كل سنة وكل مصري بخير.. حمدي رزق يهنئ المصريين بمناسبة عيد تحرير سيناء    مصدر نهر النيل.. أمطار أعلى من معدلاتها على بحيرة فيكتوريا    حلقات ذكر وإطعام، المئات من أتباع الطرق الصوفية يحتفلون برجبية السيد البدوي بطنطا (فيديو)    ارتفاع سعر الفراخ البيضاء وتراجع كرتونة البيض (أحمر وأبيض) بالأسواق الجمعة 26 أبريل 2024    هل المقاطعة هي الحل؟ رئيس شعبة الأسماك في بورسعيد يرد    القومي للأجور: قرار الحد الأدنى سيطبق على 95% من المنشآت في مصر    بقيمة 6 مليارات .. حزمة أسلحة أمريكية جديدة لأوكرانيا    حزب الله اللبناني يعلن تدمير آليتين إسرائيليتين في كمين تلال كفرشوبا    حركة "غير ملتزم" تنضم إلى المحتجين على حرب غزة في جامعة ميشيجان    بعد تطبيق التوقيت الصيفي.. تعرف على جدول مواعيد عمل محاكم مجلس الدولة    عبقرينو اتحبس | استولى على 23 حساب فيس بوك.. تفاصيل    رئيس مهرجان الإسكندرية للفيلم القصير في دورته العاشرة: «تحقق الحلم»    أنغام تبدأ حفل عيد تحرير سيناء بأغنية «بلدي التاريخ»    هل العمل في بيع مستحضرات التجميل والميك آب حرام؟.. الإفتاء تحسم الجدل    فيديو جراف| 42 عامًا على تحرير سيناء.. ملحمة العبور والتنمية على أرض الفيروز    أنغام باحتفالية مجلس القبائل: كل سنة وأحنا احرار بفضل القيادة العظيمة الرئيس السيسى    بث مباشر لحفل أنغام في احتفالية مجلس القبائل والعائلات المصرية بعيد تحرير سيناء    قيادي بفتح: عدد شهداء العدوان على غزة يتراوح بين 50 إلى 60 ألفا    المحكمة العليا الأمريكية قد تمدد تعليق محاكمة ترامب    السعودية توجه نداء عاجلا للراغبين في أداء فريضة الحج.. ماذا قالت؟    الدفاع المدني في غزة: الاحتلال دفن جرحى أحياء في المقابر الجماعية في مستشفى ناصر بخان يونس    "الأهلي ضد مازيمبي ودوريات أوروبية".. جدول مباريات اليوم والقنوات الناقلة    خالد جادالله: الأهلي سيتخطى عقبة مازيمبي واستبعاد طاهر منطقي.. وكريستو هو المسؤول عن استبعاده الدائم    الشروق تكشف قائمة الأهلي لمواجهة مازيمبي    طارق السيد: ملف خالد بوطيب «كارثة داخل الزمالك»    حدثت في فيلم المراكبي، شكوى إنبي بالتتويج بدوري 2003 تفجر قضية كبرى في شهادة ميلاد لاعب    بعد 15 عاما و4 مشاركات في كأس العالم.. موسليرا يعتزل دوليا    رائعة فودين ورأسية دي بروين.. مانشستر سيتي يسحق برايتون ويكثف الضغط على أرسنال    ملف يلا كورة.. تأهل يد الزمالك ووداع الأهلي.. قائمة الأحمر أمام مازيمبي.. وعقوبة رمضان صبحي    عاجل - "التنمية المحلية" تعلن موعد البت في طلبات التصالح على مخالفات البناء    ارتفاع سعر السبيكة الذهب اليوم وعيار 21 الآن بمستهل تعاملات الجمعة 26 أبريل 2024    سرقة أعضاء Live مقابل 5 ملايين جنيه.. تفاصيل مرعبة في جريمة قتل «طفل شبرا الخيمة»    عاجل - الأرصاد تحذر من ظاهرة خطيرة تضرب البلاد.. سقوط أمطار تصل ل السيول في هذا الموعد    مسجل خطر يطلق النار على 4 أشخاص في جلسة صلح على قطعة أرض ب أسيوط    استشاري: رش المخدرات بالكتامين يتلف خلايا المخ والأعصاب    الأقصر.. ضبط عاطل هارب من تنفيذ 35 سنة سجنًا في 19 قضية تبديد    حكايات..«جوناثان» أقدم سلحفاة في العالم وسر فقدانها حاستي الشم والنظر    رئيس الشيوخ العربية: السيسي نجح في تغيير جذري لسيناء بالتنمية الشاملة وانتهاء العزلة    تبدأ اليوم.. تعرف على المواعيد الصيفية لغلق وفتح المحال والمولات    حظك اليوم.. توقعات برج الميزان 26 ابريل 2024    ليلى أحمد زاهر: مسلسل أعلى نسبة مشاهدة نقطة تحوّل في بداية مشواري.. وتلقيت رسائل تهديد    لوحة مفقودة منذ 100 عام تباع ب 30 مليون يورو في مزاد بفيينا    مخرج «السرب»: «أحمد السقا قعد مع ضباط علشان يتعلم مسكة السلاح»    بدرية طلبة عن سعادتها بزواج ابنتها: «قلبي بيحصله حاجات غريبه من الفرحة»    عروض فنية وموسيقى عربية في احتفالية قصور الثقافة بعيد تحرير سيناء (صور)    «تنمية الثروة الحيوانية»: إجراءات الدولة خفضت أسعار الأعلاف بنسبة تخطت 50%    «اللهم بشرى تشبه الغيث وسعادة تملأ القلب».. أفضل دعاء يوم الجمعة    الأغذية العالمي: هناك حاجة لزيادة حجم المساعدات بغزة    سفير تركيا بالقاهرة يهنئ مصر بذكرى تحرير سيناء    خطبة الجمعة لوزارة الأوقاف مكتوبة 26-4-2024 (نص كامل)    طريقة عمل الكبسة السعودي بالدجاج.. طريقة سهلة واقتصادية    الجيل: كلمة الرئيس السيسي طمأنت قلوب المصريين بمستقبل سيناء    مواطنون: التأمين الصحي حقق «طفرة».. الجراحات أسرع والخدمات فندقية    يقتل طفلًا كل دقيقتين.. «الصحة» تُحذر من مرض خطير    عالم أزهري: حب الوطن من الإيمان.. والشهداء أحياء    بالفيديو.. ما الحكم الشرعي حول الأحلام؟.. خالد الجندي يجيب    قبل تطبيق التوقيت الصيفي، وزارة الصحة تنصح بتجنب شرب المنبهات    6 نصائح لوقاية طفلك من حمو النيل.. أبرزها ارتداء ملابس قطنية فضفاضة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بين حداد وفدوي طوقان.. صفحات مجهولة في الأدب العربي!
نشر في أخبار السيارات يوم 19 - 01 - 2019

»لقد لعبوا دورهم في حياتي ثم غابوا في طوايا الزمن»‬. الجملة السابقة ليست فقط الجملة الافتتاحية لسيرة الشاعرة فدوي طوقان، بل الجملة المفتاحية لقراءة سيرتها وأشعارها، وحتي شخصيتها نفسها.
بشكل ما يلعب كل منا دورا في حياة الآخرين، ولاعبون كثر مروا في حياة فدوي طوقان، بعضهم لعب دورا أساسيا، وآخرون لم يكونوا أكثر من أطياف، لكن من منهم كان الأبقي والأعظم أثرا وتأثيرا؟ كشفت هي بعض الأسماء، لكن رغم جرأتها فلم تقل فدوي طوقان كل شيء في سيرتها التي صنفت كأجرأ السير الذاتية بعد »‬أيام» طه حسين، وإذا راجعنا الفترة الزمنية التي كتبت فيها والظروف التي سجلت فيها كلماتها، سنجد أنها ربما ستظل محافظة علي هذا التصنيف لسنوات أخري قادمة، رغم أنها هي نفسها قالت في بدايتها إنها لم تفتح خزائنها كلها، لكن جملتها المفتاحية تطل دائما عبر السطور دافعة إلي ملاحظة الأثر تلو الآخر، مشيرة في الوقت نفسه إلي قدرتها علي التخطي والتجاوز، فإذا ما رَجَعْتُ بعدها إلي أشعارها –أثرها الباقي الفريد- ستجد ما يكمل القصة لتلتئم سطور الحكايات كلها.
انتصرت فدوي بشكل كبير علي العقلية العربية المخلصة للتستر والتخفي، وما لم تتمكن من البوح به في سيرتها، سربته عبر سطور أشعارها التي نكتشف يوما بعد يوم رسائلها المبطنة فيها، وما أرادت أن تقوله بشكل صريح، ورغم مرور كل تلك السنوات، فلم تبح الأحجية بكل أسرارها، فهناك الكثير الذي لم يكشف بعد، آخره ما نشره الناقد والشاعر المغربي عبد اللطيف الوراري في كتابه »‬رسائل فدوي طوقان مع ثريا حداد».
حينما عرض علي رئيس التحرير طارق الطاهر العمل علي كتاب الوراري الذي التقطه بحسه الصحفي من معرض الكتاب بعمان، لم أتحمس، تصورت متسرعا إنه لن يقدم جديدا بعد كل ما قالته فدوي في سيرتها، وما كتبه آخرون عن حياتها وأشعارها، وفكرت برعونة أن أعتذر لكن غلبني الفضول لتصفح الرسائل، وبعد أن قرأت عرفت كم كنت مخطئا، فالكتاب الصغير يؤكد أن الحكاية المعلنة ناقصة، وأن هناك صفحات لا تزال مجهولة، يعيد اكتشاف تلك المناطق وينير أجزاء جديدة في حياة فدوي طوقان وأشعارها وشخصيتها الفريدة.. هنا نحاول لملمة سطور الحكايات، القديم منها والجديد، لنعيد رسم صورة كاملة، ربما تكون جديدة تماما.
في أوائل سنة 1974 تلقي الكاتب والناقد رجاء النقاش رسالة من الشاعرة الفلسطينية فدوي طوقان تحوي كل رسائل الناقد أنور المعداوي إليها.
