إذا كان معظمنا يري أن الموت هو أقسي درجات الألم وأقصي مراتب الحزن إلا أن أحوالاً نادرة من الاستمرار في الحياة تعد أشد قسوة وأكثر إيلاماً مثل تلك التي يحياها الرئيس السابق حسني مبارك الذي أحسبه يتقلب كل دقيقة - بل كل ثانية - علي جمر الندم ويتلوي من نار الحسرة وهو يقلب عينيه في ملك مصر الذي أفلت من بين يديه بعد أن أضاعه ولده وحاشيته الفاسدة متمنياً موتاً لا يلقاه ومنهياً عمره الطويل الذي أنفق معظمه مصرياً شريفاً ورمزاً وطنياً قبل أن يكتسحه - هو وتاريخه - فساد المال والبنون، هاهو ينهي هذا العمر أسيراً للندم وحبيساً للاتهامات - ما صح منها أو بطل - وها نحن نقلب في أوراق عائلته الخاصة لنستخرج منها بين الحين والآخر صورة أو قصاصة نعيد قراءتها معكم لعلنا ذات يوم.. نعتبر. إذا كانت عائلة السيدة سوزان مبارك تدين بوجودها وتميزها إلي الثروة الزراعية التي كونتها بفضل خدمة الحكومة الخديوية ثم من العمل مع واحد من أغني رجال مصر وأكثرهم امتلاكاً للأطيان قبل أكثر من قرن ونصف وهو حبيب باشا لطف الله ذلك المغامر القادم من بلاد الشام الذي كافأ الجد الأكبر لسوزان بهبات سخية من الأراضي وسعت ملكيتها التي حصلت عليها من الأصل بعد استبدال علي ثابت لمعاشه في مقابل نحو خمسين فداناً وصلت بعد ذلك إلي أكثر من مائة وهو ما رفع العائلة إلي قمة الطبقة الوسطي في المنطقة بل كاد أن يزج بها إلي فلك العائلات الإقطاعية وهو المشروع الذي توقف بسبب وفاة الجد الأكبر وتفتت الأرض من بعده علي أبنائه العديدين الذين لم يكن من بينهم من يمتلك كفاءته وقدرته علي قراءة الأحداث، وفي المقابل فإن عائلة مبارك وفي نفس التوقيت - أي قبل حوالي قرن ونصف من الزمان - لم تجد سفينة تركبها للرسو علي شاطئ العائلات المستورة ثم الولوج إلي عالم الطبقة المتوسطة، لم تجد سوي الالتحاق بالجيش أو التعليم وكان الخيار بينهما يحسمه المستوي العقلي والمادي لكل فرد علي حدة شأن كل أصحاب الطموح من أهالي الدلتا الوسطي علي وجه العموم والمنوفية علي وجه الخصوص حيث تضيق الرقعة الزراعية مقارنة بعدد السكان ويتحول الفتات الزراعي الذي أفلت من العائلات الإقطاعية الكبيرة إلي مسرح حرب غير مأمونة العواقب لآلاف الأسر العادية شبه المعدمة. بعد نزوح إبراهيم مبارك حكاية - الجد الأكبر للرئيس السابق - من الأطراف الصحراوية المتاخمة لمديرية البحيرة واستقراره في المصيلحة قبل طرده منها مع العديد من رءوس العائلات الأخري علي يد عائلة زين الدين القوية إلي كفر المصيلحة الوليدة، عقب هذا النزوج وقبل أن تؤتي مجهودات عبدالعزيز باشا فهمي ثمارها ببضعة عقود، نجح بعض شباب بيت مبارك - أو إمبارك كما كانت تكتب في ترجمة لنطقها باللهجة البدوية التي تنتسب إليها - نجح هؤلاء البعض في تخطي مراحل التعليم التقليدية - وهي الكُتاب - ثم تجاوز المتوسطة منها - وهي الابتدائية التي حصل عليها سيد مبارك والد الرئيس - فاخترقوا حاجز التعليم الثانوي والجامعي مثلما فعل السيد - وليس سيد - مبارك خريج مدرسة الحقوق في العقد الثاني من القرن العشرين وكذلك أكثرهم شهرة وتعليماً وهو الدكتور محمد أحمد مبارك المولود في العاشر من نوفمبر 1890 كما تنبئنا النسخة الأصلية من شهادة ميلاده التي نستعرضها اليوم مع مجموعة من الأوراق الخاصة بالرجل والتي ننفرد بنشرها ويدور الجانب الأكبر منها حول تنقل الدكتور مبارك بين العديد من المستشفيات منذ تخرجه من مدرسة الطب عام 1918 وحتي وفاته في أعقاب قيام ثورة .1952 شهادة الميلاد أو تذكرة الميلاد كما كان يطلق عليها قبل قرن وربع حملت المعلومات التقليدية مثل موضع الميلاد وهو كفر المصيلحة التي كانت تابعة وقتها