قصيدتي في رثائها لغة لا يعرفها الناس إلا الاصفياء منهم، الذين يدركون مكمن هذه اللغة ومرماها الأحد: وماتت هذه السيدة ورثتها اضلعي بقصيدة لم أكتبها، ولم يكتبها شاعر قبلي، ولن يكتبها شاعر بعدي، لأنها ليست من حروف وكلمات وموسيقي وزن، وجمال قافية من أختيار معبر عن مضمونها، مؤثر في قارئها، أو سامعها ملتزمة الصدق الفني الذي هو كذب مقبول، ذلك الصدق الفني الذي قد يأسرك ، فإذا بك تطيل البقاء معه ولا تود تركه إلا اذا حفظته، فصار جزءا من مروياتك أي صار جزءاً من حياتك. قصيدتي في رثائها لغة لا يعرفها الناس إلا الاصفياء منهم، الذين يدركون مكمن هذه اللغة ومرماها، فهي لغة الوجدان الذي قد يكتب فيه من لا يعرفه، وقد يخوض فيه من لا يؤمن به، هذا الوجدان الذي تمثل في دمعة مخاطب الشجرة التي كانت تجلس تحتها لأقول لها ما أحزنك اليوم! لم يسألني أحد من تخاطب؟ ولم تسألني هي: وما سر حزني هذا اليوم؟ ولكن أجابتني الشجرة، وسمعتها وأتحدي إن كان أحد قد سمع حوارنا وهو- ما أشد حزنك اليوم قالت: لا أحد أشد حزنا مني.، قلت: أنا: قالت: حزنك عابر، وحزني مقيم، وشتان بين المسافر والمقيم! قلت: بل حزني مقيم وإن كنت عابرا، فما كل عابر بتارك موطن حزنه بل إن من المسافرين من يأخذ وطنه في قلبه وهو مسافر فهو مقيم وإن كان يحمل جواز سفره، قالت: هل كنت تحبها؟ قلت جعلتني أحب الحياة كلما مررت بها. قالت: وأنا أشهد أنها كانت تحب مرورك، فشكرت صدقها وعرفت أن في الحب مرورا كما أن في الحب إقامة لكن حب المرور أقوي من حب الإقامة وكان الأولي بالجمال والعطاء واللذة حب الإقامة لكن ثقافتنا في حب الإقامة أساءت إليه فشوهت جماله، ونقصت من قدره فكان الملل وكانت السآمة، فحدث الشرخ في الجدار الصلب وهان من كان في الزمن البعيد لا يهون. ولمحتني الشجرة وأنا أنظر إلي ابنة المرحومة فتاة في العشرين من عمرها حلت محل والدتها. وفهمت الشجرة مني أني أقول لها: ما رأيك في ابنتها التي خلفتها أليس في الخلف من عوض؟ فقالت لي: لا وألف لا، فمن راح لا يعوض وإن كان من نظن أنه العوض جزءا منه، فما كل جزء بمشبه كله، كما أنه ليس كل شيء بمشبه جزأه، إنما يشبه الجزء الكل والعكس في الوجود النادر الذي هو أقرب إلي الخيال منه إلي الواقع. نعم كانت هذه الفتاة ناعمة المودة كأمها بيضاء كلونها، قصيرة كما كانت أمها، لكن قصر أمها كان أطول من الجبال الشم بما وهبها الله وبما اكتسبت من سحر الحوار وصفاء الروح وقدرتها علي أن تكون بعضا من محاورها سواء أكان سائق لوري أو راكب مرسيدس متعلما كان أو أميا، لقد كانت أمية فاقت الكثير من المتعلمين أقصد حاملي الشهادات الجامعية العالية، ورب إنسان يحمل ورقة وهو لا يساويها، ورب إنسان يحمل ورقة وهي لا تساويه، أما ابنتها فمخلوق لطيف، لكن حياء العذاري الذي لم يصطبغ بمزيد بيان عند النطق، أو يكسوه تعلم حركة كرفع اليد عند الدعاء، أو التوديع يجعل الفرق شاسعا بينها وبين أمها الراحلة لم أكد أصدق نفسي حين اتصلت بي وأخبرتني أنها خطبت فكفيتها عناء وانطلقت به سيارة الجمعية الخيرية التي أشرف عليها بسرعة البرق إليها، وسألتها: هل سأراك؟ مكان أمك في رحلتي إلي بيلا؟ فقالت لا فقلت، وما السبب؟ فقالت: إن خطيبي منعني أن أجلس مكانها ومعه الحق، فإن الناس قد اختلفوا كثيرا عن أيام زمان. وافقت خطيبها، لأنها بنت زمان تشعي فيه البنت خطيبا، وهي مرعوبة من الخطاب الذين يخرجون ولا يعودون، ويعدون ويخلفون، فإذا الخطيب بدت منه أمارات الجد، وأنه ناو بالفعل علي الزواج، ولا يأخذ من الخطيبة فترة تسلية أو اختبار فهنالك نجد البنت إما ساجدة له مطيعة، وإما متمردة شأنها في ذلك شأن كثير من الناس الذين يجحدون بالنعمة، فيكفرونها، وابنتنا من اللواتي يعرفن معني السجود للزوج باعتبار ما سيكون أو زوج المستقبل، والبنات في ذلك قسمان أيضا: ساجدة أيام الخطوبة حتي تتم الزيجة، وبعدها يكون تغيير الدين فتنتقل الي دين ليس فيه سجود فإن عاتبها الزوج وكان مما ذكر في عتابه، أين سجود زمان! أجابته: قل للزمان أرجع يا زمان وهات لي قلب لا داب ولا حب ولا أنجرح ولا داق حرمان، والثاني من القسمين بنت تسجد أيام الخطوبة، وتزداد طاعة وامتثالا بعد الزواج، لأنها عرفت معني واحدا هو السبب في هذا الجمال، ألا وهو الصدق، وفي إحدي رحلاتي إلي بيلا كفر الشيخ نظرت حين أقبلت علي هذا المكان فلم أجد الفرشة، فرحم الله صاحبتها ورحم كذلك ابنتها التي هي خلف قد تغير. المسجد كان الملاذ الإثنين: لم تكن في بيوت الفلاحين حمامات، فكان الرجال يقضون حاجتهم »يعملون حماما» في مراحيض المساجد، وقلما تجد مقبلا من بيته علي حمامات المسجد ينتظر دوره في دخول الحمام يهرب من الصلاة فينطلق مسرعا إلي غايته، بل كان كل من يدخل الحمام يتجه إلي الميضة فيتوضأ ثم يصلي ركعتي الصبح قبل أن تطلع الشمس، وبهذا يكون قد صلي الفجر حاضرا، والحمد لله. من الذي خرج من بيته وهو ناو أن يصلي؟ ومن خرج من بيته وهو ناو مجرد قضاء حاجته ثم صلي محرجا من الناس، ولولا أنه قام من نومه »مضطرا» لما جاء المسجد أصلا؟. لا أحد غير الله يعلم نية عباده، لذلك فالجميع في نظرنا ومعتقداتنا مسلمون مصلون، فإن سأل سائل، وهل تصح صلاة عبدصلي حتي لا يقال: تارك للصلاة، فالجواب: نعم سقطت عنه الفريضة قال الإمام ابن أبي جمرة وابن حجر في فتح الباري: كالزكاة تخرج من البخيل كما تخرج روحه من جسده، ويتقبلها الله منه، فالعبرة في العبادات بالأداء لا بالشعور. وأما النساء فكن يقضين حاجتهن في مكان بجانب الصفة التي بها مدخرات البيت أو خزينه. وخلف من بعد هؤلاء الذين عشت فيهم خلف ولدوا، فرأوا ببيوتهم حمامات، فأصبح من يزور المسجد إنما يزوره للصلاة لا لقضاء الحاجة، لأنه قضي حاجته بيته غير منتظر دوره إلا مع أهله فلم يعد مسوغ لمجيئه المسجد إلا أن يركع ويسجد، ويقول: اللهم افتح وارزق وتقبل آمين. مساجد بعدد الرمل الثلاثاء: وعلي طريق السفر مساجد بعدد الرمل، في بعض الطرق ما