خذلنى خالد يوسف هذه المرة ولم يأخذنى معه إلى حصة إنشاء أو محاضرة فى السياسة والاقتصاد، بل سحبنى إلى حالة سينما ساحرة أمسك فيها بأدواته وقلوبنا، ولوَّن الشاشة بالفجر والصبح والنغمات والبشر الذين يقبضون على الجمر والفرحة الغاربة. فى فيلمه «كلمنى شكرا» لن ترى هراوات الأمن المركزى ولا المتظاهرين يصرخون ولا الفقراء يشتكون ولا هانى سلامة يبكى. لكنهم الفقراء الذين يسكنون حيا مصريا، يحبون الحياة ويتحايلون على الحاجة بالنكتة وعلى القبح بجمال الصحبة والنساء.. الفقراء الذين يغزلون بأيامهم بهجة لياليهم ولا يعنيهم أن الأغنياء يعيشون فى بلادهم.. والفيلم لم يقدم شخوصا غنية ولا قصورا ولا شارعا أرستقراطيا، كل «الكوليشنز» محصورة فى شارع «حليمة» بمنطقة «صفط اللبن»، حيث البطل «إبراهيم توشكا» الذى يحلم أن يكون «نجم سينما» فينتهى به الحال «نجم الحتة» أو نجم الشارع حين ينتصر لكل فقراء الحى وينتصر بهم أيضا، فالجميع يتكاتفون فى أحزانهم وأفراحهم، لكن أهم وأعظم ما يجمعهم هو حب مصر حتى لو من خلال إذاعة مباراة للفريق القومى. و«كلمنى شكرا» هو نص رسالة خطية على الموبايل، والموبايل فى هذا الفيلم هو بطل حقيقى من خلال دوره فى سير الأحداث أو من خلال صاحب شركة المحمول فى الفيلم، وصاحب الشركة هنا لم يتم تجهيله أو أن يحمل أى اسم، لكنه كان وبشكل واضح وصريح ومباشر المهندس «نجيب ساويرس». ودخول نجيب ساويرس فى الفيلم لم يكن إقحاما، بل تم توظيف اسمه - المتواتر على لسان البطل - بشكل فنى، فالبطل يحصل على خطوط شركة الاتصالات التى يمتلكها ساويرس ويبيعها لأهل الحى ولا يدفع ثمنها للشركة ويعلق صورته مع نجيب ساويرس على جدار «الكشك»، قائلا: «نجيب ساويرس صديقى» لكل من يقابله حتى لأفراد شرطة المصنفات! لكن أن يتم عرض فيلم «كلمنى شكرا» فى سينما داخل سنتر تجارى يمتلكه، ويكون هو الحاضر الغائب والفاعل فى الفيلم، فالفيلم قد حقق نظرية مسرحية مهمة نادى بها يوسف إدريس طويلا ولم يحققها إلا فى مسرحية «الفرافير»، وهى نظرية «التمسرح»، أى إلغاء الحاجز الرابع ودخول الجمهور فى العرض لتحدث حالة التمسرح بين الممثلين والمشاهدين، أعتقد أن الفيلم قد لامس هذه الفكرة بانسيابية ودون إقحام. والفيلم لم يعتمد على أسماء شهيرة جاذبة للشباك، لكنه أعاد صياغة توظيف عمرو عبدالجليل فى دور عمره - بالتأكيد للعمر بقية - فهو ممثل لا تفلت منه هنة ولا نظرة ولا حركة يضحكك بشدة لأنه يسخر من واقعه المرير بالنكتة، ويضحكك بشدة حتى فى لحظات الوجع الحقيقى، فكلهم فقراء وبسطاء ومهمشون لكنهم سعداء. وأنت فى هذا الفيلم لن تجد حالة عداء بين مصرى ومصرى ولا بين خارج عن «النص» وبين الشرطة، فالبوليس فى هذا الفيلم أكثر إنسانية وتفهما للسلوك الخارج عن الغلابة. لأن الفيلم دار توقيته بين الفجر والصبح فى أغلب مشاهده فقد ساعدت ألوان النهار فى تأكيد أجواء البهجة المنفلتة فى حياة الأبطال جميعهم، وكانت قليلة هى مشاهدة الظلام فلم يرد خالد يوسف أن يفرض أى لحظة كآبة على أبطاله أو ديكورات العمل. والفيلم قدم أبطالا وممثلين قادرين ومقتدرين فى السيطرة على الحوار وعلى انفعالاتهم إلا من بعض الإيحاءات الخارجة التى قد يرى البعض لها فى هذا الفيلم تحديدا سببا أو وجاهة، فالفقراء العاجزون عن الفعل لا يملكون إلا الحلم أو الثرثرة، والثرثرة هنا كانت على شكل إيفيهات أطلقها بجدارة عمرو عبدالجليل، ومعه صبرى فواز فى دور الملتحى النصاب، وكذلك الممثل الذى لعب دور زوج أخت عمرو عبدالجليل ومحاولاته الفاشلة والمضحكة فى الانتحار. حتى ملابس غادة عبدالرازق العارية ورقصاتها الكثيرة فى الفيلم بدت وكأنها محاولات لإمساك الجمال داخل قبح المكان، حيث البيوت المتهالكة والجيوب الخاوية، فغادة أدت مشهدا واحدا رائعا ومؤثرا غفر لها كل هذا العرى وهو المشهد الذى واجهت فيه طليقها حين خرج من السجن، فارتعشت أوداجها بين الجموع لحظة رؤيته خوفا من بطشه وانتقامه. السينما فى النهاية ليست درسا فى التاريخ ولا شعارات سياسية ولا مشاهد تسجيلية ولا أقراصا لعلاج الورم، لكنها حالة حب من طرف واحد وهو المتفرج أو من طرفين لو أجاد صناع الفيلم صنيعتهم فيصبح الحب من طرفين بين الشاشة الفضية والجالس على كرسيه فى ظلام وإجلال الفيلم، وهذا الفيلم قد خلق حالة الحب الثانية وبجدارة دون فزلكة أو مزايدة أو شعارات. وخالد يوسف لم يغير جلده كما اعتقد البعض، وكذلك لم يغير قناعاته ولا أفكاره، لكن غير فى طريقة الصياغة من السينما الدعائية للفن الممزوج بالمتعة والبهجة والألم.؟