عزيزي المواطن .. لجنة الفتوي بالأزهر الشريف ترحب بالجماهير.. وتعلن أن الفتاوي مجانية وبدون رسوم! ..قبل عامين تقريبا ظهرت هذه العبارة في خلفية صورة فوتوغرافية تضم عدداً من المواطنين والمواطنات، وهم يلوذون ببعض مشايخ الأزهر طلباً للفتوي!.. والصورة كانت جزءاً من تحقيق كبير قامت به جريدة نيويورك تايمز حول الفتاوي الإسلامية الغريبة مثل بول الرسول وإرضاع الكبير.. ووضعت في صدر صفحتها الأولي مانشيت يقول البوصلة التي يمكن أن تتصادم مع الحياة الحديثة! ومجموعة الصور التي صاحبت التحقيق كان لها العديد من ردود الأفعال علي القارئ الأمريكي آنذاك.. فهو لايعرف بالتأكيد أن واقع المسلمين الحالي يدفعهم إلي طلب الفتوي في كل صغيرة وكبيرة!.. أو أن المصريين - كذلك - أدمنوا طلب الفتاوي حتي لو كان الأمر ببساطة الدخول لدورة المياه! وما غاب عن القارئ الأمريكي في هذه الأثناء أيضا.. هو إن كان المواطن البسيط يفعل هذا الأمر، فإن حكوماته ومؤسسات دولته الرسمية، والتي من المفترض أنها مدنية قد انتقلت بممارسة عادة الاستفتاء من مرحلة السرية إلي العلنية منذ زمن بعيد!.. وأن المؤسسات الدينية أصبحت تمارس هذا الأمر بالتبعية بشكل روتيني دون الحاجة إلي إذن مسبق! من جانبنا لانظن أن مجانية الفتوي هي التي دفعت العديد من مؤسسات الدولة لأن تتنازل عن مدنيتها - أو علي الأقل جزء كبير منها - دون مقابل لكننا ننطلق من فرضية مفادها أن الخوف هو سيد الاستفتاء! فعدم ثقة المؤسسات في مدي استيعاب الرأي العام لسياساتها دفعها في كثير من الأحيان لأن تبحث عن غطاء شرعي تغلف من خلاله تحركاتها.. وإن هذا الغطاء حتي وأن كان يتسم بالوسطية، ويصدر عن المؤسسة الدينية الأكبر الأزهر، إلا أنه من الناحية الواقعية كان له أكثر من تداع سلبي: الأول هو أنه أضر بمكانة المؤسسة الدينية نفسها، وجعل كل من ينتمي إليها يوصف بأنه تابع للسلطة ويأتمر بأمرها، وينفذ سياستها.. والثاني هو أنه أصبح تكأة لظهور - وربما انتشار - أنواع أخري من الخطابات الدينية المختلفة، علي الجانبين الإسلامي والمسيحي.. وأصبح من المعتاد والمألوف أن نشهد تبارياً بين التيارات الدينية المختلفة علي إصدار فتاوي تتعلق بصورة أساسية بأعمال الدولة المدنية.. وبانت هناك حالة حادة من الاستقطاب لهيئات بدورها المتاح لنمو الخطاب المتطرف، وزيادة الاحتقان الطائفي، وتراجع مفهوم المواطنة بشكل لافت. -- ربما تكون أبرز الأمثلة وأكثرها دلالة علي هذا الواقع اللامدني هو ما حدث أثناء الضجة الإعلامية التي صاحبت الإنشاءات الهندسية علي الحدود المصرية.. إذ أصدر مجمع البحوث الإسلامية التابع للأزهر بياناً قال فيه: إن من حق كل دولة أن تقيم علي أرضها من المنشآت والسدود ما يصون أمنها وحدودها وحقوقها، إن من الحقوق الشرعية لمصر أن تضع الحواجز لمنع ضرر الأنفاق التي أقيمت تحت أرض رفح المصرية.. هذه الأنفاق التي تهرب منها المخدرات وغيرها مما يزعزع أمن مصر، ويهدد مصالحها تهديداً لامفر من مقاومته.. وهذا العمل الذي تقوم به مصر تأمر به شريعة الإسلام من أن كل دولة عليها أن تصون حقوق أبنائها، وأن تمنع كل عدوان علي هذه الحقوق. انتهي نص البيان.. وسواء