مَنْ هذه المرأة الراقدة بجانبى، الملتحفة بالشخير والدهون، واللون الأحمر، تقاسمنى بيتى.. حجرتى وفراشى؟ مَنْ هذه المرأة تمد يدها بعد انتصاف الليل، تطفئ سيجارتى، وتشعل رجلا آخر غيرى رغما عنى يسكننى؟ مَنْ تكون قصيرة الشعر، طويلة الأظافر، تغطى ملامحها بالمساحيق الملونة، تخفى رائحة العرق بعطر نفاذ يخنقنى ولا أستطيع الصراخ؟ تطالبنى رغبتها الخشنة، بالتزحلق على جسدها الأملس؟ عشر سنوات وأنا أتساءل: وكلما تكرر السؤال، كلما بدت الإجابة أكثر صعوبة، وأشد إحراجا. عشر سنوات مع امرأة متعثرة الهوية، تسحبنى من نفسى، وليس لى حق الاعتراض، والشكوى، أمثل دور الرجل المتلهف، المطيع لحكمة غامضة، الراضى بما قسمه الله من امرأة لا تخطئ الهدف. سنوات، تأخذ انهزامى المرتعش، وتعطينى غيبوبة ليل، لا تغضب، ولا تفيق. تتركنى روحا ذابلة، وقد امتصت من أزهارى العبير وحلو الرحيق. أنهكت رجولتى، التى قاربت من الخامسة والأربعين، دون علمى. تتحرك المرأة الملتحفة بالشخير، والدهون، واللون الأحمر، على أنفاسها الصاعدة، والهابطة، تلهث أيام شبابى، تتقلب على جنبيها، كأن شيئا لم يحدث منذ لحظات، كأنها لم تقترف ذنبا، تكرره عشر سنوات! تدهشنى هذه المرأة، كيف تستطيع النوم وهى تفعل ما تفعله بى؟! لم أرها ليلة مؤرقة، أو مشغولة البال، لكن لم تؤرق، أو ينشغل لها بال؟! ألا تنال ما تهواه؟ ألا أمنحها فى المساء، شهادة أنوثة، مختومة بدمى؟ الشخير، والدهون، واللون الأحمر، هذا الثالوث المتنكر فى هيئة امرأة، أين منه المفر؟! حجب عنى شخيرها، سكون الليل، وشدو النجوم.. اغتال تأملاتى، وأجهض فى المهد إيحاءات الحكمة وسحر الأشعار. وهذه الدهون المتراكمة، التى صنعت طبقة عازلة بينى وبين رشاقة الإحساس، كم تنفرنى وتخيفنى؟! واللون الأحمر الذى أصبح جزءا من معالم غرفة النوم.. تتوهم أنه إغراء لا يقاوم، وهو يوترنى ويقلقنى. مَنْ هذه المرأة التي تستحوذ على هواء حجرتى؟! تقول أوراق الشرع أنها «زوجتى» وتقول أوراق القلب أنها «قاتلتى»! لأول مرة أسمح لنفسي بالاعتراف، لأول مرة تأتينى شجاعة الإدراك. أتأملها وأهمس لها: «نعم، أنت قاتلتى، أيتها النائمة فى غرور، أود أن ألقى بالكلمة فى وجهك، وليحدث ما يحدث، كفاك عشر سنوات، أم تراك ترغبين فى المزيد، اطمئنى لم يعد عندى ما أمنحه». لست أهرب من ذنبى، ولا أحاول التنصل من مسئوليتى. باختيارى منذ عشر سنوات وقعت على ورقة إدانتى، وخيانتى لنفسى، وأنا فى كامل قواى العقلية، أخذت قرار أن أعاشرها تحت سقف واحد، أنا رجل حر، لن أخسر شيئا، ولا شىء يمكنه أن يخضعنى، ولا توجد امرأة فى العالم تستطيع أن تأخذ ما لست مهيئا لإعطائه، هكذا رددت