شاركت مع غيرى أحداث ثورة يناير.. وتقاسمت مع من كانوا فى الميدان السجائر والشطائر وأكواب الشاى وتبادلنا أحاديث الأمل والأحلام.. وعندما انتصرت الثورة فى تمام الساعة السادسة من مساء الجمعة 11 فبراير الماضى انفجرت ينابيع الفرحة لتغمر القلوب.. وتحدثنا طويلا عن مستقبل رائع نشارك فى صنعه جميعا. وفى تلك الليلة رأيت أن هذه الثورة زلزال اجتماعى وثقافى أكثر منه زلزالا سياسيا.. فقد غيرت الثورة علاقة المواطن المصرى بالسلطة الحاكمة.. وكشفت ضعف القوى السياسية المعروفة، التى سارعت - بعد أن تأكدت أن الثورة لم تحدث صدفة ولن يطويها النسيان - إلى إعادة النظر فى أساليب عملها وبرامجها لتلحق بقطار المستقبل الذى حركته الثورة.. وفى أيام الثورة الأولى تأكدت أن أزمة النظام السابق كانت تتلخص فى أنه كما يحكم شعبا لا يعرفه ولا يقدر عظمة قدراته فاستخف بالمصريين استخفافا مهينا، حيث كان يتصرف وكأنهم شعب لا ثقل سياسيا له يستحق وضعه فى الحسبان.. أو أنهم مجرد بسطاء يجمعهم مزمار وتفرقهم العصا وتقنعهم بعض الأكاذيب الهزيلة.. وانهارت الثقة بين المصريين والنظام السابق بعد أن شعر الناس أنه نظام لا يسعى لتحقيق أحلامهم البسيطة فى الحصول على شقة أو فرصة عمل أو مرتب يكفى لحياة كريمة أو علاج لائق أو تعليم يعد أبناءهم لمستقبل أفضل.. وزاد من انهيار الثقة أن الانتخابات زورت.. والمصانع تم بيعها وانتشرت أحاديث الفساد وضاع الأمل فى المستقبل.. لذلك خرج المصريون إلى الشوارع فى ثورة يناير ليغيروا هذا النظام الذى أفسد حياتهم متطلعين إلى بناء نظام جديد يفتح أمامهم أبواب الأمل. ومرت سبعة أشهر وأنا فى انتظار الاستقرار وإجراءات تحقيق أهداف الثورة.. تابعت الأخبار وشاركت فى ندوات وحوارات واحتجاجات متنوعة.. وقرأت التقارير والدراسات ولم أفهم شيئا.. وسألت بعض الخبراء فوجدت الرؤية عند أغلبهم أكثر ارتباكا.. وأصبح المشهد السياسى أمامى مشوشا بعد أن وجدت أن النخبة المصرية قد انشغلت بموضوع السلطة عن معالجة هموم الناس.. وهى الهموم التى أدى تجاهلها إلى تفجير الثورة.. ووجدت الجمعيات الأهلية مشغولة بدورها السياسى أملا فى المشاركة فى الحكم عن دورها الأساسى فى خدمة البسطاء.. حتى شباب الثورة تفرقوا بين نحو 200 تحالف وحزب وائتلاف.. وأجلوا الاهتمام بهموم الناس.. وانشغلوا فى حوارات السلطة أملا فى الحصول على مقاعد المشاركة فيها.. وانحصر النشاط السياسى الذى تقوده النخب صاحبة الصوت العالى فى برامج التليفزيون وصفحات الجرائد وقاعات الندوات المغلقة.. فحدث الانفصال بين هذه النخب وقطاعات واسعة من المصريين. وانشغل الجميع بتبادل الاتهامات.. ومتابعة المحاكمات والفضائيات.. وتوالى المليونيات التى خرجت بمسميات مختلفة.. وانفجرت المطالبة الفئوية.. وانتشر السلاح وحوادث البلطجة.. وغرقنا فى أحاديث التمويل الأجنبى.. وتباينت الآراء حول قوانين الانتخابات والغدر والطوارئ وغيرها.. وتابعنا المشاحنات بين قوى الإسلام السياسى والقوى العلمانية والمصادمات بين المؤيدين لمبارك والمناهضين له.. كما تابعنا كيف سارعت بعض القوى السياسية إلى التحالف مع القوى الحاكمة فلجأت قوى أخرى إلى الشارع لاستعراض قوتها، وكيف أصبحت الجماهير تمارس ديكتاتورية فريدة.. فلا يستطيع أحد انتقاد مظاهرة أو حركة احتجاجية وإلا أصبح من الفلول.. وهى تهمة خطيرة يمكن إلقاؤها على أى شخص تنفس الهواء فى عهد مبارك.. ربما لذلك عادت الأغلبية الصامتة إلى صمتها.. وعاد البسطاء إلى انشغالهم المعتاد بلقمة العيش.. وأصبح كل ما تبقى من الثورة عندهم مجرد موضوع يشغل جزءا بسيطا من أحاديثهم المسائية فى البيوت والمقاهى. ووسط هذه الحالة الضبابية مازلت أذكر الأحاديث التى دارت ليلة انتصار الثورة.. عندما كان الشباب يردد بعزة وثقة لسنا أقل من ماليزيا وسنغافورة وتركيا.. ولم يطرحوا الأسئلة التى تدور الآن هل سيكون النظام رئاسيا أم برلمانيا.. والدولة هل ستكون دينية أم مدنية.. وهل نبدأ بإعداد الدستور أم إجراء الانتخابات.. وعندما سألت بعضهم عن نظام الحكم المطلوب قالوا التجارب الناجحة فى العالم كثيرة.. ولن نخترع العجلة.. وعلينا فقط أن نختار ما يناسبنا ويساعدنا على مواجهة تحديات المستقبل.. وعندما تابعت ما حدث خلال الأشهر الماضية زاد ارتباكى ربما لأننى لم أرصد تحركا جادا يقودنا خطوات للأمام.. فلم أسمع عن مليونية تدعو إلى العمل وزيادة الإنتاج.. أو أخرى تدعو لمساندة الشرطة فى تحقيق الأمن.. ولم أسمع أحدا من تيارات الإسلام السياسى يروى موقف سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عندما قال لمن حاربوه وآذوه بعد انتصاره عليهم: (اذهبوا فأنتم الطلقاء).. بل وجدت فى أغلبهم سعيا للسلطة ورغبة فى التشفى.. وتابعت نشاط حكومة الثورة فوجدت أنها لم تقدم مشروعا قوميا يستوعب طاقة الشباب.. وهى الطاقة التى أهملت فى الماضى فانفجرت.. كما أنها لم تقدم رؤية اقتصادية خلاقة وتصورا لنظام حكم نزيه يرفض الفساد والتهميش والظلم الاجتماعى والاقتصادى وينحاز لمصالح الناس.. ويفتح مع فئات الشعب حوارا جادا يرسم ملامح المستقبل الأفضل.. باختصار أصبحنا جميعا نلف وندور حول أنفسنا بلا رؤية واضحة تدفعنا للتحرك للأمام وتلك هى المشكلة.. ورغم كل هذا مازلت فى انتظار تحقيق الاستقرار وأهداف الثورة.