في باريس توصلت الأطراف الأربعة الرئيسية في النزاع الليبي إلي اتفاق يقضي بتنظيم انتخابات رئاسية وبرلمانية في العاشر من ديسمبر من العام الجاري. رئيس حكومة الوحدة الوطنية الليبية المعترف بها من قبل الأممالمتحدة فايز السراج التقي بمنافسه الرجل القوي في الشرق الليبي المشير خليفة حفتر، قائد الجيش الوطني الليبي، بعد 10 أشهر علي آخر لقاء بينهما في سيل سان كلو بالقرب من العاصمة الفرنسية. وانضم إليهما هذه المرة كل من رئيس البرلمان الذي يتخذ مقرا في طبرق شرقي ليبيا ولا يعترف بحكومة الوفاق الوطني، عقيلة صالح عيسي، ورئيس مجلس الدولة المتمركز في طرابلس خالد المشري. الاتفاق غير ملزم ولم يوقع عليه أي طرف لأنهم "لا يعترفون ببعضهم البعض" إجراء الانتخابات يواجه عقبات سياسية وأمنية ولا توجد جهة عليا للفصل في النتائج والطعون الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وصف الاتفاق الذي جري التوصل إليه بأنه خطوة تاريخية صوب إعادة توحيد ليبيا وجلب الاستقرار إليها بعد الاضطرابات التي تعصف بها منذ أطاح تمرد سانده حلف شمال الأطلسي بمعمر القذافي في عام 2011. اللواء خليفة حفتر وفايز السراج ورئيسا البرلمانين المتنافسين اتفقوا علي بيان من ثماني نقاط دون أن يوقعوا عليه. ويحدد البيان العاشر من ديسمبر موعدا للانتخابات البرلمانية والرئاسية مع التزام بوضع الأساس الدستوري والقانوني للانتخابات بحلول 16 سبتمبر. لكن الأطراف لم تحدد في الاجتماع كيفية وضع هذا الأساس، سواء عبر تصويت علي مشروع دستور أو بسن قانون انتخابات جديد أو تبني الإعلان الدستوري الذي أعقب الانتفاضة في ليبيا. وبينما انعقد اجتماع باريس، واصل الجيش الوطني الليبي الذي يقوده حفتر حملة ضد جماعات إرهابية في مدينة درنة بشرق البلاد، حيث تقول الأممالمتحدة إن القتال له تأثير "مدمر". وقال الجيش الوطني الليبي إنه سيطر علي مواقع في حي السيدة خديجة داخل درنة بعد أن تقدم من أطراف المدينة. بيان باريس لم يأت علي ذكر القتال، غير أن السراج قال للصحفيين "دعونا إلي وقف الاقتتال في كل أرجاء البلاد.. كفانا ما نزف من دماء". ويقول محللون إن الصراع وبضع مئات الآلاف الذين شردهم قد يشوه نتيجة أي انتخابات. ويقول بعض الليبيين إن البلاد منقسمة بدرجة يتعذر معها التعامل مع انتخابات عامة. غير أن التزام الأطراف الرئيسية في ليبيا بإجراء انتخابات يواجه عقبات عدة، منها غياب إطار قانوني للاقتراع وتصاعد الصراع في أجزاء من البلاد. كما تفجر الصراع أيضا في الأسابيع القليلة الماضية بمدينة سبها في الجنوب علي الخط الفاصل بين تحالفين فضفاضين يدعمان المعسكرين المتنافسين في طرابلس وشرق البلاد منذ انتخابات متنازع عليها في 2014. اجتماعات الساسة الليبيين مثل الأسطوانة المشروخة!".. بهذه العبارة لخّص عبد الحكيم الساعدي نظرته إلي الاتفاق، ففي طرابلس كما في بنغازي لا يبدو أن الاتفاق أشاع أجواء من التفاؤل لدي المواطنين الغارقين في همومهم اليومية. الساعدي البالغ من العمر 62 عامًا، وهو أستاذ جامعي متقاعد، قال لوكالة فرانس برس "لم أجد الوقت لأشاهد التليفزيون أو لمتابعة الأخبار. أمضي وقتي أمام المصرف آملًا في الحصول علي بعض من نقودي لأشتري بها ما يلزم عائلتي في رمضان" ويضيف بينما هو يتبضّع في سوق للسمك "إذا توصّل لقاء الليبيين في