«الفن هو العلامة التى تهدينا فى العتمة، الضوء الذى يجعلنا نرى أنفسنا والآخرين بعيون أكثر رحمة وأوسع أفقًا». تحت هذا الشعار انطلقت من قلب شمال الدلتا، وعلى ضفاف البحر المتوسط، فعالية فنية بعنوان «شمندورة». لمناهضة فكرة الهجرة غير الشرعية التى اشتهرت بها قرية برج مغيزل بمحافظة كفر الشيخ، بمشاركة أطفال وشباب القرية. مشروع شمندورة، الذى جاء اسمه من العلامة الملاحية التى تهدى السفن فى البحار للطرق الآمنة، تنفذه مبادرة الحلقة للفنون التراثية، بالتعاون مع مبادرة مَكَانُنَا، وبدعم من مؤسسة العمل للأمل. يقول مؤسس مبادرة الحلقة والباحث فى التنمية الثقافية محمد رجب، «الشمندورة هو مشروع تدخل فنى، فى قرية عرفت فى السنوات الأخيرة كمصدر رئيسى لرحلات الهجرة غير الشرعية، وشهدت حوادث مأساوية انطلقت من شواطئها، وقررنا تقديم هذه الفعالية ضمن توجه أوسع لمبادرة الحلقة المؤمن بقدرة الفن على إحداث أثر وتغيير اجتماعى حقيقى». ويكمل رجب: «هدفنا كان بسيطًا للغاية، الوصول لشباب وأطفال القرية المحرومة من الخدمات الثقافية وتعانى الفقر والبطالة، من خلال تصميمات فنية object art تم الاستقرار على رمزيتها فى الشمندورة، كعلامات ملاحية ترشد السفن فى البحر لتصبح رمزًا للأمل وقدرة الفن على التعبير عن أحلامهم وتعديل المسار». «الحلقة هى مبادرة مهتمة بدمج الفنون المحلية والتراثية فى السياق الثقافى العام بشكل معاصر، تعمل منذ عام فى المجتمعات المهمشة أو التى تعانى من الاستبعاد وندرة الخدمات»..
سألت «روز اليوسف» مؤسس مبادرة الحلقة هل تنجح فعالية فنية للأطفال فى حمايتهم مستقبًلا من خطر الهجرة غير الشرعية، فأجاب: «لم أكن أفكر بأن الفعالية سوف تمنعهم من الهجرة عندما يكبرون، لأن المسألة شديدة التعقيد، ولن يُغيرهاevent أو فعالية فنية فى يوم واحد بالقرية». ويُكمل: «حكى لى شاب فى القرية، أن عمه فقد ابنه غرقًا فى البحر بسبب الهجرة، وبعد مضى شهور على وفاته، كان يساعد ابنه الثانى بالأموال لدفعها لتجار الهجرة غير الشرعية وللسفر». أكد رجب أن هدفهم كان خلق مسارات بديلة تعزز الأمل والانتماء لشباب القرية وأطفالها بدًلا من الهروب والخطر، «مثلما الشمندورة علامات مضيئة تُرشد البحارة والمراكب، أردنا من تلوين الأطفال لمجسماتها ترك علامات لهم فى القرية، وأن يصبح لهم أثر فى المكان ويرتبطون به بشكل شخصى». فكرة المشروع قائمة على تنفيذ ماكيتات وتصميمات فنية على شكل «شمندورات ومراك». يتم تثبيتها على طول ممشى شاطئ القرية (فى منطقة ورش المراكب)، بينما يكتب ويرسم أطفال وأهالى القرية رسائلهم ويلونون أحلامهم حول مستقبل أفضل. على أن تتجمع المنتجات النهائية فى تركيب فنى (Installation) يجمع بين المعدن والخشب، يبقى على شاطئ القرية كتذكار رمزى يعبر عن طاقة الشباب وقدرتهم على إضاءة الطريق نحو