كان النقاش قد التقاها في بيروت سنة 1967 في مؤتمر كتاب آسيا وأفريقيا الذي عقد قبل حرب يونيو بشهرين وطلب منها بجرأة يحسد عليها رسائلها المتبادلة مع أنور المعداوي، وكان يعلم بأمر الرسائل من المعداوي نفسه، أستاذه وصديقه، الذي أخبره أيضا أنه يحمل في قلبه لفدوي عاطفة عميقة تفوق عاطفة الصداقة.
كان كنزا حقيقيا، استطاع النقاش من خلاله أن يكتب مسيرة واحدة من أنبل وأشهر قصص الحب في الوسط الثقافي العربي، فمن خلال الرسائل التي نشرها في كتابه »‬بين المعداوي وفدوي طوقان صفحات مجهولة في الأدب العربي المعاصر» أكد النقاش أن ما بين فدوي والمعداوي »‬حب عاطفي» وليس حبا قائما علي الإعجاب والصداقة فقط، وأن هذا الحب كان من النوع »‬المأساوي» لأنه كان حبا »‬عذريا»، فالناقد المصري والشاعرة الفلسطينية لم يلتقيا في أي يوم من الأيام، وكانت القصة كلها قائمة علي الرسائل.
تعرض النقاش لهجوم عنيف عقب صدور هذا الكتاب، ما دفعه لكتابة مقدمة وافية في الطبعات التالية دافع فيها عن فكرته في تقديم هذه الرسائل، قال إن هذا النوع من النقد لم يقنعه بعكس ما يراه، ولم يغير موقفه أبدا »‬فالخوض في الحياة الشخصية بغير هدف، أو بدافع الثرثرة والفضول، هو الخطأ الذي ينبغي أن نحاسب عليه من يقع فيه، أما الخوض في الحياة الشخصية لتفسير مأساة كاتب، أو لفهم المجتمع والعصر الذي يعيش فيه من أجل الوصول إلي حل للمشكلات المعقدة القاسية التي نعاني منها، فذلك كله أمر مطلوب وضروري، مهما أثار غضب البعض ممن يفضلون التستر والتظاهر والتصنع علي المواجهة والصدق والبحث الأمين عن حل وعلاج».
أهم ما توصل إليه النقاش هو تأثير ذلك الحب علي ما أنتجه كل منهما، سواء ما قدمته فدوي من قصائد، أو ما قدمه المعداوي من كتابات نقدية، بل حتي الرسائل نفسها التي وجد فيها النقاش أثرا أدبيا وإنسانيا بالغ القيمة والأهمية، ويكفي أن المعداوي كان سببا في ظهور أول دواوين فدوي طوقان »‬وحدي مع الأيام» وتولي نشره بنفسه في مصر، وكان هو نفسه سببا في كتابة الكثير من قصائد فدوي علي مدار عدة أعوام، »‬مجموعة من أروع قصائد الحب في أدبنا الحديث» كما يقول النقاش، ورغم ذلك فالكتاب في مجمله دراسة عميقة في شخصية أنور المعداوي وما قدمه من كتابات نقدية وفكرية، ومأساة حياته بشكل عام، وهو في نظر صاحبه أيضا دراسة للحياة الأدبية والاجتماعية في الخمسينات والستينات في مصر والمجتمع العربي كله، محاولة للكشف عن محنة جيل بأكمله في تلك الفترة الحساسة من تاريخنا العربي »‬الاقتصار في النظر إليه علي أنه قصه حب بين ناقد وشاعرة هو أمر يخرج تماما عن الهدف الواسع البعيد الذي وضعته أمامي وأنا أقوم بإعداد هذا الكتاب».
في 2017 تلقي الشاعر والناقد المغربي عبد اللطيف الوراري هدية مماثلة، وكنزا لا يقل أهمية عما تلقاه رجاء النقاش بل لعله يفوقه ندرة، فالرسائل التي تلقاها النقاش كانت من طرف واحد هو أنور المعداوي، في حين اختفت الرسائل الخاصة بفدوي في ظروف سنشرحها في السطور التالية، لكن ما حصل عليه الوراري كان رسائل كتبتها فدوي نفسها بخط يدها، وهي كنز ليس فقط لندرة الوثائق الشخصية المتعلقة بفدوي شديدة الحرص والتكتم، ولكن أيضا لما فيها من إشارات لمعلومات وحكايات تنير أجزاء جديدة من حياة فدوي طوقان وإبداعها.
أما كيف حصل الوراري علي الرسائل، فالحكاية كما يرويها تقول: اتصل بي الإعلامي المقيم في أمريكا الأستاذ الفاضل سمير حداد، وكان قد اطلع للتو علي مقالتي عن الرسائل التي تبادلها جبران خليل جبران ومي زيادة، ولمس اهتمامي بالأدب الشخصي والسيرذاتي، فحدثني عن أخته الأديبة ثريا حداد التي اهتمت بأدب مي زيادة ودرّسته لطلبتها عندما كانت قيد حياتها أستاذة اللغة العربية لغير الناطقين بها في جامعة جونز هوبكنز، وسجل معي حلقة في برنامجه الإذاعي »‬شموع عربية» (الثلاثاء 18 أكتوبر 2016) الذي يذاع من ديترويت في أمر هذه الرسائل وحقيقتها وقيمتها الفنية. ثم مر وقت قبل أن يخبرني بأن أخته الأديبة كانت لها مراسلات بينها وبين شعراء وأدباء مشاهير، بمن فيهم ميخائيل نعيمة الذي اشتغلت علي شعره في أطروحتها المعنونة ب »‬الأبعاد الإنسانية في أدب نعيمة»، وفدوي طوقان، ونزار قباني، وعيسي الناعوري، وروكس بن زائدة العزيزي وغيرهم. هذه المراسلات تعود إلي فترة رئاستها لرابطة راهبات الوردية في عمان منذ ستينيات القرن العشرين، حيث كانت تستضيفهم وترتب لهم أماسي شعرية ومحاضرات في الأدب والفكر، وقد استمرت إلي حين رحيلها عام 1996 بعد معاناة مع المرض.
ألح الوراري في طلب الرسائل لنشرها، يحركه المنطق نفسه الذي حرك النقاش من قبل، وبالفعل حصل عليها وكانت البداية مع رسائل فدوي طوقان التي نشرها في كتاب بعنوان »‬رسائل فدوي طوقان مع ثريا حداد أضواء جديدة علي حياتها وشعرها» وصدر عن دار »‬طباق» بفلسطين. غير أن الوراري وإن حركه منطق النقاش في الحصول علي الرسائل لم يسر علي الدرب نفسه في تحليلها وتفسير ما جاء فيها، اكتفي فقط بمقدمة قصيرة، وبمنح الرسائل ال30 عناوين دالة وموحية بفحوي ما يريد قوله، وما يود الإشارة إليه، ربما كانت تلك شروط الإفراج عنها وربما كانت فكرته هو نفسه حيث يقول »‬لا أريد أن أبسط أمام القارئ الكريم موضوع كل رسالة علي حدة، ولا أن أكشف له عن أسرارها وحجبها، بل أتركه يكتشفها بنفسه ويتأثر بها كما حصل معي. وأي أثر ومتعة –بعد ذلك- أن تعاود اكتشاف شخصية شعرية مثل فدوي طوقان».
ولأن محرك تلك الرسائل كان في الأصل محركا عاطفيا، ولفهم أكبر لفحواها وأفكارها وشخصياتها، لابد أولا من شرح السياق الذي تربت فيه فدوي، الحياة القاسية التي عاشتها والتي حددت ورسمت طريقها كله منذ البداية، والذي لعبت فيه العاطفة دورا رئيسيا ومحوريا وفريدا.
يرسم الحب مسارات حياة فدوي طوقان. منذ بدأت الوعي بذاتها وبجسدها، منذ وصلت سن البلوغ، وتعافت من الملاريا لتصاب بلعنة الحب التي لازمتها طوال حياتها.
في طفولتها صارت تراقب تفتح جسدها بحذر تعودت عليه »‬لفت نظري تفتح جسدي.. وخفت.. وخجلت. وأربكني نمو الصدر الذي أصبح الآن ملحوظا، فكنت أعمل علي إخفاء هذا النمو. ورحت أراقب هذا الأمر كله بحياء شديد كما لو كان ارتكاب ذنب مخجل استحق العقاب من أجله»، خوف استند علي ميراث من التجاهل والعنف في أسرة عربية تقليدية ذكورية، تعقد الأمر عندما اكتشفت الحب لأول مرة، وتعقد أكثر عندما اكتشفت الأسرة هذا الحب، كان غلاما في السادسة عشرة من العمر، ولم تتعد الحكاية حدود المتابعة اليومية في الذهاب والإياب، كان التواصل الوحيد الذي تعدي المراقبة، زهرة فل مررها لها عبر صبي صغير، لكنها كانت كافية لتحل اللعنة علي القصة بكاملها ولتغير مسار فدوي وتنهي كل الأشياء الجميلة، كان هناك من يراقب، ووشي بالأمر كله لأخيها يوسف »‬دخل يوسف علي كزوبعة هائجة: (قولي الصدق).. وقلت الصدق لأنجو من اللغة الوحيدة التي كان يخاطب بها الآخرين، العنف والضرب بقبضتين حديديتين» أصدر القاضي المنزلي حكمه بالإقامة الجبرية في المنزل، انتهت أحلام التعليم والمدرسة التي كانت تحبها أكثر مما أحبت بيتها نفسه.
وكأن حكم الحبس لم يكن كافيا، فاستمر تعذيبها عبر إذاعة سرها الصغير في أرجاء المنزل الكبير، صار الجميع يحدجها بالنظرات المتسائلة اللائمة المتشككة »‬وانزرعت في نفسي الغضة الطرية فكرة سيئة عن هذه النفس، خلقت في عادة السير مطأطئة الرأس لا أجرؤ علي رفع عيني نحو وجوههم التي كانت تلقاني صباح مساء بالعبوس والكراهية».
