حول رباط الإسلام، كتب أستاذنا الجليل محمد عبد الله محمد في درته » معالم التقريب » .. وما أحوجنا أن نفهم هذا الرباط ونعيه اليوم، وما أحوجنا أن نتمسك به إزاء الدعوات الشاردة التي تبطن العداء للإسلام وإن ادعت ظاهريًا غير ذلك، وربما ادعت أنها تتشح به وتدافع عنه ! رباط الإسلام هوالرباط المتين الذي يربط بحبل الله بين جميع المسلمين أيًا كانت مذاهبهم أومكانتهم أوأحزابهم وتحزباتهم أوغناهم أوفقرهم .. إنه رباط العبودية لله تعالي، والاستجابة لندائه .. » وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَيَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ » (آل عمران 103). طبيعة الرباط لا يتصور الإسلام حرية اسمها حرية ترك الإسلام، فإن الإسلام ليس حزبًا تنضوي فيه اليوم لتخلعه عنك غدًا، أوناديًا تنضم إليه وتتحمس وتتعصب له لتتركه إلي غيره، وليس برنامجًا سياسيًّا أواجتماعيًّا أوحزبيًّا يلعبه الإنسان أويرفضه متي أراد بلا معقبات . إمكان الإلغاء والعدول والرفض والخلع والانسلاخ أوالإنسلات والانضواء والترك .. مفروض ومفترض أومتصور في الانتماء إلي الأحزاب أوالأندية أوالبرامج، ولكن الإسلام أخوة في الله أبدية، في الدنيا والآخرة، وولاء لله وبيعة له سبحانه وتعالي .. بيعةً أبدية خالدة في الدنيا والآخرة . الإسلام نوع حياة الإسلام نوع حياة لها وجهها الفردي والعائلي والجماعي .. الاستمرار فيها عنصر أساسي .. إذ يتسلمها الأبناء من الآباء، ليتسلمها منهم أبناؤهم وهكذا .. فحرية البقاء في الإسلام أوتركه كأنه فندق أوخان تدخله متي شئت وتخرج منه حينما تشاء لتعود كيف تشاء .. هذه الحرية في الدخول والخروج، والمناورة والمداورة، سخافة لا توجد إلاّ إذا كف المسلم وتوقف عن اتخاذ الإسلام دينا ملزما لأهله، لذلك فإن الارتداد عنه إذا وقع والعياذ بالله ليس ممارسة لحرية، وإنما سقوط وخيانة ! الإسلام لا يحترم الرعونة ولا الحماقة، ولا يتصور أن يكون المسلم إلاّ عاقلا .. فلا يتصور حرية الطيش والهوي .. ونحن نخلط أحيانا بين الحرية والحماقة في مباذلنا وملاهينا .. وأحيانا في يأسنا وفشلنا .. ففي الأولي نتصور واهمين ! أن الحرية تنسي وقارها وخطورتها لتحتضن وتحمي نزعات ونزوات وأهواء المآرب والمصالح أوفراغ الرءوس أومبتدعات اللبس والزينة والتسلية .. بينما هذه وتلك أشياء أوشطحات لا يحميها كونها من حرية الإنسان الحديث بقدر ما يروج لها إقبال الناس عليها ومشاركة الكثيرين في سخفها، وأن منعها لا يساوي المضايقة التي تتخلف عن إجراءات المنع أوالقمع ! النزعات والأهواء ! هذه النزعات أوالحماقات أوالأهواء يخدمها التهور وأحيانا الجنون، فنقدم عالمين عامدين علي تصرفات نعلم أنها مخالفة للعقل .. لأننا نظن واهمين ! أننا أحرار في استعمال العقل وعدم استعماله، وأن هناك مواقف لا تصلح فيها الحكمة وضبط النفس أوأغراض لا تنفع فيها المبادئ، وأنه يباح لذلك أن نواجهها بخلع المبادئ لنعود إليها من بعد أولا نعود، أوأن نواجهها بالجنون والاندفاع .. لا من باب التظاهر، وإنما من باب الاقتناع ربما ! بجدوي الجنون وثمار المجانين .. وحين نمر بهذه الحال الغريبة نعتبر الذين يصرون علي التعقل والاعتدال خصوما لنا وللحرية .. لأنهم يقاومون مداورتنا أوهوسنا الذي نريد أن تكون له الكلمة العليا، ويشيعون حوله ترددا وشكوكا ! خلع المبادئ ! والناس حين تخلع المبادئ أوترفع راية الهوس وتولي هذا أوذاك في حياتها هذه المكانة، تغير الأسماء المألوفة لهذه النزعات وتضفي عليها أسماء أخري مضللة ! ذات بريق مداراة لسوئها ! .. ويساعدهم ذلك الخداع للنفس أوللغير علي الاستمرار في تلك الحالة التي اعتنقوها، وعلي نسيان كيف دخلوها، وربما شعروا بالزهووالذكاء لوجودهم فيها .. وربما اجتذب ذلك إليهم غيرهم من الشواذ الذين يسعون أصلاً وراء فرص للتعبير عن آفاتهم وهم آمنون من الخوف والعار ! والذين يختارون الهوس والجنون لا يعلمون إلي أين يؤديان بهم ولا أين يقفان .. فليس للهوس والجنون » حساب » يمكن معرفته مقدما أوضبطه، ومتي