مستقبل مختلف. الفن التشاركى من جانبها، قالت المهندسة المعمارية ومؤسسة مبادرة «مكاننا» هدير دهب: «رحلة مكاننا دايمًا تبدأ من سؤال بسيط: «إزاى ممكن نعيد اكتشاف المكان بعيون الناس اللى عايشين فيه». أضافت لروز اليوسف: «من خلال مشروع شمندورة نخلق مساحة جديدة نطرح فيها الفن التشاركى كوسيلة للحوار والتفاعل فى المساحات العامة، ولإعادة تخيّل علاقتنا بالمكان وأهله». أوضحت «دهب» أن تنفيذ الفعالية الفنية تم بالشراكة مع طلبة كلية الفنون التطبيقية قسم الزخرفة جامعة حلوان تحت إشراف دكتورة ياسمين الجامع ودكتورة منه رزق، «عمل أكثر من 75 طالبًًا وطالبة من الفرقتين الأولى والثانية على تطوير التصميمات خلال خمسة أسابيع من الورش العملية». تابعت: «الطلاب درسوا خلال الورش مفهوم الفن المجتمعى، وتعلموا كيف يمكن للفن أن يؤدى دورًا فى التغيير الاجتماعى».، لافتة: «كنا نقول لهم ماذا يعنى الفن من أجل تغيير مجتمعي؟ وكيف يُصبح الفنان جزءًا من الحل وليس مجرد مُصمم يعمل على الورق فقط». أشارت مُؤسِسة مبادرة مكانُنا إلى أن الفكرة الرمزية للشمندورة كانت الملهم الرئيسى للتصميمات.الشمندورة دائمًا رمز للنور الذى يُرشد المراكب فى البحر، لذا قررنا أن نحولها رمزًا للأمل وللحياة بدل الهجرة». ثم انتقلت الفعالية إلى قرية برج مغيزل، بمشاركة نحو 100 من أطفال القرية. ووصفت «هدى». التفاعل من الأطفال مع الفعالية بالمدهش،مؤكدًة أن كل طفل رسم أحلامه وطموحاته على السمكة التى يلونها. أما عن استقبال الأهالى، فترى هدير أن التجربة خلقت حوارًا جديدًا داخل القرية: «سعدت للغاية عندما تفاعل مُدرس اللغة العربية أحد الفاعلين فى المجتمع المدنى المحلى بالقرية، ونشر فيديو عبر الفيسبوك للأطفال أثناء رسمهم وتلوينهم بالورشة، وانهالت التعليقات عليه بحماس شديد تسأل: «متى سنزور القرية مرة ثانية، وتنظيم ورش الرسم والتلوين». وترى المهندسة هدير أن الفن سيظل مدخلًا مهمًا لاكتشاف المجتمع المحلى وفهم احتياجاته. وحول رؤيتها المستقبلية للمشروع، تتخيل هدير أن يتحول شاطئ برج مغيزل إلى مساحة عامة نابضة بالحياة: وتجلس النساء والأطفال على البحر، وسط الشمندورات المضيئة وتمر المعدية التى تنقلهم من وإلى مدينة رشيد بالشمندورات، لتصبح نقطة حياة لا نقطة مغادرة. وتختتم دهب حديثها لروز اليوسف بابتسامة: «ربما يرى أحد الأطفال الذين شاركوا فى الورشة بعد عام، ورسوماتهم منشورة فى معرض أو خبر فى جريدة، وقتها سيشعرون بقيمة ما يحدث».. الفن التوجيهى مرفوض وعن دور الفن كبديل حقيقى فى إحداث تغيير للمجتمعات المهمشة والاشتباك مع القضايا المجتمعية، يقول رجب: «الناس أصبحت لا تتقبل الفن التوجيهى، أصبحت هناك ضرورة للارتجال والحرية الفنية، صحيح فعالية شمندورة هدفها مناقشة الهجرة غير الشرعية، لكن لم تكن فعالية توعوية بل فنية».