الحرمان من المدرسة كان أشد ما عانته، خاصة وأن أختها »‬أديبة» كانت تجلس في المساء لتحضير دروس اليوم التالي، ووقتها كانت تهرب فدوي إلي فراشها لتخفي دموعها تحت الغطاء. وبدأ يتكثف لديها الشعور الساحق بالظلم. لدرجة أنها فكرت في الانتحار للتخلص من هذا الضغط »‬أحيانا كنت أدخل المطبخ، وأقف عند صفيحة (الكاز) وبيدي علبة الثقاب. لكني كنت أخاف الألم الجسماني ولا أطيق تحمله. وهكذا كنت أنصرف دون تنفيذ الأمر، وأنا أفكر بطريقة أخري تكون أقل عنفا من الاحتراق بالنار. كثيرا ما خطر لي تناول السم، ولكن من يأتيني به؟ هذا بالإضافة إلي كونه يسبب آلاماً شديدة قبل الموت، وكان هذا كافياً لتحويل ذهني عنه».
كانت تري في الانتحار وسيلة للتخلص من ظلم الأهل وضغوطهم المستمرة عليها، كان الانتحار هو الشيء الوحيد الذي يمكنها أن تمارس من خلاله حريتها الشخصية المستلبة! فقط كانت تشفق علي أمها من الصدمة، رغم أن علاقتها معها لم تكن علي ما يرام أيضا، كانت تفكر أحيانا في أن أمها تربط بين مقدمها وبين النحس الذي طرأ علي العائلة، حيث أبعد الانجليز والدها إلي مصر منفياً عن عائلته ووطنه »‬لكنها علي أية حال لم تكن متفرغة لي ولا مشتاقة إلي بل أسلمتني إلي صبية كانت تعمل في المنزل اسمها (السمرة) لتقوم برعايتي وكان علي أمي وظيفة إرضاعي فقط».
لكن الذكري الأبعد التي لم تستطع التخلص منها لم تكن الإهمال ولا الإبعاد، بل إحساسها الدائم بأنها خرجت لعالم لم يكن يريدها، لأم حاولت التخلص منها في شهورها الأولي داخل رحمها »‬عشر مرات حملت أمي، خمسة بنين أعطت إلي الحياة وخمس بنات، ولكنها لم تحاول الإجهاض قط إلا حين جاء دوري» هذا ما لم تكن تستطيع إغفاله وغض الطرف عنه. حتي إن تاريخ ميلادها نفسه ضاع في ضباب تلك السنين، وكأن الأهل يؤكدون رغبتهم الحقيقية في عدم استعدادهم لتقبلها، وعندما احتاجت لتوثيق ميلادها في جواز سفر لأول مرة، كان التأكيد الوحيد علي ولادتها منقوش علي شاهد قبر، تحكي: في عام 1950 كان علي أن استخرج أول جواز سفر لي. قالت أمي »‬أنا أدلك علي مصدر موثوق حيث يمكنك التيقن من عام ميلادك؛ فحين استشهد ابن عمي كامل عسقلان كنت في الشهر السابع من الحمل، وكنت أحب ابن عمي كامل حباً شديداً، لم يكن لي أخوة فكان هو أخي. فارس يبهر الأنظار بقامته الفارعة، وطلعته الخلابة، وذكائه الحاد، وخفة دمه ودماثته. شعرت بدمي يحترق يوم الفاجعة. رحت أصرخ وأبكي مع أمه وأخته وكان وحيدهما، وكنت أنت تتخبطين وتقفزين في أحشائي من جانب إلي آخر، والنسوة في المأتم يطلبن مني الرحمة بالجنين ويقلن لي- اشفقي علي هذا الولد في بطنك، حرام عليك».
ولكي أتخلص من ذلك الشعور قلت لها وأنا أضاحكها: دليني إذن علي قبر ابن عمك كامل. فلم يكن أمامي إلا أن أستخرج شهادة ميلادي من شاهد قبر». وقدرت ولادتها علي أنها كانت في عام 1917.
في هذا الجو، وفي هذا البيت الذي حجب عنها كل العالم الخارجي انسحقت طفولة فدوي وجزء من شبابها، عودتها تلك الضغوط كلها علي الانكفاء علي النفس والغياب داخل الذات، تحصنت بالعزلة عن كل ما يضايقها، كانت تعيش مع عائلتها بجسدها فقط، لكنها في الواقع داخل عالمها الخاص الذي لم يكن يستطيع أحد اقتحامه، فكيف تعيش وتتفاهم مع ما لم يكن يؤمن بالحقيقة البديهية في أن المرأة إنسان »‬يتوق إلي الحياة والفرح مثلما يتوق ويتطلع أي كائن بشري آخر» ورغم ذلك كان القدر يخبئ لها مفاجأة داخل هذه المعاناة، فوسطها عاد أخاها إبراهيم من بيروت حاملا شهادته من الجامعة الأمريكية هناك، ومع إقامته في نابلس بدأت سطور جديدة في حياة فدوي.
أخذ إبراهيم علي عاتقه مهمة تعليمها الشعر، إصلاحها وتعويضها عما فاتها، إصلاح نفسها وإعادة تأهيلها لاستقبال الحياة »‬كان إبراهيم المصح النفسي الذي أنقذني من الانهيارات الداخلية.. نسيت شقائي كله، وانسحاقي كله، ورحت أعيش المستقبل في حاضري الذي جعله إبراهيم مرجا أخضر وحقلا من حقول القمح الواعدة».
أي دور يلعبه الحب في حياة فدوي؟ لو لم تكن أحبت الفتي صاحب الستة عشر عاما، لو لم تكن حددت إقامتها في المنزل، لو كانت استمرت في المدرسة، لم يكن إبراهيم يلتفت إليها ليؤهلها ويدلها علي بدايات الطريق!
هكذا كانت تفكر، فالحب نفسه الذي حرضها علي الشعر، وهو الذي ظل يداعبها ويحرك خيالها مع أول قصائدها المنشورة، الأغرب أن يكون يوسف نفسه الذي تسبب في بقائها بالمنزل هو أول من يسعي إلي نشر أشعارها، حمل قصيدتها التي كتبتها في أخيها إبراهيم، ونشرها في جريدة »‬مرآة الشرق» التي كان يصدرها في القدس الصحفي الفلسطيني بولس شحادة »‬لم تفرحني المفاجأة العظمي، بل صعقتني. وربط علي قلبي هم ثقيل: ما هذا؟ اسمي في الجريدة؟ كيف سيكون وقع هذا الأمر الخطير علي أبي؟ حتما سيحرم علي كتابة الشعر بعد اليوم. بقيت تحت الكابوس إلي ما بعد الظهيرة، وحين دخل أبي الدار ركضت واختبأت في غرفتنا غرفة البنات وقبعت ألهث في انتظار سقوط السقف علي رأسي - ولكن، ولدهشتي، لم يسقط السقف، فأبي لم يعلق بأية كلمة.. وتنفست بارتياح عميق. وأتاح لي هدوء بالي الآن التفكير بالغلام الذي أحبني وأحببته: تري كيف سيكون إحساسه حين يقرأ اسمي في الجريدة؟» ومرت الأيام وتلتها عشرات الأعوام ولم تعرف فدوي جواب السؤال قط، فقد اختفي الغلام وغاب عن عينها إلي الأبد.
اختفي الغلام لكن ظهر آخرون لتستمر الدفعة الشعورية نفسها التي تحرك فدوي في أغلب قصائدها، فهي لم تكن تري في الحب مجرد تأكيد لأنوثة المرأة، بل ظل –نتيجة ما سبق كله- تأكيدا علي إنسانيتها المسحوقة، وإنقاذا لها »‬بقيت طوال عمري مشدودة إلي الحب. مدفوعة بعاطفة شعرية يصعب توضيحها. فكما تستجيب الطيور بصورة غير إرادية لاتجاهات المجال المغناطيسي في تحديد اتجاه طيرانها، كذلك ظلت استجابتي للحب، وبقي هو الشعلة الأكثر اجتذابا في مجالات الحياة المختلفة».
كانت فترة حادة مشتعلة، ورغم ذلك انطلقت فدوي في عالم الشعر والشعراء، نفس مكبوتة تتفتح لأول كلمة حب تأتيها علي صفحة رسالة، »‬حب بالمراسلة.. كنت أقع في هذا اللون من الحب الخيالي وأغوص فيه» في تلك الفترة ظهر حب جديد في حياة فدوي، حيث يشير المعداوي في إحدي رسائله إلي قصيدة نشرتها فدوي طوقان بتوقيع: »‬المطوقة»، وحسب تفسير رجاء النقاش فإن فدوي قد وقعت بعض قصائدها بهذا التوقيع أكثر من مرة، حيث وجد لها قصيدتين وقعتها بهذا التوقيع. الأولي هي قصيدة »‬غب النوي»، وقد نشرتها في العدد 845 من مجلة »‬الرسالة» بتاريخ ۱۲ سبتمبر ۱۹4۹ ومطلعها:
مضيت؟ إلي أين؟ هلا تعود
إلي، إلي روحي اللائب
حنانك، ضقت، وضاقت حياتي
بهذا الصدي المحرق اللاهب
بأشواقي العاتيات تزلزل صدري
في عنفها .. الصاخب
حنانك قلبي يذوب وراءك
أواه من قلبي الذائب
تلفت، وراع بقاياه تذوي
وتفني مع الأمل الغائب
أما القصيدة الثانية التي نشرتها فدوي بالتوقيع نفسه، فهي قصيدة »‬من الأعماق»، ونشرتها في العدد 846 من »‬الرسالة»، الصادر بتاريخ 19 سبتمبر ۱۹4۹ ومطلعها:
سرت وحدي في غربة العمر، في التيه المعمي، تيه الحياة السحيق
لا أري غاية لسيري، ولا أبصر قصدا يوفي إليه طريقي
وأنا في توحشي، تنفض الحيرة حولي أشباح رعب محيق
وتوقيع »‬المطوقة»، الذي اختارته فدوي حسب تفسير النقاش مشتق من الحروف الأصلية لاسمها »‬طوقان»، من ناحية، وهو من ناحية أخري يدل علي الحالة النفسية التي عبرت عنها في هاتين القصيدتين، بل في قصائد عديدة مشابهة كتبتها في تلك المرحلة، وهاتان القصيدتان بالذات تعبران عن تجربة عاطفية روحية عميقة التأثير في نفس فدوي، أما طرفها الثاني فكان شاعرا مصريا اشترك - متطوعا في بعض معارك حرب فلسطين (۱۹4۸ -1949) والتقي بفدوي في هذه الفترة وكان بينهما حب روحي عميق، ثم افترقا بعودة الشاعر إلي مصر، وعلي أثر هذه العودة كتبت فدوي هاتين القصيدتين، ففي القصيدة الأولي »‬غب النوي» تقول:
مضيت؟ وكيف؟ ألا رجعة
ترد إلي القلب دنيا رؤاه؟...