لمركز سبكة الشهير حينذاك قبل أن تنحسر عنه الأضواء - كعادة الدنيا مع الأماكن ومن يسكنونها - منتقلة إلي القرية الكبيرة الواعدة شبين الكوم التي لم تكتف بأن تتحول إلي حاضرة للمركز بل أصبحت عاصمة للمديرية بأسرها. المعلومات الأخري الواردة بتذكرة الولادة تتضمن اسم والدة الدكتور محمد وهو ضيا وكذلك اسم والده وصناعته - أحمد إبراهيم مبارك فلاح - وكذلك من تقدم ببلاغ الولادة وكانت داية القرية وتدعي «الحرمة إمباركة نور» وربما يثير اسمها تساؤلاً حول إمكانية انتمائها إلي عائلة الرئيس وهو أمر - إذا صح - لا يشكل أي إهانة كما قد يتبادر إلي ذهن البعض بل إن العكس صحيح فقد كانت مهنة الداية حينذاك لا تعمل بها سوي الحاصلات علي ترخيص يسبقه تدريب من مصلحة الصحة، كانت مهنة الداية ذات موقع اجتماعي متميز بالقرية المصرية تجني صاحبتها كسباً مادياً كبيراً متمثلاً في نقود سائلة أو ما يوازيها من محصولات بخلاف الوجاهة الاجتماعية واحتلال مكانة يصعب - بل يستحيل - الاستغناء عنها وقد ظل هذا الوضع قائماً حتي أقل من نصف قرن مضي عندما فقدت هذه المهنة هيبتها وبريقها بانتشار الأطباء في القري وتوافر المواصلات للانتقال إلي عواصم المراكز والمحافظات. عندما تخرج الدكتور مبارك لم تكن وزارة الصحة كياناً قائماً بذاته بل كانت إحدي المصالح التابعة لوزارة الداخلية وكانت وظيفة الطبيب وقتها بالغة الأهمية لدرجة أن عقد تعيين أي طبيب كان يجب التوقيع عليه من وزير الداخلية شخصيا كما ينبئنا بذلك الخطاب المرفق والموجه من «مدير عموم مصلحة الصحة إلي حضرة صاحب السعادة وكيل الداخلية بخصوص طلب التوقيع علي عقد تعيين الدكتور محمد أفندي أحمد مبارك للتوقيع عليه من حضرة صاحب الدولة وزير الداخلية» وكذلك خطاب آخر من قلم المستخدمين بالمصلحة إلي ناظر مستشفي قصر العيني مرفق معه نسختان من العقد لتسليم إحداهما للموظف الجديد وكان ذلك في مارس من العام .1918 كثيرة هي المراسلات الموجودة بين يدينا والمتعلقة بتعيين مبارك أو نقله من مكان إلي آخر وإن كانت لا تحوي تفاصيل وأسباب هذا النقل وهل كان هذا أمراً معتاداً أم بسبب ظروف إدارية أو سياسية معينة أو كان السبب فيها مشاكل تتعلق بشخصية وأداء الدكتور مبارك نفسه وإن كنا نرجح الاحتمال الأخير حيث إنه تنقل خلال ستة أعوام فقط بين عشرة مستشفيات تقع داخل سبع محافظات ومديريات مختلفة هي القاهرة والغربية والمنوفية وقنا وبورسعيد ودمياط والقليوبية، ويرفع من أسهم اتسام شخصية مبارك بالمزاج المتقلب أنه خلال هذه الفترة تقدم باستقالته ثلاث مرات وفي كل مرة كان يعدل عن هذه الاستقالة ويتراجع عنها عائدا إلي عمله بطرق ودية أو من خلال الوساطات كما تنبئنا بذلك إحدي القصاصات الصغيرة المحفوظة بملف خدمته والتي كتبها بخط يده موجها إياها إلي باشا مجهول لم يذكر اسمه وقال فيها ما نصه: «يقدم - أي الدكتور مبارك - احتراماته لسعادة الباشا ويلتمس عدم إعلان قبول الاستقالة قبل ثمانية عشر يوميا وقد أتفق مع سعادة النائب العمومي علي ذلك ويرجو موافقة سعادة الباشا الدكتور مبارك موجود يلتمس التشرف بالمقابلة» ومن الحجم وصيغة الكتابة يبدو أنه قدمها لسكرتير أحد الوزراء أو أصحاب المناصب المهمة محاولا مقابلته أو علي الأقل إخباره بتفاصيل ما تم في حالة الفشل في لقائه. اكتشاف العم المهم للرئيس السابق ليس هو المفاجأة الأولي التي نكشف عنها اليوم ولكن الأكثر إثارة وأهمية هو كشفنا عن انخراط هذا العم في صفوف جماعة الإخوان المسلمين وتصعد فيها بعد استقراره في شبين الكوم وأصبح من الكوادر القيادية في الإقليم ولكن يبدو أن هذا الانضمام جاء في إطار التدين الفطري لدي فلاح مصري من قلب