فى 24 من شارع اللاسلكى بالمعادى، حيث تغرد العصافير بأصوات شاعرية خافتة، تقع مؤسسة «يلا كفالة»، التى تبنى جسرًا بين أطفال فاقدين للأهل وآباء يفتقدون نعمة الأبناء. التقينا برشا مكى، مُؤسسة هذا الصرح الإنسانى، لتروى لنا قصتها مع الكفالة. رحلة بدأت منذ ثلاثين عامًا لم تكن رحلة بسيطة، بل بدأت منذ 30 عامًا، محملة بمشاعر حب عميقة نحو الأطفال. بمجرد أن أنهت رشا مكى دراستها الجامعية فى كلية السياحة والفنادق عام 1990، كانت تراودها أفكار حول البيئة الرعائية للأطفال فى مصر، حيث لم تكن هناك مناهج تربوية أو بيئة رعائية قائمة على أسس أكاديمية آنذاك. وبعد 3 أعوام، أى فى عام 1993، سافرت رشا إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية بعد زواجها وأقامت هناك، حيث اكتشفت عالمًا كاملًا لرعاية الأطفال يضم دورات ومناهج ومهنة متكاملة تتعلق بتربيتهم. وبدأت فى الحصول على الدورات المتعلقة بالتربية والتعامل مع الأطفال لتفيدها عند الإنجاب، لكنها وجدت نفسها منجذبة بشدة إلى هذا المجال، فكلما أنهت دورة التحقت بأخرى، وصولًا إلى رغبتها فى الحصول على شهادة جامعية فيه. وبالفعل، افتتحت دار حضانة فى الولاياتالمتحدةالأمريكية عام 1996. ورغم قلة الإمكانيات المادية فى البداية، بدأت خطواتها البسيطة تنمو يومًا بعد يوم، حتى شاع اسمها بين الجاليات العربية، وتوافد الأهالى بأطفالهم إلى الحضانة. فى تلك الأثناء نجحت رشا فى تطبيق الثقافة المصرية والعربية على الأطفال الملتحقين بالحضانة، سواء فى الطعام العربى أو اللغة. واستمرت بالعمل حتى عام 2004، عندما وقع الانفصال، مما جعلها فى حركة دائمة بين مصر وأمريكا. ولذلك أوقفت العمل بدار الحضانة مؤقتًا، وبدأت فى صقل مهاراتها عبر التدريبات، ثم نقل خبرتها التربوية إلى آخرين من خلال تدريب المدربين القائمين على التعامل مع الأطفال. خلال الفترة من 2004 حتى 2012، عملت رشا فى العديد من المؤسسات والمشاريع المختلفة. وفى عام 2014، تزوجت للمرة الثانية، وكانت تبلغ من العمر 40 عامًا، حيث فقدت حينها كل فرص الإنجاب. عندها، لمعت فى ذهنها فكرة الكفالة، إذ اعتادت والدتها منذ صغرها أن تجعلها تساهم فى كفالة طفل بتخصيص جزء من مصروفها شهريًا. ومن هنا، قررت كفالة طفل يتيم، وبدأت رحلة الكفالة، لكنها اصطدمت بغياب نظام واضح للكفالة، مما جعلها تستمر فى المحاولات لمدة عام كامل وسط روتين المؤسسات غير المنظم، حتى تمكنت أخيرًا من تجاوز التحديات وبدأت رحلة اختيار طفل للكفالة. العثور على مصطفى.. بداية الرحلة تقول رشا: «بعد أن انتهيت من الإجراءات عام 2014 وحصلت على جواب المشاهدة، الذى يُجيز لى رؤية الأطفال واختيار أحدهم، كنت أتواصل مع دور الأيتام بحثًا عن فتاة. فى ذلك الوقت، كنت أحصل من طبيبى على أدوية تساعدنى على الرضاعة، لرغبتى فى إرضاع طفلى. رأيت العديد من الأطفال، لكن لم يلمس