سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
اللواء أحمد غراب يتذكر لحظات البطولة الصائمة: رمضان في المعركة شكل تاني.. والإفطار والسحور »تعيين قتال« تمسكنا بالصيام.. وإخوتنا المسيحيون رفضوا الطعام إلا بعد أذان المغرب
علي عكس ما يعتقد البعض، فإن حرب أكتوبر 1973م العاشر من رمضان 1393ه لا تزال تحمل في جعبتها معينًا لا ينضبُ من البطولات النادرة التي لم يروها أحد بعدُ، بل وستظل هناك حكايات بطولية خبيئة أزلية في علم الله وحده مرصوفة في لوحه المحفوظ، إذ استُشهد أصحابُها ورووا أرض سيناء بدمائهم دونما راوية أو رواية، لربما يتعلم اللاحقون كيف تكون التضحية وكيف يتم الفداء.. في مثل هذا اليوم الذي يشتكي فيه الكسالي من القيظ والصوم ويتثاءبون تحت برد المكيف كانت هناك أسود مصرية تزأر في وجوه أعدائها الصهاينة، تجأر بالتكبير ذودًا عن حياض الوطن دونما حتي أن تأخذ برخصة الإفطار في أوقات الحرب.. وفي هذا الحوار مع اللواء مهندس أحمد غراب شهادة نابضة بالصدق علي بطولة فريدة سطرها المقاتل المصري في دفتر التاريخ بحروف من دماء نقية ونفوس زكية: • سيادة اللواء، هلا سمحت لي بالنبش في ذاكرتك قليلا عن لحظات متوضئة أعلم يقينا أنها تخايلك دائمًا.. أقصد لحظات النصر! - نعم، فأنا لا أنسي تلك اللحظات النادرة في عمر الإنسان، لحظات بعمر كامل، أو بأعمار أمة كاملة.. كانت الساعة الثانية والنصف ظهرًا في شهر رمضان المعظم، وكنتُ في شرق القناة بالمنطقة الواقعة بين الجيشين الثاني والثالث، وهي ما يُطلق عليه استراتيجيا بالمفصل، حيث كنتُ قائدًا لوحدة مهندسين مُكلفة بفتح الثغرات في حقل الألغام الذي أقامه العدو أمامنا.. وكان من المفترض أن أظل في مركز القيادة بالخلف، لكنني كنتُ مُصرًّا علي التواجد مع الأفراد القائمين بفتح الثغرات وأن يتم كل ذلك تحت عيني، وبالفعل سلمت القيادة للضابط الذي يليني في الأقدمية وعبرتُ مع الأفراد للضفة الشرقية بقارب مطاطي.. كان المعدل سريعًا رغم أننا تحت القصف، فقد كانت معنويات الجنود مرتفعة للغاية، وكنتُ من موقعي بالشرق أري القوات في الغرب كان المشهد رائعًا بل أكثر من رائع، مصر كانت كلها علي المعابر.. حين أتممتُ فتح الثغرات وبدأ تدفق قواتنا تلاقيتُ مع وحدتي، واشتبكنا في أول يوم قتال مع وحدة مشاة من وحدات العدو تمكنت من تطويقها بسهولة. • وما المشهد الذي يقفز دومًا علي مسرح ذاكرتك في تلك اللحظات المضيئة؟ - المشهد الأبرز أنني سألت الضابط الإسرائيلي قائلا باستهزاء: كنتُ أتخيل أنكم أفضل من هذا؟ فأجابني بهزة من رأسه وقال: »سيدي، نحن لم نتغير، بينما تغيرتم أنتم«.. كان هذا أروع وأجمل يوم في حياتي، يوم لا أستطيع نسيانه.. كما لا أنسي أول شهيد سقط من رجالي علي الساتر الترابي، كان وجهه مبتسمًا كالصبح الوليد.. وكانت هذه هي مصر التي بحثت عن وجهها بعد ذلك طويلا. تعيين قتال • الجو قيظ والجنود يقاتلون وهم صائمون أيامًا متواصلة.. فما كان طعام إفطاركم بعد أذان المغرب؟ - كنا صائمين محتسبين طالبين الشهادة أو النصر بلا خيار ثالث، بل إن الشهادة كانت الهدف الأسمي والرغبة الأولي عند الجنود، خاصة أن المعركة دارت كلها في شهر الصيام، رمضان المعظم، ورغم نداءات القادة بضرورة السماح بالإفطار تجنبا لمشقة الجو والقتال والصيام، فإن الجنود رفضوا ذلك وتمسكوا بالصوم بعدما أكدوا أنهم قادرون علي الجمع بين القتال والصيام، ورغبة منهم في الاستشهاد وهم صائمون.. أما عن الإفطار فإنه طوال أيام الحرب كان الطعام جافا، وهو ما يُطلق عليه في اللغة العسكرية (تعيين قتال).. وهو معلبات يتم تسخينها بأقراص من الكحول الصلب، وتتألف من البقوليات المحفوظة والبسكويت وقطع اللحم، وكان يتم توزيع ذلك علي الجنود قبل وأثناء العمليات العسكرية. الروح العميقة • وماذا فعل الجنود المسيحيون عندما وجدوا إصرار إخوانهم المسلمين علي الصيام؟ - بالطبع أصر إخوتنا المسيحيون علي الصيام معنا، ورفضوا هم أيضًا تناول الطعام بتاتا إلا إذا تناولناه معًا بعد أذان المغرب، هكذا كانت الروح المصرية العميقة الجذور.. أيضًا لابد أن أنوه بأن مذاق صيام رمضان في المعركة كان له طعم آخر أحلي وأروع من كل صيام، وإذا ذكرتُ الصيام فلابد لي أن أذكر كيف كنا نتناول طعام القتال الجاف إفطارًا وسحورًا بكل الرضا والمحبة وكأننا نأكل من أفخر المطاعم، حيث نجتمع معًا في مجموعات صغيرة متآلفة متفاهمة تنشد علي نغمة وطنية واحدة، ويتم فتح المُعلبات وتقسيم الخبز والسجائر أيضًا.. حقا أيام لا تُنسي. • وماذا لو طالبكم الجسد بحظه من الراحة بعد أيام من القتال المتواصل؟ - كل شيء في الميدان له حساب دقيق، وبالطبع كان الجسد يحصل علي ما يحتاج إليه في حدوده الدنيا، فالنوم مثلًا كان متقطعًا نظرًا لطبيعة الميدان وكثرة التحركات التي تتطلبها المعركة، ويكون إما في الخنادق أو داخل المجنزرات والعربات المُدرعة.. لا يهم فما أطال النوم عُمرًا.. إنها حربٌ مصيرية يجب أن نبذل فيها كل ما نملك فليس هناك أغلي من الوطن. جنود المطبخ • وكيف كنت تشاهد الروح القتالية عند جنودك مع كل هذه الضراوة القتالية؟ - الروح القتالية كانت علي أروع ما يكون، فقد كان الجنود يتسابقون إلي قتال العدو الصهيوني بضراوة الأسود، ولا أنسي أبدًا كيف أن جنود المطبخ، وهم المكلفون بإعداد الطعام، كانوا يهرعون إلي الأسلحة المضادة للدبابات ويقومون باقتناص دبابات العدو الإسرائيلي الذي كان يتقهقر علي محاور القتال شرق القناة ابتداء من اليوم الأول للهجوم.. وكم كان المنظر رائعًا وأحد الجنود الطهاة يعتلي ظهر دبابة إسرائيلية في بطولة نادرة.