لنفسى، فى ليلة الزفاف. كأس الذكريات ممتلئة حتى آخرها، تؤلمنى مرارة المذاق، لكننى أصر على أن أشربها، حتى الثمالة، أو لعلها الإفاقة. مضت عشر سنوات، كنت فى الخامسة والثلاثين من العمر، شابا وسيما، رشيق القوام، والأحلام، رومانسى الكلام والحركات، دافئ الفكر والصمت، رقيق الإحساس. أعمل مشرفا على قسم الثقافة والفنون فى مجلة أسبوعية، ذات تاريخ عريق فى الصحافة، والفن. كنت فى مجالى، الأوحد، والأكثر شهرة، صاحب القلم المتميز، المنحاز دائما للجديد، المدافع عن العدل، والحرية، أواجه الهجوم بصدر رحب، كلما ازداد الهجوم، تأكدت أننى على صواب أكثر، إذا تلقيت المديح، أشك فى نفسى، وأراجع ما كتبت. شاعرا كنت، تمتزج مقالاتى الصحفية بسحر الشعر، يمنحنى تفرد الأسلوب، والرؤية. بداخلى رجل، مرهف الوجدان، متعطش للحب، يؤمن أن العاطفة أهم وأثمن ما فى الحياة. لم يرغمنى أحد على الزواج، وأدرك أنه شر يمكن تجنبه، ما الذى حدث له، ولحياتى.. الأمور كلها، كما خططت لها، كل شىء على ما يرام، لماذا إذن أقدمت على الزواج؟ ود اقتناص اللحظة النفسية التى ملكتنى، وأنا أسعى إلى شر يمكن تجنبه. لا شىء.. لا شىء على الإطلاق، إلا أننى كنت أعانى الملل، وماذا يعنى الملل؟ أدرك أنه النسيج الذى صنعت منه الحياة، هل حضارات الإنسان المتعاقبة شىء آخر، غير محاولات لقتل الملل؟ كنت أدرب نفسى على مواجهة الملل، وأقيس إبداعى، وتميزى بقدرتى على احتمال الملل، وتحويله إلى شىء إيجابى، يمكننى السيطرة عليه، أحيانا يصل بى الملل، إلى سأم متوحش، يفترسنى، ويطيح بكل ما حولى، أقضى ليلتى فى معركة شرسة بينى وبين السأم، تنتهى غالبا بالتسليم من جانبى، ومنحه حق الإقامة لبعض الوقت. أترانى، تزوجت تلك المرأة، بعد إحدى هذه المعارك التى أخرج منها منهوك القوى، مشوش الرؤية، فاقد الشهية؟ هل زواجى من شطحات غرورى؟ أردت أن أثبت أننى أستطيع تغيير الزواج؟ قد أكون تعبت من حصار الناس، والتقاليد، ربما أرهقنى اختلافى؟ ربما أحببتها؟ أحتمل أى مبرر، إلا أن يكون الحب. هل أحببتها؟ إنه سبب أدعى حتى لا أتزوجها، أومن بالحب، وهذا ما يجعلنى أنأى به بعيدا عن رتابة الزواج.. الحب عندى رؤية فلسفية للوجود، تستبعد التصاقى بالمرأة ليل نهار. العاطفة وهج جامح، يعزف على أوتار الدهشة والترقب، اشتياقى للمرأة، خاطر، أو إلهام، يكشف أعماق النفس، ويدلنى على أسرار الكون، وخفايا الشعر. ما الذى حدث لى، لتتحول المرأة من نار تلهب خيالى، إلى قطعة لحم خاملة؟ ماذا أصابنى لتختصر متع الحياة إلى غيبوبة ليل، وملء معدتى بالطعام، والتفرج الكسول على شرائط فيديو فاترة الحياء؟ متى أعود إلى حقيقتى؟ متى أعود إلى نفسى؟!