وسط فيض ضجيج الثرثرة الفارغة، لكي لا أقول التفاهة والهيافة، التي تلوث مجال الحوار العام في بلدنا هذه الأيام، أظن، وليس كل الظن إثمًا، أن هناك مساحة للسؤال التالي: كيف ينتصر المثقفون الحقيقيون وينحازون للقيم الإنسانية عموما ولقيمة الحرية بالذات، وكيف يقاومون ويحاربون بالفكر والجمال، قبح وقسوة الظلم والعنف والطغيان والإرهاب بكل صوره وتجلياته؟!. هذا سؤال تاريخي يكاد يبدأ عمره من مطلع الحضارة الإنسانية وفجر تاريخ البشر، أما إجابته فهي ليست واحدة، كما لم تعرف البشرية بعد (ولا أعتقد أنها ستعرف أبدا) نموذجا سلوكيا وأخلاقيا معينا يمكن الاتفاق عليه، إذا التزم به المثقف والمبدع يكون قد أدي واجبه وانتصر للقيم الإنسانية الراقية.. ومع ذلك هناك شرط وحيد هو »الإخلاص» الفعلي لهذه القيم، وإن بدرجات مختلفة ومتفاوتة من الحماس. ذلك السؤال الخالد قفز إلي ذهن العبد لله فجأة مؤخرا، ومن فرط الحيرة عدت إلي قصة خلاف جميل كان طرفاه اثنين من أكبر المبدعين في تاريخنا الإنساني، أولهما الشاعر والفيلسوف الألماني ذائع الصيت »يوهان جوته» والثاني هو مواطنه وصديقه الموسيقي العظيم »بيتهوفن»، وكان الأول كتب نصا مسرحيا رائعا خلد فيه حكاية منسية من حكايات النبل والتضحية من أجل حرية الوطن ونبذ الطائفية والتعصب.. إنها حكاية »الكونت إيجمونت» الذي رفض الذل والقهر المفروضين علي شعبه، وبصفته دوقا علي الأراضي الواطئة (هولندا) رفض وقاوم تنفيذ أوامر المحتلين الإسبان لبلاده بتسهيل عمل فرق »التفتيش في الصدور والضمائر» التي أرسلوها لكي تعاقب المواطنين الهولنديين الذين اعتبرتهم الكنيسة الكاثوليكية مارقين وكفارا لأنهم، رغم بقائهم علي عقيدتهم المسيحية، خرجوا من تبعيتها واعتنقوا المذهب البروتستانتي ومن ثم انتقلوا إلي كنيسة أخري. إذن، رفض الكونت إيجمونت أن يتم التنكيل بمواطنيه بسبب مذهبهم ومعتقدهم الديني، عندئذ اتهمه ملك إسبانيا بارتكاب جريمة الخيانة العظمي، وبعد محاكمة صورية وهزلية أدين بهذه التهمة وحكمت عليه المحكمة الكنسية بالإعدام، وقد جري تنفيذ هذا الحكم بسرعة في أحد صباحات العام 1568. نص المسرحية تلك، أعطاه جوته لصديقه بيتهوفن طالبا منه أن يحوله عملا أوبراليا، غير أن الموسيقي العبقري اشتغل فعلا علي النص بحماس فائق، لكنه أهمل أغلب أحداثه والتقط فقط فصلا من فصول المسرحية كان هدفا لبعض اللوم والنقد.. أنه الفصل الخامس والأخير الذي اعتبره ذلك الموسيقي العبقري يجرد قصة مأساة الكونت إيجمونت من ثقل وزحام التفاصيل الذاتية ويجعله نموذجا إنسانيا عاما يمجد ويخلد كل بطل ويحتفي بمعني البطولة أينما وفي أي وقت تحققت، أكثر من ذلك فقد كثف بيتهوفن إبداعه الموسيقي حول هذا النص، وبدل أن يفرد له مساحة »أوبرا كاملة»، جعله مجرد »افتتاحية» موزعة علي ثلاث حركات لا تزيد مدتها كلها عن تسع دقائق مشحونة بالروعة والثراء. طبعا ذلك الخلاف الفني بين المبدعين العظيمين بقي محصورا ضمن دائرة ضيقة قوامها بضع نقاد وحفنة قليلة من المهتمين والمتخصصين في الإبداع الأدبي والموسيقي، غير أن خلافهم جوته وبيتهوفن الكبير في طريقة التعبير عن التزامهما وانحيازهما لقيمة الحرية، ظهر في وقائع وحكايات أخري أشهرها تلك الحكاية الطريفة، التي قد أرويها لحضرتك هنا، الأسبوع المقبل إن شاء الله.