كان هذا البيان بناءً علي طلب رسمي أو تطوعاً من المجلس إلا أنه كان له أكثر من رد فعل يجب أن نقف قليلاً أمامه. فعقب صدور البيان ظهرت فتاوي مضادة لعبت فيها تيارات أيديولوجية مختلفة مثل جماعة الإخوان دوراً بارزاً إذا حرمت في المقابل هذه الإنشاءات، وروجت إلي أنها دفاع عن مصالح إسرائيل في مواجهة حركة حماس! وتفلسف البعض وقال إن البيان خلا من ذكر نص من نصوص القرآن والسنة، وقد نص علماء الأصول أن من آداب المفتي في فتواه أن يذكر الدليل علي الحكم!.. وأضافوا أن الأخطر فقها في البيان ليس الحفاظ علي حق كل دولة لحدودها، فهذا من الأمور المقبولة، ولكن الأخطر هو تعميق فكرة الحدود بين الدول مع تناسي الروابط الشرعية، فتحدث المجمع بلسان السياسة لا بلسان الشرع! وبالطبع كانت أغلب هذه التخريجات أو التفلسفات الدينية صادرة عن أعضاء بما يسمي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الذي يترأسه الشيخ يوسف القرضاوي صاحب الفتوي الأولي في تحريم هذه الإنشاءات! ووسط حالة الجدل الإسلامي - الإسلامي، كان أن تناقلت بعض وكالات الأنباء المختلفة العديد من الفتاوي المسيحية التي تدلي بدلوها هي الأخري في الموضوع.. وتباري العديد من المواقع التابعة لبعض تيارات الإسلام السياسي للفوز بتصريحات كنسية حول الأمر إما سعياً لتأييد موقفها أو خلقاً لحالة جديدة من الاحتقان بين المسلمين والمسيحيين في حالة إذا ما كان موقف قيادات الكنيسة مخالفاً لرأيها، وتصويرها علي أنها ضد كل ماهو إسلامي! وكان أن ابتلعت بعض القيادات الكنسية الطعم، وراحت تفتي هي الأخري.. ونقل موقع إسلام أون لاين الذي يموله القرضاوي عن القمص عبدالمسيح بسيط كاهن كنيسة العذراء بمسطرد أن إنشاءات رفح حق مشروع ويدخل في إطار السيادة الوطنية لمصر، وأن هذا شأن تنظيمي بحت ولاتوجد أي أبعاد سياسية وراءه.. وليس لأحد الحق في المزايدة عليه، وحتي لايتكرر اقتحام الفلسطينيين لمعبر رفح مرة أخري! ونقل الموقع عن كل من القمص صليب متي ساويرس كاهن كنيسة الجيوشي بشبرا، ود. صفوت البياضي رئيس الطائفة الإنجيلية، والقس رفعت فكري سكرتير سنودس الإنجيلي، والقس أغسطينوس موريس راعي كنيسة العذراء الكاثوليكية القول نفسه محملاً مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر مسئولية تنامي هذا الاتجاه! -- حالة الجدل الذي أخذ في أحد جوانبه بعداً طائفياً والتي أثارها بيان مجمع البحوث الإسلامية حول أمر يتعلق بصورة أساسية بشأن من شئون الدولة المدنية لم يكن الأول أو الأخير.. فقد تبعه بأيام قليلة إعلان عدد من أعضاء المجمع تحريم قانون الضرائب العقارية.. ونقلت بعض وسائل الإعلام عن كل من د. رأفت عثمان ود. عبدالمعطي بيومي وغيرهما أن قانون الضريبة العقارية يخالف أحكام ومبادئ الشريعة الإسلامية، واتهموا الدولة نفسها بأنها تحولت إلي جابية وأنها لاتستجيب لحاجات المواطن. ورغم أن هناك اعتراضات علي القانون من حيث الأصل أبداها فقهاء القانون والدستور علي القانون إلا أن علماء المجمع أبوا إلا أن يقحموا مبادئ الشريعة في الأمر متجاهلين أن القانون، يجب أن يوضع في إطاره الدستوري لا أن تصدر في حقه الفتاوي الدينية.. وأنه