لقد أقفر الكون في ناظري
وغشي الظلام مجالي رؤاه
وكيف أحس جمال الوجود
ووجهك عني تواري سناه؟
وتستمر القصيدة في هذا التعبير عن ألم الفرقة ووحشة البعاد وبقايا الذكريات، »‬والقصيدة رائعة صادقة في تصويرها لمحنة الفراغ النفسي والوحدة العاطفية بعد فراق الحبيب» يقول النقاش.
القصيدة الثانية »‬من الأعماق»، تدور حول نفس التجربة العاطفية الروحية التي انتهت بالفراق بين فدوي والشاعر المصري.. وتقول في هذه القصيدة:
وافترقنا وملء نفسي - لو تدري - أحاسيس هائمات حياري
وهواي المكبوت يجهش في صمت، وتهمي دموعه أشعارا
كم شجاني وداعك المر، كم ساءلت قلبي الممزق المستطارا
كيف كان الفراق؟ كيف انزوي وجهك عني في لحظة وتواري؟
وافترقنا، وبين كفي رسم، لم يزل كل زاد روحي المتيم
كم تلمست عمق عينيك فيه، وبعيني أدمع تتضرم
يا لقلبي، كم راح بين يديه، يهتك الحجب عن هواه المكتم
أصغ تسمع عبر الصحاري صداه، يترامي إليك شعرا مرنم
يعود النقاش لتفسير التواري خلف اسم »‬المطوقة» أحيانا و»‬دنانير» في أحيان أخري، فيقول إنها آثرت التوقيع بهذا الاسم المستعار، بسبب ما في القصيدتين من وضوح وصراحة عاطفية لم تكن مألوفة في شعر المرأة في تلك الفترة ۱۹4۹ وما قبلها، في حياة المجتمع العربي، خاصة أن فدوي إنما هي في آخر الأمر فتاة تنتسب إلي أسرة معروفة في نابلس، حيث يتغلب جو المحافظة علي جو التحرر والانطلاق. كما أن فدوي نشرت هاتين القصيدتين في مصر حيث يعيش الشاعر الذي كان موضوعا للقصيدتين، ولا شك أنها كانت بتوقيعها المستعار تحاول أن تخفف ما بدا لها أنه »‬عري»، في عواطفها، وتحاول أن تصنع لهذه العواطف غلالة رقيقة تخفيها بعض الشيء، فالتوقيع المستعار هنا هو تعبير عن حذر »‬الإنسانة الاجتماعية»، من »‬الشاعرة»، التي لم تعبأ بشيء غير صدق التجربة العاطفية فعبرت عنها بصراحة وانطلاق.
أما الشاعر المصري الذي كان موضوعا لهاتين القصيدتين فهو كما اسماه النقاش بالحروف الأولي »‬ك. أ» ورفض النقاش كتابة الاسم كاملا حتي في الطبعات التالية من كتابه عن رسائل فدوي والمعداوي، لأن رسالة أنور المعداوي التي ورد فيها ذكر الشاعر المصري ذاك حوت إشارات يمكن أن تسيء إلي سمعة حياته العائلية حيث جاء بالرسالة »‬.. لقد اشترك يوما في حرب فلسطين وجرح هناك، وأغلب الظن أن ما شهده من معارك قد أثر علي قواه العقلية»، وهو ما أكده النقاش نسبة إلي ما كان يتردد حول الشاعر في الفترة نفسها، كما أنه وقت نشر الكتاب كان لايزال يعيش ويكتب وينشر نتاجه الشعري الغزير، قليل التأثير حسب النقاش أيضا »‬وقد عجز الشاعر رغم موهبته عن تحقيق شيء له قيمة في الشعر العربي المعاصر، لضعف ثقافته، وبعده، في موضوعاته ونظرته للحياة والناس، عن روح العصر، حيث نحس ونحن نقرأ له بأنه شاعر من العصر الجاهلي يعيش بيننا».
صحيح كان هذا الشاعر هو أول مصري في حياة فدوي، لكنه لم يكن الوحيد، حيث تبعه اثنان آخران، الأول هو الشاعر إبراهيم محمد نجا، والثاني هو أنور المعداوي. والطريف أن حكاية نجا، وحكاية المصري الأول وردتا في رسائل المعداوي نفسه، حيث يتحدث في إحدي رسائله عن علاقة عاطفية كانت قائمة بين فدوي وبين إبراهيم نجا، وكان هو شاهدا عليها، وعلي نهايتها، حتي انه أشرف بنفسه علي إعادة رسائل فدوي إليها، والواضح من حديث رجاء النقاش عن الموضوع إن قصة العلاقة بين فدوي وإبراهيم كانت معروفة لدي عدد من الأدباء المصريين، »‬كان من السهل معرفة هذه القصة، لأن القصة كلها كانت لا تزيد علي مجموعة من قصائد الحب التي نشرها الشاعر إبراهيم نجا، ونشرتها فدوي، وكان من غير العسير علي الأوساط الأدبية التي تعرف الشاعر عن قرب وتقرأ هذه القصائد المنشورة أن تعرف مناسبتها وما وراءها من تجربة عاطفية».
يحكي النقاش أنه تأكد من العلاقة من طرفها الثاني نفسه الشاعر إبراهيم نجا الذي تعرف عليه في الخمسينات عن طريق المعداوي أيضا في الندوة الدائمة التي كانت تجمع المعداوي مع عدد كبير من الأدباء في مقهي عبد الله، بالجيزة، ثم في مقهي، أنديانا بالدقي، وقد روي له إبراهيم نجا قصة حبه لفدوي: قال لي (إبراهيم) أن علاقته بفدوي قد بدأت حوالي سنة 1948 وانتهت سنة ۱۹5۱ تقريبا، وخلال فترة علاقته بفدوي لم يرها علي الإطلاق ولم يلتق بها أبدا، وإنما اقتصرت علاقتهما علي الرسائل المتبادلة، وكان إبراهيم وفدوي يعبران عن عواطفها في هذه الرسائل، وفي القصائد المختلفة التي كتبها إبراهيم وفدوي، وقد سألت إبراهيم عن سر عدم تفكيرهما في الزواج رغم أن العلاقة بينهما قد بدأت قبل أن يتزوج إبراهيم، فقال لي: إن أسرة الشاعرة كما فهم من فدوي نفسها - جعلت من تقاليدها ألا تتزوج الفتاة إلا من الأسرة نفسها، وإذا لم تتزوج من الأسرة فمن الضروري أن تتزوج من بلدها نفسه: فلسطين، ومن أسرة ذات مستوي اجتماعي مشابه لأسرة الفتاة، وإذا لم يكن الزوج من الأسرة أو من البلد أو من نفس المستوي الاجتماعي فعلي الفتاة أن تظل حبيسة بيتها بلا زواج إلي الأبد.
تشكك النقاش في صحة التفسير الذي قدمه صاحبه، إلي أن تأكد بنفسه بعد أن روت فدوي معاناتها مع عائلتها في سيرتها الذاتية.
حاولت فدوي مقابلة إبراهيم في إحدي زيارتها للقاهرة، لكن فشلت هذه المحاولة لأنه كان قد غير عنوانه ولم تستطع الاستدلال علي عنوانه الجديد، لذا فإن النقاش يؤكد أن القصة بهذا الشكل لا تخرج عن أنه أحبها علي البعد من خلال شعرها وأنها أحبته علي البعد من خلال شعره، وأنهما لم يلتقيا أبدا وجها لوجه، وإنما التقيا »‬شعرا لشعر». مختتما تعليقه بالتأكيد علي أن تلك العلاقة العاطفية التي كانت بين فدوي طوقان وإبراهيم نجا عاشت في مشاكل متعددة، وكانت تنتقل من فشل إلي فشل، ومن حزن إلي حزن، ولم تثمر إلا بعض الشعر الجميل والرسائل الجميلة »‬لكن التجربة ستظل علي الدوام رمزا لعذاب الإنسان العربي الحساس وهو يحاول التخلص من قيوده وأغلاله في عصر الرومانسية الذي بدأ يذوي ويتلاشي في المجتمع العربي منذ الخمسينيات».
غير أن فدوي نفسها تقول في سيرتها إنها كانت في القاهرة وقابلت بالفعل »‬إنسان كنت قد أحببته قبل أكثر من عشرين عاما لم نلتق خلالها أبدا. كنت قد أحببته إلي حد الرغبة في الموت» تحكي فدوي القصة في إطار مراقبتها لنمو شخصيتها وتطور أحوالها، فتستغرب من أنها قابلت هذا الإنسان الذي كان »‬أول حب واقعي وحقيقي» ورغم ذلك وجدت نفسها تسلم عليه بالحيادية التي تصافح بها أي شخص لم تربطه بها أيه عاطفة رغم تأكيدها علي قوة الحب الذي وصفته بالحاجز الذي اعترض نهر حياتها وأوقف جريانه، لتؤكد لنفسها أنها مع كل قصة تنتهي ورغم الألم الذي تخلفه وراءها فإنها تولد من جديد »‬إن نهر حياتي يسير، ولن أسمح لأي حاجز باعتراض مسيره وإيقافه عن الجريان بعد تلك التجربة المهلكة. وما أغرب قلب الإنسان!».
