رحل جمال الغيطاني لكنّ إبداعه لم يرحل. مسيرته كانت قصة كفاح ونجاح .هو المصري الجميل والعربي المنتمي الذي أنجبه ريف مصر واستطاع هذ الريفي أن يدخل المدينة بصخبها وضجيجها وتحولاتها وقضاياها واتساعها أو ضيقها لطموحات فرسانها أو صعاليكها، وأن يخرج من شقوق الصخر ويزهر مثل زهرة برية غير مدجّنة. كثير من القامات العالية التي تركت بصماتها وكانت صفحات مشرقة من تاريخ مصر جاءت من الأرياف ونجحت بما ملكته من إبداع أن تشغل مساحة واسعة في المشهد الثقافي المصري والعربي والإنساني ومنهم جمال الغيطاني الذي ساهم مع أبناء جيله في إثراء السرد العربي, واستطاع أن يجترح مشروعه المتدفق وأن يحافظ علي خصوصيته وهويته. عرفته عن قرب بعد قراءتي لروايته: الزيني بركات وقد فتنتني وجرحتني اذ استبطن التاريخ بما فيه من قمع وعسف وانفصال عن قضية الانسان في العهد المملوكي ليستنطق حاضرا قمعيا بوليسيا يعيد تكرار هزيمة مرج دابق من خلال هزيمة ونكسة عام 1967. كان واحدا من جيل الستينيات الذين شهدوا زمن الكبوة وأضمروا لشعبهم النهوض، وعبّروا من خلال وسائل التعبير كافة عن لحظة الصقيع من أجل وطن أكثر دفئا.عرفت فيه المثقف الدمث والودود، وعرفت في شخصيته المتعددة الانسان ذا المواهب المتعددة.فهو الروائي القاص، وهو الصحفي والمراسل الحربي، وهو الإعلامي الذي يقدم برامج تليفزيونية، وهو الباحث في تراث مصر المعماري والحضاري، وهو القريب من قامات مصر الإبداعية، وفي مقدمة هؤلاء الروائي الكبير نجيب محفوظ،وهو الذي قرّب الثقافة للمواطن العادي الذي يقرأ الجريدة من خلال إصداره لصحيفة علي هيئة مجلة، هي جريدة أخبار الأدب. كنت التقيه كلما زرت المحروسة، وكان مساندا للقضية الفلسطينية، وربط صلات حميمة مع أدباء فلسطين، وكثيرا ما التقيته والتقيت من خلاله بمبدعين آخرين .ولا تتسع هذه الكلمة المختصرة أن تلم بكثير من الذكريات الشخصية، لكن يمكن أن أذكر موقفين . الأول عام 2002 في اللحظات الأولي للاجتياح الإسرائيلي فيما سماه شارون عملية السور الواقي، والذي اجتاح كل مناطق السلطة الفلسطينية، دمّر فيها البيوت، وأزهق الأرواح، وحاصر الزعيم ياسر عرفات وطلب منه الاستسلام. في اللحظات الأولي رنّ جرس الهاتف فكان علي الطرف الآخر جمال الغيطاني ،وكان يقدّم برنامجا علي البث المباشر، وسألني عمّا يجري في رام الله والمناطق الأخري. وكنّا إذ ذاك نجتمع أنا وبعض القيادات الفلسطينية في مكان قريب من المقاطعة حيث مقر أبوعمّار، ونتحدث معه (أي أبو عمّار) علي هاتف جوّال. وكان بإمكان المتابع للبرنامج أن يستمع الي هدير الدبابات وقصف المدافع، وصوت عرفات وهو يردد جملته المشهورة : ع القدس رايحين شهداء بالملايين. كان عرفات يعرف أنّهم يراقبون هاتفه، وأراد من ترديد ذلك الشعار أن يرسل رسالة للإسرائيليين أنه قائد شامخ وشجاع يمتلك معنويات معنوية عالية. نقل جمال من خلال برنامجه ما يدور في هذا الاجتياح في لحظاته الأولي. وبعد البرنامج طلب مني أن أكتب يوميات الاجتياح لنشرها في »أخبار الأدب»، وهذا ما حصل إذ كتبت كل ما جري في الاجتياح بسرد أدبي ووثائقي نشر مسلسلا في أخبار الأدب، ثمّ نشرت الشهادة في كتاب بعنوان : يوميات الاجتياح.. شهادة ميدانية. والموقف الثاني عام 2004 وكنت برفقة محمود درويش في القاهرة بدعوة من د.سمير سرحان للمشاركة في فعاليات معرض القاهرة الدولي للكتاب. وكانت لمحمود أمسية حاشدة في احدي قاعات المعرض. وخطر لمحمود قبل أن نغادر القاهرة أن يزور الروائي نجيب محفوظ، فلم نتردد في الاتصال بجمال الغيطاني ليرتب لنا الزيارة. وفي اليوم التالي، رتّب لنا جمال لقاء في مركب علي نهر النيل يتردد عليه نجيب محفوظ، وكان معنا في اللقاء أصدقاء جمال وأصدقاؤنا يوسف القعيد، وعبد الرحمن الأبنودي، وصديق ثالث غاب اسمه عن ذاكرتي. كان اللقاء ودودا وحميما، فقد ربطت بين القامتين محمود درويش ونجيب محفوظ صداقة تعود الي العام 1971، إذ كانا يعملان في صحيفة الأهرام ويجمعهما مكتب واحد. في ذلك اللقاء جري حوار ثقافي وفكري تناول موضوع أدب الانتفاضة، وكان حول سؤال طرحه محفوظ إن كان الوقت قد أسعف المبدعين الغلسطينيين في إبراز ظاهرة يمكن أن نطلق عليها :أدب الانتفاضة. شاركنا جميعا في إبداء الرأي، وخلصنا جميعا الي أنّ الأحداث الكبيرة تحتاج الي وقت وزمن لكي تختمر ويتمثّلها المبدع ويحوّلها الي عمل كبير. ومن حسن الحظ أنّ جمال الغيطاني سجّل ذلك الحوار الهام، ونشره في عدد من أعداد »أخبار الأدب». وكم أتمني أن أعثر علي ذلك العدد، لنحفظ ذلك الحوار ضمن المواد التوثيقية التي نحتفظ بها في أرشيف متحف محمود درويش في رام الله.