فى واحدة من أكثر اللحظات تأثيرًا فى تاريخ مهرجان البندقية السينمائى، خطف الفيلم الوثائقى (صوت هند رجب) الأنظار، ليتحول من عمل سينمائى إلى صرخة إنسانية مدوّية خرجت من غزة لتصل إلى شاشات فينيسيا، وتضع العالم أمام مسؤوليته تجاه المأساة الفلسطينية. الفيلم الذى أخرجته التونسية «كوثر بن هنية»، والحاصل على دعم تنفيذى من أسماء بارزة مثل «براد بيت، خواكين فينيكس، وألفونسو كوارون»، لم يأتِ كعرض سينمائى عادى، بل كحدث استثنائى يتجاوز الفن ليصبح موقفًا سياسيًا وأخلاقيًا. من تسجيل صوتى إلى فيلم عالمى قصة الفيلم تعود إلى تسجيل صوتى قصير أرسلته الطفلة الفلسطينية «هند رجب»، ذات الأعوام الستة، قبل دقائق من استشهادها خلال القصف الإسرائيلى على غزة. الكلمات المرتجفة التى أطلقتها عبر الهاتف لطلب النجدة، تحولت إلى أيقونة للبراءة المهدورة، وأصبحت شرارة لانطلاق مشروع سينمائى يوثّق ليس فقط مأساة طفلة، بل وجع شعب كامل يعيش تحت الحصار والحرب. المخرجة «كوثر بن هنية» رأت فى هذه اللحظة الإنسانية الموجعة مادة لا يمكن تجاهلها، فجمعت الشهادات والوثائق والأصوات الحقيقية، لتصوغ فيلمًا يوازن بين الألم والصدق الفنى، وبين السرد التوثيقى والبعد الشعورى العميق. ومن إحدى اللحظات الأكثر تأثيرًا فى الفيلم كان ظهور والدة «هند»، التى تحدّثت عن ابنتها بصوت يختلط فيه الحزن بالفخر. الأم وصفت الفيلم بأنه «نافذة تُبقى هند حيّة فى قلوب العالم»، مؤكدة أن هذه التجربة المريرة تحولت عبر الفن إلى شهادة لا يمكن محوها. أصوات عالمية خلف الفيلم حضور «براد بيت، خواكين فينيكس، وألفونسو كوارون» كمنتجين منفذين منح الفيلم بعدًا إضافيًا من القوة والانتشار. وجود هذه الأسماء الكبرى لم يكن مجرد دعم مالى، بل رسالة واضحة أن ما يحدث فى غزة قضية إنسانية تهم العالم بأسره، وأن السينما يمكن أن تكون منصة للتضامن العابر للحدود. «بن هنية» نفسها أكدت أن المشروع لم يكن مجرد فيلم، بل واجب إنسانى تجاه ضحايا الحرب. وقالت فى تصريحاتها أنها توقفت عن كل مشاريعها الأخرى، كان مستحيلًا أن تواصل طريقها وكأن شيئًا لم يحدث. مؤكدة أن السينما هنا لم تكن خيارًا فنيًا فقط، بل ضرورة لئلا يُدفن صوت «هند» فى الصمت. المهرجان.. والحدث السياسى الموازِى مع عرض الفيلم فى فينيسيا، لم تقتصر ردود الفعل على القاعة المظلمة. بل وصلت لخارج أسوار المهرجان، وقبل عرض الفيلم بأيام قليلة.. حيث كانت هناك احتجاجات ترفع علم فلسطين وتطالب بالعدالة. السجادة الحمراء تحولت إلى مساحة للتعبير عن التضامن، فى مشهد غير مسبوق لمهرجان يُعرف عادةً بالترف والنجومية. وقد حرص عدد من نجوم إيطاليا على دعم غزة على السجادة الحمراء للمهرجان ومنهم «ميشيل ريوندينو» الذى ارتدى شارة فلسطين حرة، بينما ارتدى «كلاوديو سانتاماريا» علم فلسطين على يده وهو برفقة الإعلامية «فرانشيسكا بارا» والتى ارتدت أسورة تحمل اسم فلسطين. كما حرص ضيوف فيلم (Il Maestro) على السجادة الحمراء لمهرجان فينسيا على حمل علم فلسطين أثناء مرورهم على السجادة أمام عدسات المصوريين، وذلك تعبيرا عن تضامنهم مع الشعب الفلسطينى وتنديدا بممارسات الاحتلال فى قطاع غزة. وفى المقابل، لم يمر الأمر مرور الكرام؛ إذ أعربت إسرائيل عن استيائها من اختيار الفيلم ضمن المسابقة الرسمية، واعتبرت عرضه فى المهرجان خطوة مسيّسة. لكن ردود الفعل الغاضبة لم تمنع الفيلم من أن يصبح العنوان الأبرز فى الصحافة العالمية، حيث رأت فيه الكثير من المنصات تجسيدًا لفكرة أن السينما تستطيع أن تكون سلاحًا للذاكرة والمقاومة. من فينيسيا إلى الأوسكار لم يتوقف صدى الفيلم عند حدود إيطاليا، إذ أعلن القائمون على الفيلم عرضه الثانى مساء اليوم 7 سبتمبر بمهرجان تورونتو.. ومنه سيشارك فى الفترة المقبلة بعدد من المهرجانات منها لندن وسان سباستيان.. بينما أعلنت دولة تونس ترشيحه رسميا لتمثيلها بجوائز الأوسكار. هذه المسيرة العالمية للفيلم تجعله ليس فقط شهادة على مأساة إنسانية، بل أيضًا حدثًا فنيًا يعيد وضع المأساه الفلسطينية على الخريطة السينمائية العالمية. رسالة أكبر من السينما (صوت هند رجب) لم يكن مجرد عمل وثائقى، بل صار منصة لإعادة التفكير فى دور السينما اليوم. فى عالم يتسارع فيه النسيان أمام وابل الأخبار والصور، ويأتى الفيلم ليذكّر بأن هناك وجوهًا وأصواتًا وقصصًا يجب أن تبقى حيّة. ومن خلال هذا العمل، أثبتت «كوثر بن هنية» أن السينما العربية قادرة على أن تنافس وتؤثر وتفرض أجندتها الإنسانية فى أكبر المحافل الدولية. ومع كل عرض جديد للفيلم، يظل صوت «هند» يدوّى، شاهدًا على أن البراءة المغدورة يمكن أن تهزم صمت العالم، وأن الفن حين يلتقى بالقضية يصبح أقوى من كل الحدود. 2