أما قصة الحب الأشهر فهي التي خلدها النقاش في كتابه عن فدوي وأنور المعداوي، الذي نشره عام 1976 أي بعد عامين من استلامه لرسائل المعداوي من فدوي، وقد بدأت تلك العلاقة عندما عرض المعداوي علي فدوي أن ينشر لها شعرها في ديوان، وقد قام بذلك فعلا، حيث نشر ديوانها الأول »‬وحدي مع الأيام» وتؤكد الرسائل تطور العلاقة بينهما أثناء مراحل نشر هذا الديوان وبعده، وكيف توطدت تلك الصداقة لمراحل أبعد، لولا شخصية المعداوي نفسه والأمراض التي أصابته والتي ابتعد بسببها عن التواصل مع الناس لفترة، وانقطع حتي عن التواصل مع فدوي، حتي ظنت أن ما بينهما قد انتهي، لأنها لم تكن تصدق أنه مريض بالفعل، وهو ما لامت عليه نفسها بعد ذلك، خاصة وأن من بين الأمراض التي تكاثرت عليه ما يمنعه من الزواج بحسب تفسير النقاش ورؤيته.
وقد حاول النقاش أيضا أن يصل إلي مغزي غياب رسائل فدوي إلي المعداوي فقال إنها ربما كانت تعاني من الجزع والخوف من أن يعرف أحد أسرار قلبها عن طريق آخر غير طريق الشعر، إنها في رأيه تستطيع وترغب في أن تكتب شعرا عن الحب وعن مشاعرها العاطفية.. أما أن يعرف الناس شيئا محددا عن هذه التجارب العاطفية فهو ما تخشاه وتهرب منه، ولذلك فهي تحرص دائما علي التخلص من رسائلها العاطفية باستردادها من أصحابها أو بأن تطلب إليهم إتلافها، أو تتخلص من هذه الرسائل بأي وسيلة أخري، »‬وقد حاولت أن أعرف مصير رسائلها إلي المعداوي، وكان المعداوي قد وضع كل الرسائل التي كانت تصل إليه في صندوق كبير، ومات المعداوي فجأة، فبقي هذا الصندوق علي ما هو عليه حتي قام أحد أصدقائه وهو الأديب الأستاذ علي شلش بالبحث في هذه الرسائل تمهيدا لنشر ما يستحق النشر منها، ولم يجد في هذا الصندوق أي شيء من رسائل فدوي طوقان، وقد سألت الفنان الشاب الأستاذ شاكر المعداوي ابن شقيق أنور المعداوي وهو الذي يحتفظ بأوراق عمه عن رسائل فدوي، فقال لي إنه لم يعثر علي أي رسالة لفدوي طوقان بين أوراق المعداوي، ولم يتح لي أن التقي بفدوي - بعد لقائنا الوحيد في بيروت سنة ۱۹6۷ لأسألها عن مصير هذه الرسائل».
لذا اعتقد النقاش أن فدوي قد استردت رسائلها في حياة المعداوي، أو علي الأقل طلبت إتلافها وقام المعداوي بإتلافها بناء علي طلبها، أو أن المعداوي نفسه كان يحس بدنو أجله فقام وحده وبدافع ذاتي خاص بإتلاف هذه الرسائل، وقد أشار فعلا في إحدي رسائله ال 17 التي كتبها لفدوي إلي أنه أوشك أن يفعل ذلك عندما تعرض لأزمة من أزمات مرضه.
ظن رجاء النقاش أن فدوي طوقان اعتصمت بعالمها الداخلي ومشاعرها الخاصة، وأقامت بينها وبين الحياة نوعا من العزلة عقب مرض أنور المعداوي ورحيله المفاجئ، لكن المعلومات الجديدة التي ظهرت في كتاب الوراري الذي تضمن رسائل فدوي لثريا حداد تؤكد أن استنتاج النقاش لم يكن في محله.
التواصل بين فدوي طوقان وثريا حداد بدأ في مرحلة صعبة علي المستوي السياسي والاجتماعي، حيث كانت فدوي قد انغمست بالكامل في الجو السياسي، وصارت فلسطين ونكبتها قضيتها التي تحملها معها أينما ارتحلت، فلم تعد تلك الفتاة الصغيرة نفسها التي تعاني من تضييق الأهل وظلمهم، ولا حتي الشابة التي تبحث عن فرص التحقق في الشعر الذي عشقته، حتي أن الجزء الثاني من سيرتها الذي بدأ عقب الهزيمة العربية والاحتلال، يبدو خاويا من أي حديث شخصي وكأن فدوي القديمة لم تعد موجودة، حلت القضية محل أي حديث آخر، وبدا الحديث السياسي يغلف أي حديث آخر، ملأته بحكايات عن تطورات القضية من الداخل، وحتي رحلاتها الخارجية كانت علي رأسها تلك المقابلة التاريخية مع جمال عبد الناصر.
القضية كانت حاضرة دوما في رسائل فدوي لثريا، التي تحدثت فيها أيضا عن وحدتها، وغربتها، عن تأثير الاحتلال علي حياتها، عن تطور أشعارها، ونمو شخصيتها، لكن ورغم ذلك تظهر »‬التجربة» الشخصية التي تكشفها الرسائل لتؤكد أن محرك هذه الرسائل ومحورها -علي الأقل في بدايتها- كان شيئا آخر مختلفا تماما.
تؤكد الرسائل أن علاقة حب جمعت فدوي طوقان وسامي حداد شقيق ثريا، ظهرت من الرسالة الأولي والتي جاءت بتاريخ 2/9/ 1977 وفيها ترد فدوي علي ما جاء في رسالة ثريا ومن الواضح أنها كانت تتساءل فيها عن مصير تلك العلاقة، وربما كانت تحاول إذابة فترة جليدية فيها، الرسالة بالكامل تضع إطارا عريضا لهذه العلاقة، تفسرها، دون حاجة إلي مفسر لذا ننشرها هنا كاملة:
العزيزة ثريا
مرحبا بك، أقولها من القلب.
فاجأتني رسالتك العزيزة. بلي، إنني أذكر الآن، فحديثك عن زيارتك لي عام 1961 ألقي الضوء علي زاوية معتمة من ذاكرتي، وأرجو أن تعذري ذاكرة غطت الحياة الصعبة مخزونها من الذكريات الحلوة. ها أنا أعود الآن إلي غرفتي في بيتنا القديم، وها أنا أراني هناك أجلس معك، ومع شقيقتك –إن لم يخطئ تصوري-.
ما أغرب هذا؟! مرة أخري أرحب بك، أنت يا أخت سامي ويا صديقته، وما أجمل أن تقوم الصداقة بين شقيقين يجمع بينهما التفاهم والتعاطف الأخوي الحميم.
سوف أدخل في صميم رسالتك الغالية مباشرة، وسامي هو نبضها الخفاق وجوهرها. لكن قولي لي يا ثريا، من أين أبدأ؟ ما أصعب هذا الأمر! تقولين إنه حدثك عني طويلا.. وتقولين إنه كان مسرورا بل سعيدا وهو يستعيد الحديث، والذكريات، ويقرأ الأشعار. ويسعدني أن أسمع منك هذا، أنا التي تحتضن أعماقها تلك التجربة التي بلغت من الجمال حدا يصعب معه التحدث عنها، تلك التجربة التي لا تقدر بثمن لأن عالم الروح والقلب لا يثُمَّن. ولكن..
هل حدثك سامي عن الصمت الجليدي الذي اكتنف صداقتنا الحميمية؟
إن الصمت لغة الغرباء، فهل قال لك إننا أصبحنا غرباء؟ في قلبي أشياء وفي نفسي أشياء وفي عقلي أشياء، ولكنني أصمت وأنكفئ علي نفسي لأن ما أريد قوله لا يقال إلا في جلسة أكون معك خلالها وجها لوجه وليس عبر هذه المحيطات التي تفصلنا.
علي أي حال، كان آخر ما جاءني منه رسالة بتاريخ 17/ 12/ 1976 حدثني فيها عن نيته في البحث عن عمل في إيطاليا. وأجبته بتاريخ 5/ 1/ 1977 وانقطعت عني بعد ذلك رسائله فلم يكتب إلا بعد ستة شهور، وكانت بطاقة تحتوي علي ست كلمات أرسلها من إيطاليا، ومن المضحك المبكي أنني كنت في إيطاليا في نفس الوقت ووجدت البطاقة تنتظرني حين عدت من رحلتي في الأسبوع الأول من أغسطس.
أما لماذا لم يتذكر أن يسأل إلا بعد ستة أشهر، أما لماذا لم يفعل ذلك إلا وهو في مكان ما في إيطاليا، فهذا ما بقي غامضا بالنسبة لي.
شيء آخر ربما لم يتحدث به إليك. شيء يتعلق بزميل رديء له اصطلحنا علي تسميته باسم »‬iago” كان قد عمل علي تحطيم صورة سامي في نفسي، ولكن إعزازي وإيثاري لسامي كان أقوي من كل النذالات التي تعمل في الظلام، ورضيت أن تمتلئ نفس »‬اياجو» بالحقد علي، وأن يحمل لي العداء والضغينة إلي الأبد. رضيت بكل هذا لكي أحمي ظهر سامي من الكلاب العاقرة. فماذا كانت النتيجة؟ باختصار: sami has let me down!
سليه وهو يفسر لك، أما أنا فإنني عاجزة عن التفسير، وفي كل يوم –مع انقطاع سامي عن أي اتصال- أزداد شعورا بالعجز عن التفسير. ولقد كانت مقابلته الودية مع ذلك الزميل علي الهواء، إيذانا منه لي بأن كل ما بيننا وصل إلي نهايته. ومنذ ذلك اليوم لم أحاول التفكير في أن صداقتنا تعني قليلا أو كثيرا بالنسبة له. وكم يحزنني أن تنتهي الأشياء إلي ما انتهت اليه.. من طبيعتي أنني لا أشكو حين يجرحني الآخرون، بل ألتزم الصمت كأسلوب نظيف للتعبير عن نفسي.
مع كل ذلك، إنني مشتاقة إليه، بلا مكابرة. مشتاقة، مشتاقة كثيرا..
