اسمحوا لى أن أحدثكم عن أمر مفرح. أعرف أن هناك مناحة كبرى.. سرادقها منصوب من المحيط الأطلسى إلى الخليج العربى.. للبكاء على ميت عملاق مطلوب دفنه.. بأوامر من واشنطن ولندن وتل أبيب وبموافقة من بقية العواصم الأطلسية. ورغم أنى أحضر مراسم العزاء وأراقب الاستعدادات للدفن منذ سنوات فقد لاحظت أن الميت - وياللعجب - حى ويقظ ومتفتح وشبابه الغض يزداد تألقا وفورانا.. يوما بعد يوم. مثلاً.. مثلاً.. لقد حضرت يومى الثالث والرابع من أغسطس الجارى ورشة عمل نظمها المجلس القومى لحقوق الإنسان عن الهجرة غير المشروعة، وشاركت فيها منظمات من المجتمع المدنى فى مصر وليبيا وتونس والجزائر والمغرب، وفى هذه الندوة تأكد لى أن العالم العربى حى ومتجدد ومصر على الحياة والتجدد. وكما أوضح كثير من المشاركين من خلال ما قدموا من أوراق وما أقدموا عليه من مداخلات فإن التركيبة السكانية للعالم العربى شابة وتزداد شبابا والتركيبة السكانية لدول العالم الصناعى عجوزة وشايخة وتزداد شيخوخة وعجزا على مر الأيام وعلى كر السنوات. وهذا هو أساس المشاكل القائمة بيننا وبينهم. والمقصود بالشيخوخة السكانية الزيادة المتواصلة فى نسبة من تزيد أعمارهم عن خمسة وستين عاما إلى مجمل السكان. وهذا يعنى تراجع أعدادالقادرين على العمل والإنتاج وزيادة أعداد من يحتاجون إلى الرعاية الصحية والنفسية. ودول العالم الصناعى كلها تدخل ضمن هذه المجموعة مجموعة الدول المكتهلة.. فى حين أن العالم العربى.. وخاصة دول شمال أفريقيا العربية الخمس.. هى فى ريعان الشباب وتزداد كل يوم شبابا وعنفوانا. ولكن ماجدوى الشباب مع الجوع والجهل والاستكانة؟ العالم الصناعى يطرح إجابات.. من وجهة نظره هو.. على هذا التساؤل وقد ذهبت إلى ورشة العمل التى نظمها المجلس القومى لحقوق الإنسان وأنا أتصور أن الإجابات التى يطرحها العالم الصناعى ستكون هى الإطار الذى ندور فيه جميعا. لكنى فوجئت بأن العناصر الشابة من مصر مثل شادى سيدهم ممثل الفيدرالية الأورومتوسطية لحقوق الإنسان ومحمد فضل البرديسى وهو محام شاب ناشط فى مجالات حقوق الإنسان و من المغرب حفصة الفيلال ونفيسة الدلالى ومن تونس على زيدانى وغيرهم يتحدثون بلسان الشرق العربى ويفرضون رؤاهم المخالفة للرؤى المتنزلة علينا من الغرب. وأن أذكر هذه الأسماء كمجرد نماذج خاصة أنهم كانوا فى مجموعة العمل التى كنت مقررا لها فعرفتهم عن قرب. وقد ركز المشاركون المصريون والتونسيون والجزائريون والمغاربة على أن المعالجات الأمنية لا تكفى للحد من الهجرة غير المشروعة وعلى أن حقوق المهاجرين يجب أن تكون لها أسبقية على أى اعتبار آخر. وطالبت حفصة بالتنسيق مع الجهات الحكومية وهو ما اعتبرته خروجا على التوجه الغربى.. والأنجلو أمريكى بالتحديد.. الذى يسعى لتأجيج الصراع بين المجتمع المدنى والحكومات وإلى تسييس أجندات الإصلاح الاجتماعى. وشجعنى هذا كله على أن أقول إن منظمات الأممالمتحدة المعنية بالتنمية مثل البرنامج الإنمائى للأمم المتحدة والصندوق الدولى للتنمية الزراعية وغيرهما من المؤسسات المعنية بمكافحة الفقر الريفى يجب أن تدعى إلى ورش عمل كهذه وإن كنا نشكر مكتب الأمم الأمم المتحدة للمخدرات والجريمة على اهتمامه بالموضوع فنحن نؤكد أن الهجرة المشروعة وغير المشروعة لا علاقة لها لا بالجريمة ولا بالمخدرات. وبعنفوان الشباب رد على زيدانى طالبا منى أن أقول هجرة غير نظامية وليست هجرة غير مشروعة وقالت حفصة الفيلال إن الأطفال والقصر العرب الذين يتسللون عبر الحدود الدولية ليسوا مجرد ضحايا بل هم ثوار يغيرون طبيعة التقسيم الدولى للعمل وللثروة..كيف؟ لا أدرى.. اسألوا الشباب. مرة أخرى أعتذر عن مقاطعة المناحات القومية بالحديث عن أمر مفرح وإن كان بسيطا وعابرا لكننى أرى فيه بشارات المستقبل.