خيط رفيع.. أبيض أو أسود لا يهم.. لكنه يفصل بكل وضوح بين (الفوضى) والحق فى الاعتصام.. بين (التظاهر) فى الوقائع الجنائية.. بين أن تتمتع بممارسة حقوقك المدنية، وأن تجد نفسك مطاردا بإحدى مواد قانون العقوبات (!!)... وهذا ما بدت عليه الصورة - داخليا وخارجيا - خلال الفترة المنقضية، إذا غابت الضوابط القانونية، فسيطرت على المشهد الوقائع (العبثية)، ثم أن انقطع الخيط (!!) ظهر هذا فى محاولات اقتحام السفارة الإسرائيلية.. وبدت ظلاله فى العديد من الاعتصامات والاحتجاجات الفئوية.. فمن البديهيات القول إن حق التظاهر مكفول للجميع.. لكن من خلال الشرعية التى كفلتها الدساتير الوطنية لمعظم بلدان العالم. فالفيلسوف الإنجليزى (جون لوك) كان أن أكد فى مؤلفه الثانى عن الحكومة (فكرة الحكومة بالتوافق أو الاتفاق)، وأن الكائن البشرى يتمتع بحقوق طبيعية منها حق التعبير، وبالتالى حق التظاهر والاعتصام. ومن خلال النظريات المتلاحقة التى تبنتها الكثير من القوانين فى أوروبا وأمريكا والتى تكرست نتيجة الحروب والانتفاضات الشعبية، لاسيما حروب الاستقلال، تم الوصول إلى اكتساب هذا الحق. ففى بريطانيا، تم وضع الميثاق الكبير عام 1215م، الذى قيد من صلاحيات الملكية المستبدة، تبعه إعلان الاستقلال، لجمهورية الداتش (هولندا - ألمانيا) لعام 1581م، ومن بعدهما إعلان الاستقلال للولايات المتحدة الثلاث عشرة، الذى جرى التصديق عليه فى الكونجرس بتاريخ الرابع من شهر يوليو 1776م، الذى لخص التمثيل الصحيح فى السلطة التشريعية كحق ثابت، ومقاومة الحاكم المستبد، غير القادر وغير المؤهل لحكم شعب حر. نتيجة لإلغاء الإقطاع فى فرنسا خلال الأحداث التى ترافقت مع انطلاق الثورة هناك فى لعام 1789م، فرض مبدأ التساوى بين المواطنين، وأطلق كل من ميرابو وسياياس إعلان حقوق الإنسان والمواطن، الذى عدد الحقوق الطبيعية غير القابلة للتنازل عنها أو المساومة بشأنها، وأهمها حرية الفرد، الملكية الفردية، والأمن ومقاومة الظلم أو القهر أو الاستبداد. وأن حق حرية التجمع قد يتضمن حق التظاهر.. لكن لا توجد أى آلية حقوقية أو دستورية تمنح الحق المطلق للتظاهر، إلا أن العديد من لوائح حقوق الإنسان والدساتير تنسب حق التظاهر إلى حرية التجمع أو حرية التنظيم أو حرية الكلام والتى نص عليها الإعلان العالمى لحقوق الإنسان. وأما على صعيد القانون الدستورى، فقد طغت وتكرست أحكام القانون الطبيعى، بحكم الانتفاضات والثورات المتلاحقة، لاسيما فى دول الغرب، وأصبحت جزءا أساسيا من مقدمات وقواعد الدساتير؛ فى كل من فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدةالأمريكية، فضلاً عن معظم الدول الأوروبية، وتشكل رأس الهرم فيها قواعد ومبادئ الحريات العامة، ومنها وأهمها حق التعبير والاجتماع والانتفاضة بوجه الظلم والاستئثار والطغيان، وبهدف تغيير النظام السياسى أو الانقضاض على الحكومة القائمة، بقصد استبدالها أو إرغامها على تعديل أو تغيير نهجها فى مواضيع محددة، ذات تأثير مباشر إما على حياة ومعيشة المواطن وإما على كرامته وحريته ومعتقده. ففى فرنسا مثلاً، يتوجب على منظمى المظاهرات للحصول على «التصريح» الخاص بالتظاهر من أقرب قسم شرطة، قبل شهر من موعدها، ويمكن أن تمنعها السلطات فى حالة مخالفتها للدستور.. مثلا إذا كان موضوع المظاهرة يحرض على القتل أو التفرقة العنصرية، ولكن هذا أمر نادر جدا؛ وطبعاً هذا ليس طلبا بترخيص، بل تصريح «declaration» ويمكن معاقبة من يقوم بمظاهرة غير مصرح بها بالسجن 6 أشهر، والغرامة 7500 يورو. والنقابات بفرنسا، تقوم فى أول السنة بعمل تصاريح لكل أيام السنة مسبقاً، وتوضح متى وكيف وأن يستطيعوا القيام بالمظاهرات؛ الاختلاف بين ما يحدث لدينا والبلاد الأعرق ديمقراطية هو أن تلك وصلت لمرحلة الاستقرار، وبها عقد اجتماعى ودستور منبثق عنه متوافق عليه. أما فى أستراليا فيخضع المواطن الأسترالى لثلاثة أنواع من القوانين، وهى: القوانين