"الجمهورية الفاضلة" هي الدولة المثالية التي يحلم كل إنسان علي ظهر هذه الأرض أن يعيش فيها، وأن ينتسب إليها، ويصبح أحد مواطنيها. - إنها دولة تنعم بأعظم قدر من الديموقراطية ومن الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية ومن العدل المطلق والمساواة بين الرعية. - دولة يعم فيها الرخاء فيشمل جميع مواطنيها علي السواء، وتيسر فيها كل الخدمات.. في الصحة والتعليم والإسكان والمواصلات. - دولة النهضة العلمية والصناعية والتطور العمراني والذوق الفني والأناقة في المظهر والملبس والحس المرهف في أسلوب التعامل والحياة. - دولة الطمأنينة والسلام.. فلا سرقات ولا مخدرات ولا مسكرات ولا انحرافات.. ولا سجون ولا معتقلات. - وهي بعد هذا كله دولة عزيزة الجانب قوية الشوكة يهابها الأعداء.. ويحتمي بها الأصدقاء ويعتز بها الأبناء. - ولقد كان أول من فكر في كلمة "الجمهورية الفاضلة" وكتب عنها الفيلسوف الإغريقي أفلاطون.. ولكن أفكاره ظلت علي مر العصور من خيالات الفلاسفة التي يصعب تحقيقها علي ظهر الأرض. - ولكننا كمسلمين.. نعلم علم اليقين.. ويعلم معنا كل كتاب التاريخ المنصفين والصادقين أن الجمهورية الفاضلة التي تحلم بها الإنسانية قد تحققت فعلا.. ولكن بصورة أعظم وأكمل وأبدع من خيالات الفلاسفة والكُتَّاب ممثلة في دولة النبي محمد (صلي الله عليه وسلم) في المدينة ثم الخلفاء الراشدين من بعده. ونحن نعلم علم اليقين أن هذه الدولة يمكن أن تتحقق في عصرنا هذا لأن دستورها ونظام الحكم الذي قامت عليه لايزال موجودا بين أيدينا في كتاب الله وتعاليم نبيه.. وما علينا إلا أن نتتبع هذا الهدي الرباني لكي نحقق المعجزة الكبري مرة أخري. وهذا البحث "كيف نحكم بالإسلام في دولة عصرية" يبين الطريق إلي ذلك، والسؤال المهم الذي يثيره هذا البحث ويحاول الإجابة عنه هو كيف نجمع بين أمرين مهمين وحيويين في هذه المسألة: الأول: كيف نفهم ونستنبط من تعاليم كتاب الله وسنة نبيه كل ما جاء حول نظام الحكم ونخرج من ذلك بفقه جديد ودستور إسلامي جديد يتناسب مع عصرنا ومجتمعنا في القرن 21 الثاني: كيف نستفيد من تجارب غيرنا من الشعوب الناهضة سواء في الغرب أم في الشرق لكي نخرج بنظام تطبيقي مثالي يكفل تحقيق أهداف الإسلام وغاياته في الحكم. وفي الوقت نفسه فقد كان لابد لنا أيضا من تدارس كل ما في الساحة الإسلامية المعاصرة من أفكار ومحاولات وأن نناقشها بموضوعية لمعرفة الخطأ فيها من الصواب. من ذلك: 1- ما يطرحه المفكرون الإسلاميون المعاصرون لنا من رؤية لنظام الحكم الإسلامي المثالي المعاصر. 2- أفكار الجماعات الإسلامية في شتي أنحاء العالم وتصورها لما يمكن أن تطبقه لو وصلت إلي حكم. 3 - النظم التي طبقت الحكم بالإسلام في دولها ومنها السعودية وباكستانوإيران والسودان وأفغانستان. بهذه الرؤية.. يخرج البحث ليشمل النظرية والتطبيق في وقت واحد.. ويحاول أن يصحح مسار الفكر الإسلامي في هذه القضية المهمة والحيوية.. قضية "الحكم بالإسلام في دولة عصرية". إننا جميعا كمسلمين نتفق علي الهدف.. ألا وهو أن الحل الوحيد والأمثل لكل مشاكل تخلفنا هو العودة إلي الحكم بالإسلام ولكن الخلاف الحيوي والرئيسي بيننا. والذي يعوق التطبيق فعلا والذي لابد من مناقشته بموضوعية وتدارسه بإمعان هو أسلوب التطبيق في مجتمع القرن .21 حيث تغيرت الحياة عن عصور الإسلام الأولي تغيرا جذريا. وسوف نناقش من خلال هذه الحلقات الرمضانية.. عددا من الأفكار والاجتهادات التي تتعلق بهذه القضية.. وكلي أمل أن تكون