نراه مستقيم السلوك، وقد نراه منحرف السلوك مرة أو مرتين، كل عام، أو حتي كل شهر، لكن المهم ألا نراه منحرف السلوك دائما أبدا، ومن انحراف السلوك أن يضغط الإنسان علي من اعتاد قبول الإهانة، فهو يشتم، ويبتسم، ويسب بأبيه وأمه وأخيه وعمه وجده، وجدته فيضحك، فإن قال قائل: يا أخي لم هذا القبح؟ لقد أسأت إلي الرجل ومررته، ومسحت بكرامته الأرض، وهذا ليس من الدين، ولا من الذوق، أجابه بقوله: وانت مالك؟ أو وانت مال أهلك؟ مين قال لك؟ هو مش بيزعل من كلامي، ولو كان المشتوم والمسبوب والمهانة كرامته لم يزل أمامه سأله: من حق انت بتزعل من كلامي يا ابن... ونسمعه يقول: لا يا حاج، أنا مش بازعل، قول براحتك، فيقول لمن لامه وعاتبه: سمعت، أهوه قال لك إنه مش بيزعل... مبسوط كده، وهكذا، يري هذا المنحرف أن الإنسان إذا لم تهزه الإهانة ضغط عليه بإهانة أكبر، واستمر يهينه، كأنه كان ضالته المنشودة يبحث عن مثله كي يهينه، ولا أحد يقبل الإهانة، إنما يقبلها من هان عليه عرضه من أجل لقمة العيش التي لو جاءت عن طريق الإهانة آثر الحر الموت عليها، أما قبول الإهانة فقد صار ثقافة دنيئة غريبة لا يعرفها الأسوياء، وإنما يعرفها من وطنوا أنفسهم علي قبول الضيم، وتحمل ما لا تتحمله الدواب الصم البكم الذين لا يشعرون، لا يسمعون، ولا يفهمون تحمل الإهانة من المستعمر الأحد: تحمل الإهانة من المستعمر الذي فتح بلادك عنوة، ولم يجد رجالا يلقونه بأرواحهم فداء لها، تحمل إهانته لك حتي حين، أي حتي تطرده من بلادك مهزوما مدحورا كما طرد إبليس من جنة ربه، أو حتي أن تحفر له حفرة في بلادك؛ لتواري فيها سوأته؛ احتراما لسنة الله تعالي الذي فرق بين دفن الإنسان مسلما كان أو غير مسلم وبين إلقاء الحيوان في أي مكان خرب دون قبره وقد ثبت أن سيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم دفن قتلي الكافرين ولم يتركهم علي ظهر الأرض كما تترك الكلاب الميتة، وإن كانوا أنجس من الكلاب الميتة، لكنهم من بني آدم، وقد قال الله تعالي (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم علي كثير ممن خلقنا تفضيلا)، وتحمل الإهانة من سفيه علي الطريق سيئ الأدب حتي تمر عليه مرورا وصفه الله تعالي بالكرم وقال(وإذا مروا باللغو مروا كراما) وقال عز وجل في عباده المؤمنين: (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما)، أي تحمل الإهانة لوقت معلوم، وزمن محدود، وموقف عابر أو قدر محتوم كأن تكون ابنا لوالد ذرب اللسان أو لوالدة معجونة في بيئة أرقي كلماتها أن تقول لك يا كلب؛ فأين تذهب منهما إن لم تكن والعياذ بالله قد رضعت لبنهما، وسري فيك مشربهما السيئ، فعندئذ لن تشعر بإهانة؛ لأنك شارب من معين تعودته، ومتأثر بمنبع أنت جزؤه؛ فلا غرابة أن يخرج العيب من أهله، وشركما لشركما، ويا دار ما دخلك الشر، والله أسأل أن يتوب عليكم وعلينا أجمعين. أما أن تقبل الإهانة عمرك، بأن تظل في وظيفة يهينك فيها صاحب العمل مدة حياتك فيها، وقد تكون من المعمرين، وتكون بذلك قد عمرت الإهانة معك فهذا لا يعترف به دين ولا ذوق سليم، أو أن ترضي بالحياة مع زوجة جبلت علي أن تهين كل الناس لاسيما زوجها، يقول العلامة البهوتي في كتابه الروض المربع في أول سطر من