بين المسجد والمسجد بضعة أمتار، والعجيب أن لكل مسجد مكبر صوت يرفع منه الأذان في نفس واحد، ومن المعلومات التي ينبغي أن نعض عليها بالنواجذ ما ذكره السهيلي في الروض الأنف أنه كان بالمدينة المنورة في زمان رسول الله - صلي الله عليه وسلم - سبعة مساجد، ولا يؤذن في واحد منها، وإنما كان الأذان ينطلق بصوت بلال من مسجد النبي صلي الله عليه وسلم وحده، وكل مسجد يقيم لنفسه، ولو طبقنا هذا العلم لخفت حدة الإزعاج والتشويش الذي ليس من الإسلام في شيء، والمسافرون حين يدافعون خبيث الحاجة من بول وبراز يسألون عن المساجد ويعرجون عليها لقضاء الحاجة، ومنهم من يكمل فيصلي ومنهم من يقضيها ويفر إلي سيارته، ويكمل رحلته غير شاعر بالحرج، لأن المسجد الذي اتجه إليه لا يعرفه فيه أحد، كالمسجد الذي في قريته، فكل من دخله يعرفه. ومنذ أقيمت الاستراحات علي الطريق قل السائلون عن المساجد، لأنهم يستطيعون قضاء حاجتهم في الاستراحة مع تناول شيء من طعام أو شراب، أو شيشة، وقد رأيت في بعض الاستراحات من يسأل العاملين فيها عن أقرب مسجد لأداء الصلاة، بعد أن قضي حاجته بالاستراحة، وتوضأ، إنه يريد إذا المسجد للغاية الكبري والأساس التي من أجلها بني، ألا وهي إقامة الصلاة في جماعة وأنا أري أن بناء المساجد بهذه الطريقة علي الطرق بهذا العدد الكبير ليس من الإسلام، فالإسلام يدعو إلي بناء المسجد إذا اشتدت الحاجة إليه، بأن يكون هنالك بلقع مهجور، ولا مدينة ولا قرية لإقامة المساجد فيها، أو أن تكون المسافة بين المسجد والمسجد طويلة جدا بحيث لو فات المسافر مسجد فاته وقت الصلاة في جماعة حين يدرك المسجد الآخر، مع أنه يستطيع أن يصلي في أي مكان متي أدركته الصلاة، أما أن يكون بين المسجد والمسجد بضعة أمتار فهذا عبث بالمال، ومن سوء الفقه لهذا الدين، فإن المال الذي أنفق في بناء مسجد غيره يسد مسده، أولي به أن يبني بيت لأرملة ويتاماها، أو مدرسة ترحم الناس من تكدس أبنائهم في الفصول، أو مشغل أو مصنع يعمل فيه بعض العاطلين والعاطلات، هذا هو الدين الذي يأبي كثير منا أن يتعلمه، وأن يلتزم بتعاليمه، فلا يقولن لي بعض الهواة: من بني لله مسجدا ولو كمفحص قطاة بني الله له بيتا في الجنة، نعم هناك كلمات ناقصة يجب أن توضع في الاعتبار، وكأنها موجودة في النص، وتلك الكلمات الناقصة هي من بني لله بيتا أو مسجداً »والناس في حاجة إليه» بني الله له بيتا في الجنة، مهم أن يعلم الناس ذلك، وإلا حمل النص علي ظاهره، وهرع الناس إلي تحقيقه، ولو باغتصاب أرض، أو هدم منزل أقيم لمعيشة، وبناء مسجد مكانه حتي يبني الله لمن بناه بيتا في الجنة. ومثل ذلك فيما ينبغي أن توضع في الاعتبار كلماته غير المذكورة في النص قوله صلي الله عليه وسلم- أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين »أي أنا وكافل اليتيم (الذي مات أبوه وتركه فقيرا) كهاتين في الجنة، لأن من اليتامي من يكفلك أنت وأهلك، وهو من مات أبوه وتركه غنيا مليونيرا