كتبت في روما قصيدة عن (حصار تموز لروما) فقد كان وجهه يطاردني في كل مكان هناك، وأدركتني لحظة ضعف وأنا في ميونخ بألمانيا، فقد كان حنيني إليه يشتد يوما بعد يوم. وبيضت القصيدة، وأودعتها غلافا كتبت عليه عنوانه في لندن. دخلت إلي زاوية صندوق البريد في قاعة الصندوق لأطلب طابع البريد.. وفجأة قام ذلك العائق النفسي فمنعني من تنفيذ رغبتي، وعدت إلي غرفتي أغالب رغبتي في البكاء، ولم أبك.. وانتصرت علي سامي..
وفي لندن –ولم أكن أعلم أنه في الخارج- وربما كان قد عاد إليها، قاومت الرغبة في الاتصال به، وكنت أموت شوقا إليه، وانتصرت.. حتي »‬جوبيلي» (شارع في تشيلسي حسب ما توضح في رسالة أخري) حيث كنا نلتقي في العام الماضي تجنبت المرور به، وكأن أجمل أيام حياتي لم تنزلق هناك من بين أصابعي وأنا أحاول التمسك بها وإيقاف الزمن معها.
لقد قتل سامي كل الأشياء الجميلة. وفي يقيني، بعد أن عرفته، أنه يملك موهبة تدمير الأشياء حتي لو كان الحفاظ عليها لا يكلفه أي جهد أو تضحية.
عفوك يا ثريا، هذه أول مرة أجد فيها متنفسا لما أنا عليه من ضيق وحزن، فأرجو أن تفهميني وتعذريني. لك محبتي أيتها الإنسانة الطيبة.
فدوي طوقان
2/9/ 1977
الدلائل كلها تشير إلي أن المقصود في الرسالة هو الإعلامي الفلسطيني سامي حداد الذي عمل في مجال الإعلام خلال العقود الأربعة الماضية منذ سنة 1974 في القسم العربي بإذاعة بي بي سي -وهي الفترة نفسها التي شهدت علاقته بفدوي- ومنذ العام 1978 شغل منصب رئيس قسم البرامج الإخبارية السياسية. في العام 1994 انتقل إلي بي بي سي الفضائية كرئيس للقسم العربي ومقدما للبرنامج الحواري ما »‬وراء الخبر».
انتقل إلي قناة الجزيرة سنة 1995، ثم انتقل إلي لندن ليقدم برنامجه أكثر من رأي من هناك لمدة خمس عشرة سنة قبل أن يتوقف البرنامج عام 2009. وهو مهتم بالموسيقي والمسرح ويقرض الشعر أيضا، حيث كان يكتب شعرا سياسيا في ستينات القرن الماضي، خلال مرحلة الأحزاب، والمد القومي العربي، بعد انتهاء تلك الفترة تحول شعره إلي الغزل. له ديوان بعنوان »‬القلوع الشاردة».
بالعودة للرسالة سنجد أن تدخل ثريا لم يكن بغرض التعارف فقط أو إحياء لصداقة قديمة، فالرد يحمل إجابات من الواضح أن كان لها أسئلة في رسالة ثريا التي ليست في حوزتنا للأسف، لكن الواضح أن الرسالة كانت في فترة صمت بين الطرفين، صمت أرعب فدوي التي تعرف معناه جيدا، وتخاف من تبعات تعرضت لها مرتين من قبل علي الأقل، صمت يتبعه غياب أكيد، وهو ما يرعبها، وعجزها عن تفسيره يزيدها رعبا، رغم ما قدمته من تضحيات، كما في حديثها مثلا عن »‬اياجو» الذي قالت إنه كان يعمل علي تحطيم صورة سامي عندها، لكنها رفضت ذلك وتحملت الحقد الذي ملأ قلب »‬اياجو» عليها. مع شعور الخذلان ذاك تناشد فدوي ثريا أن تسأل أخاها عن أسباب القطيعة، خاصة بعد أن قابل هو نفسه »‬اياجو» هذا بترحاب في مقابلة علي الهواء وهو ما اعتبرته هي »‬إيذانا منه لي بأن كل ما بيننا وصل إلي نهايته».
ولم يكن صمتها إلا عودة لطبيعتها القديمة التي جبلت علي الصمت والانزواء، ورغم ذلك كله تقول: »‬إنني مشتاقة إليه، بلا مكابرة. مشتاقة، مشتاقة كثيرا..».
في نهاية رسالتها الحزينة تلك لا تحاول قطع الطريق علي ثريا لإصلاح ما أفسده أخوها، بل تشرح بالتفصيل ما جري، تحكمها طالما ارتضت ذلك، ربما وجدت أنه من الضروري أن تعرف ماذا فعل بها لتكون رأيا واضحا في القصة كلها، وتعتذر، معترفة أنها لأول مرة تجد المتنفس للدفع بكل ما في صدرها عن هذه التجربة.
في الرسالة الثانية تحاول فدوي أن تخفف من حدة المسألة، تتصور أن الرسالة الأولي ربما تنقل عنها صورة غير صحيحة لصديقتها الجديدة، تطمئنها علي نفسها، تؤكد قوتها وأنها قادرة علي المرور والتجاوز، وأنها لم تكن لتكتب الرسالة الأولي بهذه الطريقة لولا أن رسالة ثريا قد نكأت الجراح في وقت كان الشوق قد غلبها فيه وتمكن منها، فكأنما كانت تريد أن تزيح عن كاهلها بضعا من هذا الحمل الثقيل، تقول: »‬لعلك تدركين الآن لماذا أريد أن أنهي هذا الفصل من كتاب حياتي. جميل أن نشاهد الدراما علي خشبة المسرح فنظهر بذلك عواطفنا وننفس عما فينا، ولكن من منا يرغب في أن تتحول حياته إلي دراما حقيقية يستمتع بها المشاهدون؟».
تستمر في الدفاع عن نفسها: »‬أنا لست »‬ماسوشية» المزاج ولا أحب أن أعذب نفسي من أجل أي إنسان، لذلك فإنني أقاوم دائما ولا أستسلم حين تدركني لحظات الضعف الإنساني، وهذا بالضبط ما حصل في رحلتي الصيفية هذا العام حين استشعرت الحنين إلي الوجه الذي أحببته، وكذلك حين فوجئت برسالتك الأولي إلي، فقد أيقظ حديثك أشواقي إليه، ولكنني بعد أن كتبت إليك الرد شعرت بالراحة والتحرر مما كان يضغط علي نفسي».
الرسالة الثالثة التي جاءت بتاريخ 8/ 12/ 1977 تؤكد نجاح ثريا في مسعاها، حيث تزف إليها فدوي بشري إذابة الجليد، تقول: »‬كسرت طوق الصمت قبل أيام، ولن يهون علي سامي أبدا. وإذا كان لا بد من أن ينتهي كل شيء في الحياة فليس من المحتوم أن يتم ذلك في جو مشحون بالمرارة وسوء الظن. سيظل سامي صديقا حبيبا مهما باعدت بيننا المسافات والحواجز التي تقيمها الكبرياء والمكابرة.. وعلينا أن نذعن للحقيقة التي تقول إن الحب يوسع القلوب ويضيق العقول.. أو هكذا أنا علي الأقل».
في الرسائل التالية تتعمق الصداقة، لكن تتعمق المأساة الفلسطينية في الوقت نفسه أيضا، فتفرض نفسها علي سطور فدوي التي كانت تعيش القضية وتتنفسها، لكن يطل سامي كل فترة عبر رسائل طمأنه من فدوي لثريا بأن الأمور تسير علي ما يرام وأن الحبال لا تزال ممتدة وإن كان يعوقها أحيانا تكاسله عن الكتابة »‬لاحظت أن سامي يضيق بعملية كتابة الرسائل، هو يحب أن يتلقي من الآخرين ولكنه لا يقوم بواجب الرد إلا متثاقلا ومتأففا. لذلك وجدت من الأفضل أن أجنبه هموم الكتابة، ولكنه يظل بالنسبة لي صديقا حبيبا».
في هذا التوقيت كانت فدوي قد بدأت تكتب فصولا من سيرتها الذاتية - صدرت في كتاب بعد ذلك بعنوان »‬رحلة جبلية رحلة صعبة» – في مجلة الجديد، وكانت ثريا تطلب موافاتها بالأعداد التي تحمل تلك المقالات الجديد منها والقديم، وفي إحدي رسائل الشهور الأولي من العام 79 تؤكد فدوي علي إرسالها الأعداد المطلوبة، وتقول في ختام رسالتها تلك أنها تلقت رسالة من سامي آملا في ختامها »‬أن يكون العام الجديد عام مصالحة ووصلا للقطيعة غير المتعمدة» وربما وجدتها فدوي فرصة للتأكيد علي موقفها من تلك العلاقة فتقول إنها رحبت به وسرت بمبادرته الجميلة، رغم أنها كانت قد بدأت تهييء نفسها لإنهاء تلك العلاقة »‬كان عندي دائما استعداد نفسي لأن ينتهي بنا الأمر إلي صداقة هادئة متسامحة لا تشوبها الشوائب. وهكذا نستطيع أن نقول الآن إن التجربة كانت رائعة البداية والنهاية».
تستشهد فدوي برواية »‬سوس الخشب» للكاتبة الإنجليزية ماري كوريللي وفيها يسأل صديق صديقه عما إذا كان مستعدا لأن يغفر له ما قد يرتكبه من خطأ معه. يفكر الصديق برهة ثم يقول: إنني علي استعداد للصفح عن أخطاء كثيرة لأصدقائي، ولكن هناك أمور لا يمكن أن أغفرها أو أن أصفح عنها، منها العبث بالثقة عن عمد. تحكي فدوي القصة بالتفصيل وتقول في نهايتها »‬أعتقد أنني أكثر تسامحا من بطل الرواية.. ولا أدري إن كان هذا ينم عن ضعف في طبيعتي أم عن قوة» والتعليق يشير إلي ما كان يعتمل في نفسها وقتها، ربما بداية تململ من هذه العلاقة غير الثابتة، أو ربما حتي تلوم نفسها علي استجابتها رغم تكاسل الطرف الثاني، وغيابه الذي بدأت تشك في أنه متعمد.