باريس إلي شيء ملموس، لن أُتعب رأسي، ولن أحتاج متابعة الأخبار أو مواقع التواصل الاجتماعي، سأعرف، لأن حياتي اليومية سوف تتغير نحو الأفضل. الرحلات المكوكية التي يقوم بها وفود الساسة الليبيين جعلتهم مثل الأسطوانة المشروخة.. دائمًا الكلام نفسه، وفي الأخير لا نفهم منهم شيئًا". لا يحتاج الساعدي لكثير من الجهد لاستعادة ذكري اتفاق الصخيرات الذي توصل إليه أطراف النزاع الليبي في 2015 برعاية الأممالمتحدة ولكن طبّق بصورة مجتزأة مما زاد الوضع تعقيدا في بلد لم يعرف الاستقرار الأمني أو السياسي. غاية الحساسية تبدو المسألة برمتها في غاية الحساسية لأن مناوئي حفتر، الشخصية المهيمنة في شرق ليبيا والمرشح الرئاسي المحتمل، يريدون ضمان أن تكون السلطات الرئاسية والمدنية علي الجيش محددة بشكل واضح قبل إجراء الانتخابات. ملف الأمن تحد آخر في غاية الأهمية، حيث استهدف مهاجمون انتحاريون مقر مفوضية الانتخابات في طرابلس في مايو الماضي فقتلوا ما لا يقل عن 12 شخصا. كما لا يوجد في ليبيا قوات أمن وطنية للإشراف علي الانتخابات أو مؤسسات وطنية فاعلة يمكنها البت في الطعون القضائية. ولا توافق بشأن كيفية توحيد قوات الأمن وغيرها من الأجهزة المنقسمة، بما في ذلك البنك المركزي، وهو هدف آخر ورد في بيان باريس. الريبة واضحة من الجانبين. فبعض الجماعات المسلحة في غرب ليبيا، بما في ذلك مصراتة وهي قاعدة رئيسية للقوة العسكرية، تري فرنسا قريبة بشكل أكبر من اللازم من منافسها حفتر وعبرت عن معارضتها لمحادثات باريس قبل أن تبدأ. وفي الجانب الآخر شدد مصدر بالجيش الوطني الليبي علي أن حفتر لم يوقع علي أي اتفاق. وقال "الجلوس لا يعني الاتفاق ولم يتم التوقيع علي أي اتفاق في اجتماع باريس". وأصدر أكثر من 40 نائبا ببرلمان الشرق بيانا أيدوا فيها التعهدات الواردة في إعلان باريس بنقل البرلمان إلي بنغازي وتشجيع حوار في القاهرة بشأن توحيد القوي العسكرية، وهي عملية ينظر إليها علي أنها تحابي الجيش الوطني الليبي. وقال طارق المجريسي، وهو زميل زائر بالمعهد الأوروبي للعلاقات الخارجية، لوكالة رويترز "من السهل للغاية حمل الليبيين علي الموافقة علي شيء لكن الخلافات تبدأ عادة عندما يتعلق الأمر ببحث التفاصيل"، حيث يكمن دائما الشيطان. قبل أن يجف حبر النقاط الثماني التي تضمنها اتفاق باريس، سارع رئيس المجلس الأعلي للدولة خالد المشري إلي إعلان أنه لن يعترف بشريك الحوار المشير خليفة حفتر قائدًا للجيش الليبي. وقال السياسي الإخواني خلال حوار من باريس مع قناة "فرانس 24":"لا أعترف بقائد عام للجيش الليبي اسمه خليفة حفتر، لكنني أعترف فقط بالقائد الأعلي للجيش الليبي فايز السراج، ورئيس الأركان عبد الرحمن طويل". وذكر خلال حوار مع القناة الفرنسية أن لقاء باريس" يُعدّ محطة مهمة بحل المشكلة الليبية، لكنه ليس محطة حاسمة، أو نهائية، فهناك العديد من الموضوعات المهمة والحاسمة"، مشيرًا إلي أن "الموضوعات الحاسمة التي تم تأجيلها خلال لقاء باريس من قبيل موضوع المؤسسات الموجودة في الشرق الليبي، وضرورة إنهائها، وفقًا للاتفاق السياسي الذي طالب بضرورة الاعتراف فقط بحكومة الوفاق الوطني، والمجلس الأعلي للدولة". من جانبه رأي عضو مجلس النواب مفتاح الكرتيحي أن "الاختلاف في ليبيا، بعد اجتماع باريس وتصريحات المشري، أصبح واضحًا، بين