أىٌّ منهم قلبى، حتى وردتنى مكالمة هاتفية فى أحد الأيام تبلغنى بأن هناك ولدًا وبنتًا سيصلان إلى الدار غدًا. وبالفعل، ذهبت باكرًا للحصول على الفتاة، وكان «مصطفى» فى السرير بجوارها، مستغرقًا فى نومه، ويبلغ من العمر 4 أيام. طلبت منهم تغيير اسم الفتاة التى اخترتها بالفعل، لأننى تعلقت بمصطفى منذ اللحظة الأولى. ظللت أذهب إلى الدار يوميًا من الصباح حتى المساء لمدة شهر ونصف، كنت خلالها أرعى مصطفى. ولكن ما حدث كان أكبر من ذلك، إذ تعلقت بكل الأطفال، ورغبت حينها لو أن لدىّ القدرة على حمايتهم جميعًا». نشر مفهوم الكفالة «بعد عودتى إلى بيتى بابنى، كنت مهتمة بأن يعلم كل من حولى أن طفلى هو طفل كفالة، وأن هذا الأمر يسعدنى. بدأ كل من يرغب فى كفالة طفل يتواصل معى، خاصة النساء اللواتى تجاوزن سن الإنجاب ويرغبن فى الكفالة، وبدأ الناس يعرفون أكثر عن الكفالة من خلالى». نشرت منشورًا عن كفالتى لطفلى، شجعت فيه الأمهات على كفالة الأطفال، وانتشر المنشور بشكل واسع على مواقع التواصل الاجتماعى. كانت تلك هى نقطة انطلاقة «يلا كفالة»، حيث تم تسليط الضوء على مفهوم الكفالة، ومنذ تلك اللحظة بدأت حالة من الحِراك تجاه الكفالة فى الشارع المصرى، سواء من المؤسسات أو الأهالى أو الأفراد. حتى إن السيدة نيفين القباج صرحت خلال تلك الفترة بأن الوزارة تلقت ما يقرب من 1500 استمارة طلب كفالة يتيم، وهى المرة الأولى التى نصل فيها إلى هذا العدد. حيث كانت هناك ضجة كبيرة حول الكفالة حينها، وبعدها تم عرض مسلسل ليه لأ، الذى تناول قضية كفالة الأطفال». محاولات مستمرة لاجتماع الأم بابنها لم تسرِ الأمور بتلك السلاسة، بل واجهتنى العديد من المشكلات فى الأعوام التالية. فبعد أن استطعت كفالة ابنى «مصطفى»، وذهبت به إلى أمريكا حيث افتتحت دار الحضانة الثانية هناك فى إبريل 2015 لأؤهله تحت ناظرى، لم تجرِ الأمور كما خططت لها، إذ لم يتم قبول أوراق كفالة الطفل، واستمرت الإجراءات لمدة أربع سنوات، كنت خلالها أحاول إدخاله إلى البلاد بشكل رسمى. يرجع السبب إلى الترجمة الخاطئة لأوراق الطفل المكفول، حيث تمت الإشارة إلى الأسرة التى كفلته على أنها «أسرة بديلة أو مؤقتة لحين ظهور الأسرة الحقيقية». وكنت أكتب منشورات على مواقع التواصل الاجتماعى بشكل مستمر أحكى فيها معضلتى، إلى أن حدث أمر فج فى إحدى المرات، فرويت ما حدث لى، مما أحدث حالة كبيرة من الحراك على مواقع التواصل. حينها، تواصل معى شخص من السفارة، وأخبرنى أنه سيتدخل لحل مشكلتى، وبالفعل تمكنت من إنهاء الإجراءات بالكامل، وأدخلت الطفل إلى البلاد بشكل رسمى، بعد أن حصلت على ورقة من الوزارة تفيد بأن: «نحن بلد إسلامى لا نستعمل كلمة تبنٍّ، ولكن نستعمل كلمة كفالة، وهى تعنى أن الكافل مسؤول مسؤولية كاملة عن الطفل». هنا تبدأ «يلا كفالة» وما إن انتهيت من تلك المعضلة، حتى بدأت فى مد يد المساعدة