لايجب إخراجه من هذا السياق! وإن كنا نعيب علي أعضاء المجمع أن يبادروا بإطلاق الفتاوي في مواضع مدنية بالأساس، إلا أننا نعيب علي مؤسسات الدولة في المقابل أنها هي التي خلقت هذه الحالة.. ودعمتها بقوة.. وأصبح التراجع عنها بمثابة الاعتداء علي حق مكتسب. فبين أيدينا وثيقة رسمية صادرة عن الإدارة العامة لشئون مجلس المجمع، تمثل في حد ذاتها نموذجاً لما تسببت به سياسة الأيدي المرتعشة التي تتبعها بعض مؤسسات الدولة في عدد من المسائل التشريعية والقانونية، وتتعلق بمخاطبات خاصة بإصدار فتاوي دينية في حق بعض القوانين ولوائحها التنفيذية. والوثيقة المذيله بتوقيع شيخ الأزهر د. محمد سيد طنطاوي - رغم بساطتها - إلا أنها لاتخلو من مدلولات عميقة.. فهي تقول: اجتمع مجلس مجمع البحوث الإسلامية برئاسة فضيلة الإمام الأكبر الدكتور محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر في جلسة غير عادية يوم السبت 15 من ذي الحجة 1421ه الموافق 10 مارس 2001م، وناقش قانون التمويل العقاري بعد تعديله وفق ما رأي مجلس المجمع في جلسة سابقة، وبعد المناقشات أقر المجلس القانون من الناحية الشرعية حيث إنه لايخالف الشريعة الإسلامية، كما وافق علي مشروع اللائحة التنفيذية لقانون التمويل العقاري رقم 148 لسنة 2001م بجلسته المنعقدة يوم الخميس 10 من رجب 1422ه، الموافق 27 من سبتمبر 2001 وذلك لموافقتها لأحكام الشريعة الإسلامية.. تحريراً في 2001/1/29م! ورغم أن مثل هذه الإجراءات تجد ما يدعمها من الناحية القانونية إلا أن هذه الإجراءات خلقت من حيث الأصل داخل مناخ تشريعي ودستوري هو في حاجة بالفعل لإعادة المراجعة والضبط حتي لاتقع الشئون المدنية فريسة لتضارب الفتاوي الدينية، وتتحول الدولة في النهاية إلي الخاسر الأكبر، وربما الأوحد، في معركة لسنا في حاجة إليها من الأساس.. فالنظرة الواقعية تؤكد أن مناخ الاحتقان الطائفي ليس في حاجة إلي من يصب له الزيت فوق النار.. وأن المتربصين والمتطرفين سواء من الجانب الإسلامي أو المسيحي، لن يجدوا مناخاً أفضل من هذا ليتحركوا من خلاله! أمام هذا الوضع لانملك إلا التذكير - لعل الذكري تنفع المسئولين - أن الدولة المدنية الحديثة ليست هي دولة الفتوي.. فلا يحق - وفقاً ل جون لوك في كتاب في الحكم المدني - للسلطة التشريعية أن تسلم صلاحية وضع القوانين لأية هيئة أخري أو تضعها في غير الموضع الذي وضعها الشعب فيه.. وهو ما يعني أن هناك آليات يجب أن تحافظ عليها الدولة تتعلق بالجوانب التشريعية، وأيضاً الإجرائية ليس من بينها بالتأكيد مبدأ الحلال والحرام.. تقررها مصلحة الدولة عبر وسائل شتي سواء كانت هذه المصالح سياسية أم اقتصادية أم قانونية. لكن يبقي السؤال: هل تدعم الدولة تنامي الخطاب الديني المتطرف أم أن ظروفنا الاجتماعية والسياسية هي التي دفعتها لأن تبحث عن غطاء شرعي لتصرفاتها؟! أغلب الظن أنه لاهذا ولاذاك.. فالدولة هي أول المتضررين من تزايد هذا الخطاب الفوضوي.. والمجتمع المصري تجاوز مرحلة المراهقة السياسية منذ زمن، ويبقي علي الحكومة أن تتخلي عن سياسات الخوف التي تحاصرها، وتتذكر من جديد ألف .. لام.. ميم.. دال.. نون.. ياء.. تاء مربوطة!