من يريد بناء الدولة، ومن يريد تدميرها، وينقض العهود، وهؤلاء مستمرون بنقض كل شيء، وإن تظاهروا برغبتهم في الحوار، والتفاهم". وأضاف الكرتيحي ل رويترز:"هم لا يريدون حلًا ولا توافقًا، ويسعون فقط إلي شراء الوقت فقط، حتي يتسنَّي لهم ترتيب صفوفهم من جديد". البنود الثمانية رغم أنه لم يتم التوقيع علي مسودة اتفاق باريس بسبب ما وصفه ماكرون ب"عدم اعتراف الأطراف الليبية ببعضها"، إلا أن الرئيس الفرنسي اعتبر البيان المشترك "خطوة رئيسية نحو المصالحة الليبية، والالتزام بحل سياسي شامل مهم لأمن أوروبا". وفي السطور التالية نرصد أهم بنود إعلان باريس: اعتماد الدستور ألزم اتفاق باريس السلطات الليبية بدعم اقتراح جدول زمني لاعتماد الدستور، ودعم جهود الممثل الخاص للأمين العام بالأممالمتحدة أثناء مشاوراته لإنجاز هذا الاستحقاق. وكان مجلس النواب الليبي قد أوقف النظر في مشروع الدستور، منذ أغسطس الماضي، علي خلفية جدل أثارته شخصيات ليبية حول بعض مواده. الإعداد للانتخابات تعمل الأطراف الليبية علي إعداد قاعدة دستورية وفنية للانتخابات، واعتماد القوانين الانتخابية في موعد أقصاه منتصف سبتمبر القادم، وذلك بالتنسيق بين مؤسسات الدولة الليبية والأممالمتحدة، والعمل علي إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية في ديسمبر 2018. اتفاق باريس اشترط أن تتسم الانتخابات بالشفافية والمصداقية، واحترام نتائجها، وضمان توفير أموال لتسيير العملية الانتخابية، وترتيبات أمنية قوية لحمايتها، ومعاقبة معرقلي الانتخابات، وضمان تقديمهم للمساءلة، وإعادة فتح منظومة الانتخابات لتسجيل الناخبين لفترة إضافية. توحيد المؤسسات السيادية طالبت مسودة اتفاق باريس الأطراف الليبية بضرورة تحسين الأجواء لإجراء انتخابات بما في ذلك نقل مقر مجلس النواب إلي بنغازي، وإنهاء التعامل مع الحكومة أو المؤسسات الموازية تدريجيا. وحثت المسودة مجلس النواب والمجلس الأعلي للدولة علي العمل فورا لتوحيد البنك المركزي والمؤسسات الأخري. بناء مؤسسة عسكرية طالبت مسودة الاتفاق الأطراف الليبية الالتزام بالمساعي، التي تبذلها الأممالمتحدة لبناء مؤسسات عسكرية وأمنية محترفة وموحدة، خاضعة لمبدأ المحاسبة. كما نصت علي ضرورة تشجيع حوار العسكريين الليبيين الجاري في القاهرة المصرية من أجل توحيد مؤسسة الجيش المنقسمة بين الشرق والغرب. وأخيرا، الاتفاق علي المشاركة في مؤتمر سياسي شامل لمتابعة تنفيذ هذا الإعلان السياسي تحت رعاية الأممالمتحدة، والتزام القادة الليبيين بتنفيذ بنود الاتفاق بمساعدة المجتمع الدولي. غير ملزم وقلل مدونون ونشطاء علي مواقع التواصل الاجتماعي من قيمة الاجتماع، حيث غرد الكاتب السياسي، محمد الجارح، علي تويتر "ما حدث اليوم ليس اتفاقا وإنما إعلان ولم يتم التوقيع علي شيء في باريس، وليس هناك التزام فعلي ويأمل البعض في الوصول لاتفاق مستقبلا. المحلل السياسي صلاح الشلوي، قدم رؤية يغلب عليها طابع التفاؤل، حيث علق علي الاتفاق بالقول "هذه المسودة مبدئية ولن تختلف عن شكلها النهائي كثيرا". وأضاف الشلوي، في تصريح لإذاعة "مونت كارلو"، بأن "اجتماع باريس جمع الحروف المبعثرة من اتفاق الصخيرات، وهذه المسودة تتويج طبيعي لمسار الصخيرات، وتعتمد علي جدية وحزم الأطراف المحلية والإقليمية والدولية لإنهاء الأزمة في ليبيا".