لكن يأتي العام الجديد ليحمل بدايات مختلفة للأطراف كلها، ففي منتصف 1980 تتعمق علاقة فدوي وثريا، وفي الوقت نفسه تتعمق أكثر وأكثر مع أخيها، ففي رسالة بتاريخ 14/6/1980 كتبتها من لندن تقول فدوي إن الأحاديث القصيرة مع ثريا عبر الهاتف علي قصرها وندرتها جعلتها تشعر كأنها تعرفها جيدا قبل أن تولد حتي، وأنها أقرب إليها من نفسها، وأنها غنية بها.
السطور السابقة يليها مباشرة ما يفسرها، فقد كانت فدوي وقتها تعيش أزهي فترات علاقتها »‬سعدت هذا الصيف بسامي كما لم أسعد من قبل. وعرفته كما لم أعرفه من قبل. سامي الحقيقة، وليس فقط سامي خيالي ورؤياي. إنه حقيقة جميلة يختصر فيه كل الجمال الذي في هذا العالم. كم هو حبيب إلي قلبي وروحي».
في هذه الرسالة القصيرة تؤكد فدوي إلي أي حد وصلت العلاقة مع سامي والثقه في أخته، تكتب: »‬أكتب إليك الآن في ساعة مبكرة من هذا الصباح، فيما هو يغفو ويفيق علي تحركاتي في البيت، والتي أحاول جهدي أن تكون خفيفة لا تحس ولا تلمس ليظل هانئا في غفوته. سمع قبل لحظات صوت عود ثقاب فيما أشعل السيجارة، فرفع رأسه وقال مندهشا: تدخنين الآن؟ قلت: أريد أن أشرب قهوتي وأكتب إلي ثريا».
وكأنما تستكثر تلك السعادة علي نفسها، فتفسر تطور علاقتها لثريا وربما لنفسها في الوقت نفسه »‬ما أقل لحظات السعادة في هذا العالم المضطرب والتعيس، هذا المحيط الواسع من الشقاء، فلماذا لا نغتنم قطرات السعادة النادرة حين تجود بها علينا السماء!».
في الصيف نفسه تلقت ثريا رسالة من فدوي تفسر الحالة التي تعيشها، لكن دون مقدمات أو كلام كثير، فقط، قصيدة قصيرة، تقول فيها كل شيء:
ثلاث سنين من صمت وغربة.. فما أحلي مصالحة الأحبة
غفرنا للزمان الصعب ذنبه.. وكم جار الزمان وكم تعدي
ثريا يا أُ خيَّةُ يا حبيبة.. لأهل العشق أطوار غريبة
طبائعهم مركبة عجيبة.. بها عنف الصراع كم استبدا
همو حينا علي قلق محير.. وحينا في انتشاء لا يفسر
تناقض حالهم أمر مقدر.. يدور عليهمو نحسا وسعدا
وعالمهم يظل رؤي ووهما.. وقد تمسي الحقيقة فيه حلما
علي أنا نحب الحب مهما.. تقلب بحره جزرا ومدا
نسيم السلط في »‬جوبيلي» بليل.. وشمس »‬شكيم» ليس لها أفول
وبستان الرضي حان ظليل.. نزهر فيه دحنونا ووردا
فلا قرت عيون الشامتينا.. ولا هنئت نفوس العاذلينا
سنبقي رغم كيد الحاقدينا.. نفيض محبة ونفيض ودا
سلام من نسيم »‬التميز» أندي.. وشوق يا ثريا ليس يهدا
هنا فدوي، هنا سامي المفدي.. صفا لهما اللقاء وطاب وردا
شهد ذاك الصيف ذروة ما عاشه هذا الثنائي من تقارب، وظل يرد صداه في الرسائل حتي بعد عودة فدوي من لندن »‬ها أنا بعد عودتي من لندن أحس بقلبي مثقلا بكل الحنين والشوق والبعد المكاني، أحيانا أغيب في حلم يقظة جميل، وأصبح خارج حدود المكان والزمان وأجدني هناك، معه، جنبا إلي جنب ويدا في يد: يا زمان الوصل كم كنت سخيا!».
لكن الصيف نفسه يشهد صراعا كبيرا، ليس صراعا بين الثنائي، لكنه صراع فدوي مع نفسها، تصارع أفكارها حول هذه العلاقة، تصارع أفكارها حول الحب أيضا، وبالتأكيد حول التوقيت الصعب الذي تعيشه المنطقة بالكامل، وهي التي استغرقتها القضية حتي أصبحت معها شيئا واحدا لا ينفصل، تفكر مع صديقتها، رسول تلك العلاقة وحارسها، فتقول: أفتح لك قلبي الآن فاستمعي لي يا أعز الناس.. أجلس أحيانا وأقول لنفسي، هذه العلاقة الخالية من العقل والمنطق يجب أن تنتهي إلي صداقة طبيعية وسليمة. إلي متي أبعثر الزمن وأطارد الأوهام؟ لقد آن للقلب المجنون أن يعقل، وآن للهوي العاطفي أن يتوقف. حين تجيء الأشياء متأخرة تضعنا يا ثريا في مخالب الصراع، صراع العقل والقلب، وما أشد الألم وما أوجع التمزق النفسي. لقد تعبت عيناي من التحديق داخل النفس والقلب.. أذهب دائما في العمق وأستغور الأشياء فيزداد تمزقي وعدم اقتناعي بعقلانية هذا الأمر كله. إنه يؤرقني ويملؤني بالكآبة».
تعود لتذكر الصيف السعيد، ويعود التفكير ليمزق سعادتها، فتقيم المسألة من بدايتها، خاصة فترات الصمت الطويلة »‬خلال العام الماضي نعمت بهدوء نفسي مريح. خلت أن الأمر انتهي إلي الحال الطبيعية المعقولة والمقبولة، ولكن لقاءنا السعيد هذا العام عاد فجدد الأشياء وحرك الحياة، وهنا أدركت أن الحب كشجرة الورد تحيا بالرعاية والعناية وتموت بالصمت والإهمال واللامبالاة. وها أنا أتراوح بين المشاعر المتضادة، سعيدة وشقية في آن، أشتاق وأحلم بصيف قادم.. وألعن نفسي وقلبي.. وأشتهي الموت والراحة.. فالحياة حلم والموت يقظة وراحة أبدية».
الرسائل التالية تثبت أن ثريا لم تكن حارسة فدوي ومرشدتها في حبها فقط، لكن الأخيرة أيضا أصبحت تقوم بالدور نفسه معها، حين وقعت في »‬المأزق» نفسه، بعد أن توطدت العلاقة بينهما إلي حد أصبحت فيه ثريا هي الأقرب لفدوي علي الإطلاق »‬لقد انتهيت إلي يقين أكد لي أنك خير صديقه يمكن أن يصطفيها قلبي، وأنني أستطيع أن أفضي إليك دون حرج بكل ما بداخلي، فأتحدث بارتياح وبلا تحفظ، وأبرز أمامك نقاط ضعفي ونواحي نقصي، وأنا متأكدة من أنك علي استعداد لتقبل وتفهم أخطائي الإنسانية. لقد أعطيتني الثقة بأنك صديقة حقيقية تعتبر نفسها أنها هي أنا، وأنها لا يمكن في يوم من الأيام أن تأخذ ضدي ما أفضي به إليها، كما حدث لي مع الأخريات من الصديقات الغادرات» كانت تلك المقدمة تقديرا من فدوي للسر الشخصي الكبير الذي أفضت به ثريا إليها، ولتبارك لها حبها وتجربتها الجديدة.
الرسالة العشرون التي كانت بتاريخ 26/ 12/ 1982 جاءت لتؤكد أن فدوي قد اتخذت قرارها تجاه علاقتها بسامي وإن لم تقل ذلك مباشرة، لكن الرسالة وإن كانت في بدايتها ومجملها تعليقا علي رحلة فدوي لأمريكا ولقائها بثريا هناك، إلا أنها حملت في المنتصف هجوما شديدا علي سامي لم تتضح معالمه ولا أسبابه، لكنه كان ينذر بقرار الابتعاد، وبموقف سلبي أخذه منه الجميع حتي أخته نفسها، تقول فدوي مثلا »‬هذا هو سامي علي حقيقته، يظل دائما سجين أنانيته ولا وزن للمشاعر والعواطف الإنسانية في مقاييسه وموازينه» وتقول أيضا »‬إن لديه نزعة قوية وغير نبيلة تدفعه إلي العمل علي استقطاب المرأة التي شاء سوء حظها أن تلتقي به في درب الحياة، فيتودد ويساير ويحايل ويتصنع (الجنتلمانية) حتي إذا ما تم له إرضاء غروره وأنانيته المقيتة راح يتملص ويتهرب».
وكان طبيعيا بعد هذا الهجوم العنيف أن تختفي أخباره من الرسائل المتبقية.
»‬لا غرابة في أن يحب القلب الواحد أكثر من مرة، فمن الشذوذ أن يتجمد قلب الإنسان عند شخص معين طول الحياة. إنها ظاهرة طبيعية أن تنشأ في القلب وتتكرر أكثر من علاقة، وفي كل مرة تكون للعاطفة نفس القوة السابقة والصدق والفوحان، ولا مكان هنا للأهواء العرضية والطيش والعربدة».