الفيدرالية، والتى تسرى على جميع الشعب الأسترالى، وقوانين الولاية وقد تختلف من ولاية لأخرى، طبقا لسياسة حزب الأغلبية الحاكم فى زمن معين، وتسرى هذه القوانين على أرض هذه الولاية فقط، سواء مقيمين إقامة دائمة، أم مجرد زائرين. والفئة الثالثة من القوانين هى تلك الصادرة من المحليات، وتختص عادة بأحوال الشارع من نظافة وتشجير وسيارات وركنها وتوفير وسائل نظافة الشوارع وجمع القمامة ولا توجد قوانين فيدرالية تتعلق بالمظاهرات أو الشغب «Riot».. والتى تكون عادة من اختصاصات حكومة الولاية، ومثل هذه القوانين تختلف من ولاية لأخرى طبقاً لسياسة وفلسفة الحزب الحاكم. ولكن عموما، تنقسم القوانين التى تتعلق بالمظاهرات إلى نوعين: قوانين مكافحة الشعب «Act Riot Control».. وهى القوانين التى يقصد بها حماية الشارع من أعمال الشغب، والتى لا تكون دوافعها سياسية مثل أحداث التصادم بين أنصار فرق كرة القدم فى الشوارع، مما يؤدى إلى إصابة بعض المتظاهرين والجمهور، وحدوث تلفيات للمنازل والمحلات والسيارات.. ويتم توقيع عقوبات رادعة على من يحدث تلفيات، وتزداد العقوبة إذا كان عدد المشاغبين يزيد على 12 فرداً. والنوع الثانى هو قانون تنظيم المظاهرات «Assembly and Demonstrations Act»، وهو القانون المنظم لعمليات الاحتجاج والمسيرات السلمية، ويتطلب من منظمى المسيرة أو المظاهرة الحصول على إذن مسبق يحدد خط سير المظاهرة وموعد بداية مسيرتها وتجمعها فى مكان لا يعرقل حركة المرور. والهدف من التصريح ليس التضييق على المتظاهرين سلميا بل حماية المسيرة من أى جماعات مناهضة ترغب فى التحرش بالمسيرة إذ أحياناً ما يفلت العيار، وتنقلب المظاهرة السلمية إلى شغب.. وفى هذه الحالة تطبق «قوانين الشغب» على الفئة المخالفة، وتوجه لهم تهم تتناسب مع الضرر الناتج عن هذا الشغب. فى جميع هذه الحالات تكون عربات الإسعاف مرافقة لقوات الشرطة أو قوات مكافحة الشغب «وهى قوات من البوليس المدربة على مقاومة الشغب» حسب الظروف لعلاج من يصاب بإصابات سواء من جانب الأمن أو المشاغبين. ولكن حالات الشغب نادرة، ولا تحدث إلا فى أيام الاحتفال بأعياد رأس السنة الميلادية، حيث ينص قانون ولاية فيكتوريا مثلا على عدم تعاطى الخمر فى حالة التجمعات الكبيرة والتى يصل عددها حوالى 50 ألف شخص فى وسط المدينة فى ليالى رأس السنة. أما قوانين المحليات فهى تختص عادة بإشغال الطرق والسيطرة على الشغب الذى يحدث فى «المولات» والأماكن المسماة Car Free Zone وهى بعض الميادين الصغيرة التى تمنع السيارات من السير فيها وتخصص للمشاة فقط وبعض الباعة الجائلين حيث توجد المقاهى على الأرصفة وتقوم بعض المجموعات الشبابية بعزف ألحان بآلات موسيقية مختلفة، وبمكبرات صوت يحكم مستواها قانون المحليات كما يعرض بعض الشباب حركات أكروباتية. فى أوروبا لابد من تحديد مكان محدد للمظاهرة يحيطه السياج ولا يحق لأى متظاهر الخروج عنه والمسيرات المتحركة لها أيضاً مسار متفق عليه سلفا لا يمكن الخروج عنه وفى كل الأحوال هناك توقيتات متفق عليها مسبقاً للمظاهرة وموافقات من الأمن على كل الخطوات السابقة بما لا يؤثر على حياة الآخرين. ودائماً ما تقترن كلمة التظاهر بكلمة أخرى، هى «سلمى».. إلا أن الجميع يحاول تعريفها بحماية المتظاهرين من قمع السلطة، ويفوتهم ارتباط الكلمة الجوهرى بالتظاهر والتى تعنى التزام المتظاهرين بالقوانين والقواعد العامة خاصة ما يتعلق منها بالحفاظ على الممتلكات والأموال العامة من التخريب أو الإحراق أو السرقة، وبعكسه تتحول أى مظاهرة إلى أعمال شغب تستدعى ردودا عنيفة من السلطة. وفى حق التظاهر السلمى فى كل الديمقراطيات يتم تقديم المتظاهرين الذين يمارسون التخريب مع قوات الأمن التى تطلق النار إلى المحاكمة وتطبيق القانون على الحالتين.. لأن السكوت عن أى منهما أو كليهما هو دعوة متواصلة لاستعداء كل طرف ضد الآخر.. وسوف تتكرر تلك الحوادث وربما تقود إلى ما لا تحمد عقباه.