سيطرا فلن يتخليا عن السيطرة تلقائيا عندما تدعوالمصلحة .. ثم إن الناس تعتاد الحمق بالممارسة، ويتعذر عليهم أن يقلعوا عنه رغم فداحة ما يصيبهم من جرائه !! وإقدامنا علي اختيار الجنون ورفض العقل دليل نقص هائل في حريتنا الداخلية وعجز تام عن ضبط رغباتنا، وانحراف بوصلتنا عن رباط الإسلام والأديان بعامة، وابتعاد مبعد عن الولاء لله عز وجل ! الدين والحرية أما الحريات المدنية والسياسية والاقتصادية، وما يتبعها من حرية الرأي والفكر والاعتقاد، لا يلغي ولا يصادر الدين، ولا يخل بالتدين . فالمفهوم السياسي للحريات أنها ضمانات من صنع الناس، شرعوها وفرضوها بمجتمعاتهم لحماية أنفسهم من أي تجاوز أوتسلط أوعسف من الحكام أوغيرهم . وهذه الحريات الوضعية كلها خارجية تتغيا إبعاد أنواع من العوائق والعوارض والقيود الخارجية، ولا شأن لها بداخل الإنسان، ثم إن هذه الحريات محكومة بفكرة النظام العام لا تتعداه، والنظام العام هومحصلة القيم التي تعارف عليها المجتمع وفي مقدمتها قيم الأديان .. فليست الحريات حرباً علي الدين ولا انتقاصا منه أومصادرة له أوللتدين . بل إن الذي يتغلغل إلي تصور الإسلام للمعني الكلي الذي تشير إليه كلمة الحرية في العصر الحديث، يجد أنه أكثر فهما وعمقا واعتناقا لقيمة هذا المعني ومكانته .. ذلك أن مشكلة الحرية ليست عند التأمل مشكلة سياسية أواقتصادية بقدر ما هي مشكلة عاطفية عقلية، فهي لا توجد إذا كنا جميعا حاكمين ومحكومين متفقين علي الصواب والخطأ، وفي الرغبات وفهمها وضرورة الاختيار بينها وتنظيم كيفية إشباعها، ووفقا لمعيار عادل ثابت للكرامة الشخصية لا يتأثر بقوة الفرد وضعفه، أوبقدر أهميته أومصلحته . ففكرة الكرامة متداخلة تداخلا عميقا في ميدان المشاعر والعواطف أكثر منها في ميدان المعقولات والمصالح، فالحرية جذورها في منطقة الشعور، وفي مجال القيم التي يزن بها الإنسان نفسه في عينه وفي عيون الآخرين متشبثا بفكرة المساواة . والواقع أن المستوي الكريم للحياة تصور منتزع من عناصر مادية يحمل معني التميز . فالحياة الكريمة بغض النظر عن الشعارات والنظريات هي في عصرنا حياة مادية مادام المال هوالقيمة الاجتماعية الرئيسية التي يتركز عليها اهتمام الناس، وما دام وضع الإنسان الاقتصادي في المجتمع هوالذي يربط بين نصيبه الفعلي من احترام نفسه واحترام المجتمع له . وإشكالية أخري، أن صار صعبا علي الإنسان العادي في زماننا أن يشعر بالأهمية أوالإنصاف وهومنفرد وبعيد عن التكتل، في حزب أونقابة أوما شابه ! إذن فالحرية التي يحتاجها العصر، ويفلتها من يده باستمرار، هي التحرير من استبداد واستعباد رغباتنا ومطامعنا التي تدعوالقوي لإهمال الضعيف، والحاكم للاستقواء بسلطته علي المحكوم، والطامعين للتغول بمطامعهم أواستبدادهم علي البسطاء . وما من ظالم إلاَّ وأداته إنسان تستعبده هوالآخر مطامعه وشهواته، ولا يمكن لأي استبداد أوطغيان اجتماعي أوسياسي أواقتصادي أن يوجد .. إلاَّ إذا كان الناس قد فقدوا حريتهم الداخلية ! والشعور بالحرية الداخلية، هذا الشعور المليء بالوقار والطمأنينة، منبعه وواحته الدين . ونري بهذا المعني الكلي كيف أن منظومة دين كالإسلام، توفر عناصر وضوابط وروح ومعني الحرية . فالمسلم الصادق يكون حرا وهومسجون، وحرا وهورقيق، وحرا وهوفقير .. وهكذا رأينا بلال وسلمان الفارسي وصهيب الرومي وغيرهم، قلوبهم الملآنة بالحرية هي التي تجاوزوا بها الفقر وتحرروا من نير العبودية وآمنوا بقلوب معمورة بحرية أعمق وأشد من حرية الكثيرين من الطلقاء والسادة والأغنياء وذوي الجاه والزعماء . هذه الحرية الداخلية التي يطلقها الإسلام في قلب المسلم الصادق، ليست السلبية أوالبلادة أوعدم المبالاة، وليست في الرعونة ولا الحماقة والتجبر علي الناس أوالعصف بحيواتهم وبالعمران، وهي بالبداهة ليست حرية ترك الدين أوالانقلاب عليه، وإنما هي أخوة في الله، أبدية في الدنيا والآخرة، تجمع المؤمنين بقلوب عامرة بالهداية والإيمان الذي يربط عليها بحبل متين تستقيم به الحياة بين جميع الأحياء .