الكلام السابق قالته فدوي نفسها في سيرتها، وكأنها كانت تعرف مسبقا ما قد يقال من قاصري النظر، ومدعي الفضيلة، هي نفسها أيضا قالت »‬إن معرفة التجارب الخام ضرورية لكي نري إلي أي مدي نجح الشاعر في إحالة هذه التجارب واستغلالها في عمله الفني» لذا نشكر من سمح بنشر الرسائل الجديدة، ونقول بقلب مطمئن أنها تفتح الباب لإعادة قراءة قصائد فدوي طوقان »‬علي نور ساطع جديد» تماما كما قال رجاء النقاش في تقديمه لرسائل المعداوي التي قدمت مفتاحا لمعرفة وفهم شخصية المعداوي ومحنته وشعر فدوي ومأساتها الشخصية في الوقت نفسه أيضا، يقول النقاش إن قصائد فدوي تزداد قيمة وجمالا وأهمية وتأثيرا في النفس عندما ترتبط برسائل أنور المعداوي، بل إنه قرأ من خلال أشعار فدوي نفسها المساحات الناقصة في تجربتها مع المعداوي، فيقول مثلا إن قصيدة »‬دوامة الغبار» مثل رسائل المعداوي نفسها التي تقطع بأن العلاقة بينهما وصلت إلي قمة التجاوب العاطفي، وأننا نستطيع أن نقرأ القصيدة علي ضوء ارتباطها ب»‬الأزمة» التي نشأت بينها وبين المعداوي، وفيها كما رأي حبا حقيقيا لا شك فيه بين القلبين، وتقول فدوي في مطلعها:
عام قريب
كانت حياتي قبله
شبحا يدب علي جديب
بالقدر الرهيب
حتي رآك
روحي تهل علي كآبته
فتترعه يداك
فرحا وإشعاعا غريب
عام قصير
سرنا معا فيه علي دربي الوعير
جنبا إلي جنب، وملء عيوننا
دفء الشعور
والقصيدة وفقا لقراءة النقاش تكشف الأزمة النفسية للشاعرة، وتكشف أيضا الدور الذي لعبته شخصية المعداوي عن طريق رسائله في نفس فدوي وقلبها وحياتها العاطفية.
والفكرة نفسها يمكن تطبيقها علي قصائد أخري كثيرة، كقصيدة »‬انتظرني» التي كتبتها من وحي علاقتها العاطفية مع المعداوي، وأيضا قصيدة »‬العودة» التي كتبتها بعد أن عادت علاقتهما عقب قطيعة دامت ما يقرب من عام كامل، وتقول في مطلعها:
وأطل وجهك مشرقا من خلف عام
عام طويل ظل في عمري يدب كألف عام
عام ظللت أجره خلفي وأزحف في الظلام
وعواصف ثلجية تصطك حولي والطريق
كانت تضيق كأنها أمل يضيق
ويضيع في تيه القتام
ومن هنا تلعب الرسائل دورا كبيرا في إلقاء الضوء علي شعر فدوي طوقان، وتساعدنا علي فهم جانب هام من جوانب هذا الشعر الذي يحتل مكانة كبيرة في الأدب العربي المعاصر.
الرسائل الجديدة والقديمة تتيح للباحثين والدارسين فرصة لإعادة قراءة أشعار فدوي خاصة في تلك الفترات التي تشير إليها الرسائل، هذا هو الغرض الأساسي الذي سعي إليه النقاش وهو الغرض من الإشارة إلي الرسائل الجديدة التي نشرها الوراري.
الرسائل تكشف تجربة عاطفية جديدة لفدوي طوقان، ونشرها بالتأكيد ليس غرضه الفضح ولا النبش في حياتها الخاصة، ولكن دراسة المنتج الذي خلفته تلك العلاقة، لشاعرة كان الحب بالنسبة لها يحمل مفهوما مختلفا، لم يكن شيئا عاديا ولم تكن نظرتها له نظرة عادية أيضا، الحب أنقذ حياتها، وأخرجها من »‬القمقم» الذي ظلت حبيسة له فترة طفولتها وجزءا من شبابها، أعاد تكوينها، ورسم لها خارطة حياة جديدة، لذا ظلت تبحث عنه طوال حياتها.
كانت فدوي طوقان تؤمن بالحب وتصدقه، كانت تعرف قوته لذا تستسلم لتأثيره، لأنه عندها فكرة مجردة وعالم مطلق، ولأنها تعرف قوته علي ما تنتجه من أشعار أيضا، لقد أحبت الحب نفسه، وأقامت فلسفتها علي أن أملها من الحب هو الحب ذاته كما قالت لأنور المعداوي من قبل، وكما قالت في إحدي رسائلها لثريا حداد »‬أحب الحب ما دام قوة بناء تساعد علي إيجاد التوازن النفسي في الإنسان وتعطي النكهة الرائعة والمذاق الحلو للحياة» لكن عندما يتحول إلي قوة مدمرة فسرعان ما تغلق الباب في وجهه »‬أهلل له وأباركه ما دام يشعل خيالي، فألتصق به مدفوعة بعاطفة شعرية غامضة وأكون سعيدة، ولكني أرفضه وأهزمه حين يتحول إلي عود ثقاب يحرق ويشعل الآلام». لذا ظل قلبها حديقة للحب لا تذبل أشجارها أبداً.
كانت تري أن لحظات الحب تكثف إنسانية الإنسان؛ يخرج كما تقول من القطب الجليدي المعزول ويرحل إلي الوهج والإشراق، ويصبح الآخر كأنما هو الجسر إلي كون التمت أجزاؤه المبعثرة وأصبح كلا واحداً بلا انهيارات، هو بالنسبة لها الطريق إلي العافية النفسية والروحية بكل ما فيه من حلاوات ومرارات وتناقضات ومفارقات؛ كون جميل وقاس وحنون كالحياة نفسها. وهو بعد ذلك كله مفروض كالحياة والموت، خاصة علي ذوي الطبائع الشعرية، ولا مفر لهم منه »‬لا أحلي منه حين يلمس حتي توافه الأشياء، فيحيلها إلي أشياء جميلة وذات قيمة: فاتورة حساب في مطعم .. بطاقة دخول إلي مسرح .. زهرة جافة .. قلم حبر ناشف أو سائل، كل هذه وأمثالها من توافه الأشياء تصبح ثمينة نادرة حين يلمسها الحب»، لذا تنشد له أنشودة خاصة تقول فيها:
ما أحلي الحبّْ!
تتفتح فيه عيون القلبْ
ما أحلاه حين يمسُّ شغافَ القلبِ
فيبصرُ ما لا يبصرهُ العقلُ ويدرِكُ
ما لا يدركه الفكرُ ويسبرُ ما لا
تبلغُهُ الأفهامْ
ما أحلي الحبّ وما أبهاهْ!
كونٌ مكتملٌ ومعافي
لم يتشظَّ ولم يتمزَّقْ
يتناسق فيه العمرُ ويمسي
إيقاعًا كونيّ الأنغامْ
تتماهي فيهِ (أنا) مع (أنتْ)
تزهو بحوارٍ موصولٍ
حتي في الصمتْ
ما أحلي الحبّ وما أبهاهْ!
تجارب الحب لم تصقلها في أمور الحياة فقط، بل في أمور الحب نفسه، استطاعت أن تقرأ نفسها كمن يشاهد من علي البعد، وقالت كأنما تصف أحدا آخر: كان الخيال المشتعل يصنع هالة سحرية تطوق الإنسان المحبوب، فيضفي عليه ما ليس فيه. كنت أري النواقص، ولكن لم تكن النواقص في رأيي لتتعارض مع الحب، وأينا بحث عن مسيح يحبه؟ ظل المثاليون في نظرها يشكلون طبقة فاشلة من المحبين، فمثاليتهم تجعلهم يعرضون الأمر بشكل يسلخ عن الحب عنف إثارته، لقد آمنت دائماً أن الحب ثروة لا ندرك قيمتها إلا بعد أن نكون قد أنفقناها أو خسرناها في مضاربة. إن ما تقوله هنا لا يفسر أشعارها فقط بل يكتب أيضا الصفحات الناقصة في سيرتها، لتكتب سيرة حياة كاملة بالنجاحات والإخفاقات بأسباب التدفق الشعري وحجج الحبس إن كان قد احتبس شعرها يوما. فحين كان الزمن وهو تلك القوة التدميرية الجبارة يفعل فعله في الأشياء والعلاقات، لم تطل الوقوف عند الأطلال.. ولم تسمح للماضي أن يسرق المستقبل »‬فالماضي لص، يسرق ولا يعطي».
تتحدث فدوي في قصيدة »‬هو وهي» عن كل هذه الأفكار، وتكشف فيها عن وظيفة الحب بالنسبة لها في ظل الظروف القاسية التي عاشتها، وهي ظروف القهر الاجتماعي والعذاب النفسي. وهي القصيدة التي توقف عندها النقاش لكن ليقول إنه حب خيالي، مثالي يعتمد علي أحلام اليقظة ولا علاقة له بالواقع!
تقول فدوي:
كان لي الحب مهربا أحتمي فيه
إليه أفر من مأساتي
كان دنيا في أفقها الرحب أسترجع حريتي
أحقق ذاتي
يا لقلبي الموتور كم رنحته
نشوة الانتقام من جلادي
وأنا في مشاعر الحب غرقي
وهو خلف الأبواب بالمرصاد
أبوسع السجون خنق الأحاسيس
وقتل الحياة في الأعماق؟
من يصد الشلال عن سيره الكاسح
عن اندفاعه الدفاق؟
ويفسر النقاش: »‬هذا هو الحب كما تفهمه فدوي، وهو حب مقيد يستحق أن يثور عليه مجتمعنا ويتحرر منه، لأنه حب ناقص وهمي، ليس له وجه واقعي، مما يؤدي إلي الاضطراب والتعاسة في حياة الإنسان والمجتمع»، كان النقاش يري إنه لو كانت فدوي والمعداوي قادرين علي أن يخرجا بحبهما إلي عالم الواقع فربما كان من الممكن ألا تقع المأساة في حياة المعداوي، وربما لم يكن يصبح الحزن هو النبع الرئيسي في شعر فدوي.
غير أن المعطيات الجديدة تؤكد أن الحياة لم تتوقف بالنسبة لفدوي عند تجربة المعداوي، وأنها ظلت تتعامل مع الحب باعتباره المعلم الأول ربما حتي أيامها الأخيرة، فحتي »‬اللحن الأخير» آخر دواوينها الذي نشرته عام 2000 قبل رحيلها بثلاث سنوات قالت إنه خلاصة تجربة حب عاشتها مع رجل أحب عينيها وأحبت روحه، ألا يعد ذلك دليلا علي ما يعنيه الحب لفدوي دون حاجة لشرح أو دليل؟ ألا يستحق شعرها وحياتها كلها أن تعاد دراستها وفق هذه المعطيات كلها؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.