الانتخابات المقبلة هى بوابة الأمل فى دخول ثورة يناير إلى مرحلة الشرعية الدستورية، مما يؤدى إلى أن تسود البلاد حالة من الاستقرار السياسى النسبى الذى يؤدى بدوره إلى عودة الحياة إلى طبيعتها، وإن كان على أسس مختلفة. الثورة قامت من أجل إزاحة نظام فاسد استمر مسيطرا على البلاد لعدة عقود، هذا النظام لا يتعلق فقط بالأفراد الذين مارسوا سلطة الحكم، وإنما بما استقر عليه الحال فى إدارة مؤسسات الدولة، وبالتالى فإن إزاحة الأفراد فى حد ذاته لا يمثل سوى خطوة فتح الطريق إلى الإصلاح ليس إلا، لكن ما زاد الأمور تعقيدا هو أن اتحاد الذين قاموا بالثورة كان على غرض واحد وهو إزالة النظام الفاسد دون أن يكون لديهم تصور لآلية بناء النظام الجديد. ما حدث على أرض الواقع أن الرئيس المخلوع حين أعلن عن تخليه عن السلطة لم يتركها فراغا، وإنما أوكل إدارة البلاد إلى المجلس العسكرى الأعلى، وسواء تمت هذه الخطوة من الرئيس السابق طواعية أو أجبره المجلس على ذلك، كما يتردد فى روايات سماعية كثيرة غير موثقة، فإن الأمور آلت بالفعل إلى المجلس العسكرى الذى أدار شئون البلاد من ذلك التاريخ حتى الآن، معززا بشرعية استفتاء 19 مارس الماضى. أما عن المجلس الأعلى ذاته فقد أبدى رغبة نحترمها جدا فى عدم الاستمرار بالسلطة لوقت طويل، وحدد مهلة ربما تنتهى فى أوائل العام الجديد لتسليم الحكم إلى سلطة منتخبة بعد إعادة تشكيل مجلسى الشعب والشورى وصياغة دستور جديد للبلاد وانتخاب رئيس جديد. نحترم رغبة المجلس فى ذلك، ونقدر رفضه لإغراء العروض التى انهالت عليه للبقاء فى السلطة وقتا إضافيا لا يمكن تحديد نهايته إذا بدأ، كما حدث مع ضباط يوليو 1952 منذ قيام الثورة وقتها إلى أن تم إقصاء الرئيس السابق حسنى مبارك قبل عدة أسابيع. لمن لم يعاصر تلك الفترة نقول إن الاختيار كان مطروحا أمام الشعب المصرى فى سنة ,1954 كان الاختيار مطروحا بين بقاء الضباط فى السلطة لإنجاز المبادئ الستة للثورة وبين عودتهم لثكناتهم وإحالة المسألة إلى حكومة مدنية تنفذ مبادئ الثورة، لكن تغلبت العناصر التى شجعت بقاء الضباط فى السلطة وانخراطهم فى إدارة الحياة المدنية مع بقاء صفاتهم العسكرية، وطافت مظاهرات مستأجرة فى شوارع القاهرة تهتف لا للديمقراطية وذهبت إلى مجلس الدولة رمز الدعوة إلى العودة إلى الحياة الدستورية المدنية وانهالوا بالضرب على المستشار السنهورى باشا رئيس مجلس الدولة. منذ تلك الحادثة الشهيرة فى تاريخ مصر الحديث والشعب المصرى يدفع ثمن ذلك اليوم حتى الآن، يدفع ثمن أنه لم يتصد للذين قالوا لا للديمقراطية ولم يوقف الذين ضربوا السنهورى باشا. الحقيقة أننى أستشعر تكرار تلك المأساة المروعة حين أرى المحاولات المستميتة من البعض لإغراء المجلس العسكرى للبقاء فى السلطة، فإذا لم يمكن إغراؤه فلا سبيل إلا إجباره على البقاء بإثارة الفوضى فى البلاد وإشاعة أن الظروف غير مناسبة لإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية فى ظل انفلات أمنى حاد، جزء كبير منه مصطنع تحت أعين بعض الناشطين الذين يخلطون متعمدين بين دور جهاز الأمن فى مطاردة الانفلات الأمنى الجنائى وبين انحسار دوره سياسيا بعد تغيير نظام الحكم وسقوط الشرعية السابقة. نحن الآن نتحرك مع جهاز الأمن فى اتجاه واضح ومحدد وهو إنهاء حالة السيولة والانفلات فى الشوارع التى يستثمرها ويشجعها بعض الناشطين بغرض إشاعة أن المناخ الأمنى لا يسمح بإجراء الانتخابات. أنا شخصيا لا أرى مخرجا من تنازع الشرعية القائم حاليا إلا بإجراء انتخابات وقبول نتائجها أيا كانت لنتمكن من تنظيم الحديث عن ملامح الحكم فى الفترة المقبلة، ولنستطيع أيضا فتح الملفات الشائكة التى تهم المواطنين مثل قضايا الأجور والأسعار والإسكان والضرائب والإنتاج والتوظيف وغيرها من الموضوعات التى لا يمكن حلها بتبادل الآراء فى البرامج الحوارية، أو إطلاق الفتاوى على المقاهى، أو بالوقوف احتجاجا على قارعة الطريق. إن مصير شعب وأمة يستحق أكثر من ذلك بكثير.