باب الطلاق: ويحسن طلاق بذيئة اللسان، هذا الذي يجعلنا نقول إن الرضا بانحراف السلوك انحراف في السلوك، فمن يهينك منحرف السلوك لأن الدين والذوق والعقل كل أولئك لا يرون الإهانة لها وجه؛ فلابد أن تفر، وتترك من يهينك لأن أرض الله واسعة، ومن قديم قال الشاعر: وفي الأرض منأي للكريم عن الأذي وفيها لمن خاف القلي متنقل أي أن الأرض لا تضيق في وجه امرئ يأبي الضيم والذل والإهانة، وقد ذكر العلامة المفسر شهاب الدين الخفاجي في كتابه (ريحانة الألبا وزهرة الحياة الدنيا) حين فارق مصر، وارتحل إلي أرض الله الواسعة؛ فلقي هنالك كل كرم وتكريم، وعاش أفضل حياة برغم شعوره بمرارة الفراق لوطن هو عشه الذي ألف، ومولده الذي رأي منه أول تباشير الحياة، يحدثنا عن لحظة خروجه فيقول: قلت في كل قوم أوس وخزرج، ومن عمود إلي عمود يأتي الله بالفرج، ومن كان من تراب فكل الناس أقاربه، ويستمر حديثه عن البلدان التي نزل بها، وعن الكرام الذين قابلوه بما يقابل به مثله من أهل العلم والأدب والشأو البعيد الذي وصل إليه بكده وجهده، وطلبه للعلم إلي أن صار من كبار العلماء، وكان علي بلده أن تنزله مكانته، وأن تقدر له قدره، فلما لم يجد ذلك بسبب حقد الحاقدين، ومكر الماكرين الذين رأي من مكرهم أن مصيره عما قليل حبل المشنقة؛ لأن هؤلاء الحقدة كانوا إذا أرادوا أن يتخلصوا من مثله رموه عند السلطان بالزندقة، ومن ثم يحكم السلطان بإعدامه، ولن يعييهم أن يصطادوا له عبارة أو جملة ظاهرها أنه زنديق، أي كافر ملحد وذلك قبل ظهور الإنترنت وسوشيال ميديا والتي عن طريقهما يستطيع اللعوب بالقص واللزق أن يقدم فيديو مجمعا من فيديوهات يظهر فيها المراد إعدامه وهو يقول: نعم هناك آلهة مع الله، وليس هناك رسل ولا كتب سماوية، ونعم هذه مأخوذة من متصل ناداه فقال له نعم، وهناك مأخوذة من قوله هناك أناس طيبون، وآلهة مع الله مأخوذة من قوله كان الكفار يعبدون آلهة مع الله، وهكذا يقوم المونتاج بعمل الأعاجيب؛ فيسمعها الجاهل به، ويقول زنديق وابن زنادقة. لا يسكت عليه الإثنين: تزوجته في زمن يوصف بأنه الجميل؛ فما وجدت منه غير حسن العشرة، وما ألفت منه غير طيب المودة، يناديها كما ينادي الصبح أشعته الأولي بلا جهد يراه الناظرون، ولا إجهاد يلحظه في الأشعة المدققون، وما أطيب أن تعيش في كنف من يناديك بنداء كهذا، فيسمي روحك التي تؤثر فتؤثر السبية معه علي الحرية مع غيره، وكان يعطيها وكأنها تعطيه الذي سألت، واعتادت في كل صباح أن تسمع منه ربنا يسعد صباحك إذا بادرته بقولها صباح الخير، عشرة أعوام مرت علي هذا الجمال إلي أن جاء يوم وزاد في عبارته لا فقال لها الله لا يسعد صباحك؛ فنظرت إليه نظرة المغشي عليه من الموت، وبهتت بهوتا، وحدثتها نفسها في أقل من الزمن المعتبر، وقال لها قلبها أيام كان القلب أفصح من اللسان: لقد أخطئت السمع، فلما جاء اليوم الجديد وقال العبارة نفسها كان الاستفسار من مقتضيات العقل؛ فقالت له: ماذا قلت لي اليوم والأمس؛ قال: قلت ما سمعت؛ فضربت صدرها براحتها كلامك هذا لا يسكت عليه، وظلت تبحث عن سبب هذا الانحراف في السلوك وعلمت أنها قد ارتكبت في نظره خطيئة، وفعلت في ما يري جريمة، وهي أنها قالت لامرأة رجل كان علي خصومة معه: صباح الخير؛ إذ كان يري أن امرأته عليها أن تهجر كل من هو من رائحة رجل خاصمه، وأن قولها صباح الخير لزوجة من خاصمه عدم تعاون معه، وعليها أن تعمل بقول الشاعر: خليلي ما واف بعهدي أنتما إذا لم تكونا لي علي من أقاطع أي أنه يري أن عليها أن تقاطع من يقاطع، وأن تخاصم من يخاصم، لا أن تغيظه بمعاملة امرأته أحسن معاملة؛ فمعني هذا أنها تري أنه ليس صاحب حق في خصومته، شرح لها هذا، فما كان منها إلا أن قالت: يقطعني، ويحش لساني من لغاليغه، حقك علي ما تزعلش، وقالت له: لكنك كنت في منتهي القسوة علي، قال لها: وده كان من وري قلبي ومر الموقف بسلام، وموضع الشاهد أنها لم تسكت علي كلمة فيها إهانة لها وقد تكررت في يومين، ولو سكتت لظلت عمرها تسمعها كما نري الآن، وقد قال المتنبي شاعر العرب الحكيم: من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت إيلام هين عندنا عظيم عند الله الثلاثاء: وقد وجدنا شريعة الله تتوقف عند كلمة واحدة، تجعلها جريمة، وقد حد لها الإسلام حدا وحدها الضرب ثمانين جلدة، والقذف الذي حده ثمانون جلدة هو كلمة، ونحن نسمعها ليل نهار في الشوارع وفي المسلسلات وفي الأفلام التي يوصف أهلها بالمبدعين، وهم بالفعل مبدعون إلا في إشاعة هذه الكلمة التي هي عندنا هينة ولكنها عند الله تعالي عظيمة، وقد ذكر ذلك ربنا تعالي في سورة النور في سياق النيل من الأعراض وقذف المحصنات المؤمنات بلا دليل معتبر فقال عز وجل: (وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم)، ومن آيات الإيمان أن يكون المعظم عند الله معظما عندنا معشر المؤمنين، وإلا كان شرع الله في واد، ونحن في واد آخر وإذا اختلف الوادي فلا إيمان، ولا صحبة، ولا رفقة، ولا زواج ولا، ولا أبوة، ولا بنوة، وقد ضرب المثل من قديم بأهل سبأ حين تفرقوا وكان تفرقهم من غضب الله عليهم؛ فقيل في كل قوم تفرقوا وطال تفرقهم، وتباعدوا فلم يلتقوا أبدا: تفرقوا أيادي سبا، ونحن قد نكون مجتمعين في الظاهر، ترانا ربما في غرفة واحدة لكننا متفرقون معني وكيانا؛ إذ كل منا يسبح في بحره، ويغوص في أوهامه، ولو كنا مجتمعين بحق شكلا ومعني لأبينا الإهانة والذل، ومن أخطر أسباب الإهانة والذل الفقر والحاجة؛ إذ أن المشاهد هو أن من يقبل الإهانة إنما يقبلها لفقره وحاجته، يقول لك إني أتحمل هذا وغيره من أجل أولادي، أو من أجل لقمة عيشي، ومن أجل هذا دعا هذا الدين أتباعه بأن يكونوا أغنياء، (والذين هم للزكاة فاعلون)، ومن العلماء من يري أن المسألة رغم الضرورة والحاجة حرام شرعا مع أنها جائزة عند أكثرهم في الفقر الشديد والدين الكبير والدية المرهقة، وقد ذكر عبد البر في التمهيد سبب تحريم المسألة عند هؤلاء وهو أنها تعرض وجه السائل للإهانة، والإهانة حرام؛ ومن ثم كان السبب الدافع إليها حرام أيضا، وقد جاء في الحديث قول النبي صلي الله عليه وسلم (لأن يأخذ أحدكم حبلا علي عاتقه فيحتطب خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه)، أي أن من يمد يده إلي الناس ليسألهم معرض لاحتمال من احتمالين إما أن يعطي، وإما أن يمنع، وعليه ألا يتفاءل بأنهم سوف يعطونه، مع أن التفاؤل من هدي هذا الدين الذي لا يعرف التشاؤم أبدا، بل عليه أن يتعمق في الاحتمال الثاني بأن ينأي عنه.