الدلتا حيث لا يوجد شبهة في تورط الرجل بأي عمل عدواني أو تخريبي للجماعة كما كان الرجل من مشاهير الشخصيات العامة في عاصمة الإقليم حتي وفاته في عام 1954 وهو توقيت كانت شبين الكوم فيه ما تزال تحمل سمات المدن الإقليمية الوديعة الجميلة التي نشاهدها في أفلام الزمن الجميل حيث لم يتجاوز تعدادها في ذلك الوقت 50 ألف نسمة أي مجرد قرية كبيرة يعرف الجميع فيها بعضهم البعض بشكل شخصي ومما يؤكد ذلك أن الدكتور مبارك وبخلاف انضمامه لجماعة الإخوان كان عضوا في منظمة الشباب وهيئة التحرير التي ولدت علي يد حركة الجيش في 1952 وغيرها من الجمعيات الأهلية والخيرية مثل الإسعاف وتحفيظ القرآن الكريم. كان الرئيس السابق شديد الاعتزاز بعمه غير المباشر ثم بأبنائه من بعده حيث يؤكد البعض أن آخر مرة زار فيها أحد منازل بعض أفراد عائلته بكفر المصيلحة كانت أثناء فترة عمله كنائب وقبل توليه الرئاسة، كانت هذه الزيارة خصيصا من أجل تقبل العزاء في وفاة أحد أبناء الرجل ثم توجه بعدها إلي منزل العائلة لتقديم العزاء بنفسه إلي السيدات علي الرغم من وفاة عشرات من أفراد أسرته قبل وبعد هذا التاريخ ودون أن يبادر إلي مجاملة أهله الذين اشتهر عنه بينهم أنه لا يقدم لهم أي نوع من التميز أو الاستثناء وكأنه جعل هذه الاستثناءات حكرا علي أحمد عز مفسد مصر الأول! ارتباط الرئيس السابق بعمه تجلي بشكل آخر عند وفاة الرجل عام 1954 حيث بادر حسني مبارك بنشر مشاطرة في جريدة الأهرام كانت هي الأولي وربما الأخيرة التي حملت اسمه بشكل شخصي جاء فيها «ينعي قائد السرب حسني مبارك عمه المرحوم الدكتور محمد مبارك ألهمنا الله وآله الصبر والسلوان وأسكنه فسيح جناته» وقد جاءت هذه المشاطرة في الترتيب الأول بين خمس مشاطرت متتالية للرجل كان منها واحدة لتعزية ابن الرجل من جهة عسكرية وجاء فيها قائد وضباط ومدرسو وموظفو وعمال وطلبة مدرسة الصيانة ينعون والد الزميل الملازم أول مهندس عادل محمد مبارك للفقيد الرحمة ولآله الصبر والسلوان أما المشاطرات الثلاث الأخري فجاءت من جمعية تحفيظ القرآن الكريم ثم من منظمات الشباب وهيئة التحرير وأخيرا من جماعة الإخوان التي كتبت «الإخوان المسلمون بشبين الكوم يحتسبون فقيدهم الكريم الدكتور محمد مبارك ويسألون له الرحمة ولآله الصبر» ومن الملاحظ طبعا أنهم قاموا بنسبة الرجل إلي أنفسهم قائلين فقيدهم الكريم والطريف في الأمر أنه تزامن مع وفاة عم الرئيس وقوع حادث مأساوي لإحدي طيارات التدريب أسفر عن استشهاد ضابط طيار ومعه طالب فنشر حسني مبارك علي نفس الصفحة مشاطرة أخري قال فيها «ينعي قائد السرب حسني مبارك الشهيدين قائد السرب طلعت جاد والطالب نبيل عامر أسكنهما الله فسيح جناته وألهم الله آلهم الصبر». عودة إلي الدكتور محمد مبارك نختتم بها الحديث ونشير فيها إلي الواقعة التي سبق ذكرها والخاصة بوفاة أحد أبناء الرجل في النصف الثاني من عقد السبعينيات الفائت حيث نلاحظ أن الأسرة قامت بنشر نعي بجريدة الأخبار ذكرت فيه عددا غير قليل من أبناء عم الراحل وأسرته ولكنهم أغفلوا ذكر حسني مبارك رغم أنه كان نائب رئيس الجمهورية وقتها أي الرجل الثاني في مصر ولا ندري هل كان هذا خطأ غير مقصود أم أن ثمة خلافات كانت موجودة وقتها تم تداركها بنشر نعي آخر في جريدة الأهرام ضم في هذه المرة اسم الرئيس ذلك الرجل البائس الذي أحمل تجاهه شخصيا الكثير من مشاعر الود الذي امتزج بالغضب والسخط لاستسلامه للفساد، ذلك الفساد الذي ألقي به أسيرا حبيس أسرة المستشفيات وأعطاه كارتا أحمر طاردا إياه من ملعب التاريخ المشرف وملقيا إياه علي ذلك منتظري الرحمة من العباد وربهم.اللهم لا تسلبنا النعم من بعد العطاء.