هناك مشاركة جماعية.. من أهل الفكر والرأي وأهل العلم والتجربة.. وأهل العقل المستنير.. سواء بالتأييد أم بالمعارضة. إن أحوال الأمم لا تتغير بين يوم وليلة، والدعوة إلي فكر جديد. ونظام جديد.. في كل شئون الحياة.. لن تجد استجابة بمجرد مقال يكتب. أو خطبة منبرية.. أو حديث تليفزيوني.. ولكن بتغير الرأي العام كله.. وبالدراسة المتأنية.. العاقلة.. المستنيرة. إن الدول التي أعلنت الحكم بالإسلام هي خمس دول منها السعودية في عهد آل سعود ومحمد بن عبدالوهاب. ومنها إيران في عهد الخوميني. ومنها أفغانستان في عهد طالبان.. ومنها باكستان في عهد ضياء الحق.. ومنها السودان في عهد النميري. ومعظم هذه الدول قد فشل في التطبيق أو طبق نظاما مختلفا كل الاختلاف عن روح الإسلام وعدالة الإسلام واستنارة الإسلام ونهضة الإسلام. بحيث رفضته الشعوب والأمم وأدي إلي أزمات ومآس في كل مجالات الحياة.. منها هزائم عسكرية كما حدث في أفغانستان وحكم الطالبان.. ومنها كوارث اقتصادية كما حدث في حكم النميري في السودان، ومنها تخلف اجتماعي كما في الحركة الوهابية. ولذلك أقول عن قناعة وإيمان.. إنه خير لنا أن يتأخر تطبيق الإسلام قرنا آخر.. من أن يطبق بالطريقة التي نفذتها هذه الدول.. والتي أصبحت تشوه سمعة الإسلام وتصفه بدين التخلف. والعنف. واضطهاد المرأة والفشل الاجتماعي والاقتصادي والعسكري. أسباب الفشل في التطبيق: أولا: إن القادة الذين أعلنوا الحكم بالإسلام في بلادهم عسكريون وانقلابيون، وصلوا إلي الحكم دون أن يكون لديهم فهم للإسلام والحكم بالإسلام، لكنهم أرادوا أن يثبتوا حكمهم. ويكسبوا رضا الشعوب واستقرار حكمهم بالانتساب إلي الإسلام ولو في المظهر دون الجوهر.. وهم جميعا من اليوم الأول لحكمهم.. يبدأون بتطبيق نظام العقوبات بقطع الأيدي والأرجل علي الخاطئين والمتهمين لمجرد التظاهر بأنهم يطبقون الإسلام. في حين أن الإسلام يقضي ألا نبدأ بتنفيذ العقوبات إلا بعد إصلاح المجتمع إصلاحا كاملا في الاقتصاد والإدارة وكل شئون الحياة، والرسول (صلي الله عليه وسلم) لم يبدأ بتنفيذ العقوبات إلا في آخر حكمه وبعد جهاد في الإصلاح لمدة 23 عاما.. وسوف نغطي هذا الأمر بدراسة واسعة. ثانيا: إن هؤلاء الحكام أيضا قد أعطوا للطبقة الحاكمة وأصحاب السلطة وأنصار الحاكم مميزات لاتعم الشعب وبعضهم ينهب من أموال الدولة بالملايين ولا يحاسبه أحد ويهربها إلي الخارج في البنوك الأجنبية. بينما المواطن العادي قد تقطع يده لسرقة رغيف العيش!! وهذا ضد الإسلام!! ثالثا: إن جميع من أعلنوا الحكم بالإسلام ليس بينهم عالم دين واحد. ولايستثيرون علماء الدين ولايحفلون بالرأي الآخر. فلايطبقون نظام الشوري الذين هو الركن الرئيسي للحكم بالإسلام ولايسمحون بوجود معارضة، بل إن بعضهم يبدأ بقتل خصومه والمعارضين لحكمه وقد وصل عدد القتلي بالآلاف باسم الدين وبفتاوي من المنافقين من رجال الدين!! رابعا: إن هؤلاء الحكام يحرفون الدين حسب أهوائهم. ويضطهدون أو يستبعدون رجال الدين الذين لايتفقون معهم في الرأي أو الحكم.. ولايبقي حولهم إلا أنصاف المتعلمين والجهلة الذين لايزيد علمهم علي مرحلة الكتاب كالوهابيين.. ويضعونهم في أعلي المناصب والإفتاء. وفي هذه الحلقات. سوف نناقش نظام الحكم بالإسلام علي حقيقته وصورته النقية. وعن حاجتنا إلي الإسلام الصحيح لحل كل مشاكل تخلفنا في العصر الحاضر.. وأولها هزائمنا المتتالية أمام أعدائنا. وهل حقا أن الإسلام (هو الحل) لمشاكل الفقر والمرض والجهل والبطالة والرشوة والسرقة.