لعدد من الأسر التى ترغب فى كفالة أطفال خارج البلاد. ولكن، نظرًا لأن مصر لا تملك برنامجًا للتبنى، كانت الإجراءات معقدة وطويلة، مما دفعنى إلى اتخاذ قرار بفتح مؤسسة خاصة بالكفالة فى أمريكا، بهدف إنشاء برنامج لمصر من خلال المؤسسة، وذلك لمساعدة المصريين المقيمين فى أمريكا والراغبين فى الكفالة، لتيسير الأمور عليهم. وبالفعل، كنت أسير بالتوازى فى إنهاء أوراق مصطفى وأوراق المؤسسة، واستمرت رحلة التأسيس عامين، حتى بدأت مؤسسة «يلا كفالة» فى أمريكا عام 2020، بعدها عدت إلى مصر فى يناير 2020، لأتواصل مع وزارة التضامن، لكننى اكتشفت أن علىّ تأسيس فرع للمؤسسة فى مصر لكى أتمكن من التعامل مع الوزارة. وفى يونيو 2021، حصلنا على تصريح «يلا كفالة» فى مصر. إلغاء تصاريح كفالة الأطفال بالخارج لكن ما حدث لاحقًا هو أن اللجنة العليا لأسر الكفالة، المسؤولة عن الموافقة أو الرفض على أى طلب كفالة، أغلقت باب الكفالة بالخارج أمام الكافلين فيما يتعلق باصطحاب أطفالهم المكفولين إلى الخارج. جاء ذلك بسبب تخوفها من سفر الأطفال للخارج وعدم قدرتها على الإشراف عليهم هناك. ونتيجة لذلك، أصبح غير مسموح للكافل أن يسافر بالطفل المكفول خارج البلاد، مما أدى إلى سد الطرق أمام الكثير من الأهالى. إضافة إلى ذلك الطفل المكفول فقد العديد من المميزات، إذ إن أغلب الأطفال الذين يتم تبنيهم فى مصر يكونون تحت عمر ثلاث سنوات، بينما كانت الكفالة بالخارج تتيح الفرصة لكفالة الأطفال الأكبر سنًا. علاوة على ذلك، فإن المقيمين بالخارج يتمتعون بانفتاح أكبر على كفالة عدد أكبر من الأطفال، حيث يمكن للأسرة الواحدة تبنّى اثنين أو ثلاثة أطفال. لكن بعد هذا القرار، ضاعت الكثير من الفرص على هؤلاء الأطفال. لذلك، اقترحتُ على الوزارة وضع بروتوكول تعاون للإشراف على تلك الأسر فى الخارج ومتابعة تحركاتها. وأسعى جديًا فى هذا الأمر، لأن استمرار الجهد حتمًا سيؤدى إلى حل كل الإشكالات. جهود «يلا كفالة» فى تدريب وتأهيل الأسر ورغم كل التحديات، فقد قامت مؤسسة «يلا كفالة» بمجهود كبير فى تدريب وتوعية المقبلين على الكفالة. وبعد بذل جهد كبير، نجحنا فى فرض تدريب إلزامى لتأهيل أسر الكفالة، حيث أصبح من الضرورى اجتياز هذا التدريب قبل الموافقة على الكفالة. تلتزم مؤسسة «يلا كفالة» بتقديم هذا التدريب للأسر الراغبة فى الكفالة، وكذلك للجان المحلية، فى إطار بروتوكول تعاون مع وزارة التضامن فى 11 محافظة. وأصبح هناك انفتاح كبير بين أسر الكفالة، كما حدث تطور ملحوظ فى تقبّلهم لمفهوم الكفالة. بيوت صغيرة لأولاد الشمس لكن هنا ظهرت مشكلة أخرى، إذ كنت أعتقد أن جميع الأطفال سيخرجون للكفالة، ولكن بعد عامين من العمل على هذه القضية، اكتشفت أن هناك أطفالًا لا يتم كفالتهم لأسباب متعددة، مثل كونهم معلومى النسب. عندها، جاءتنى فكرة «البيوت الصغيرة»، وهى بيوت تحاكى تكوين الأسرة. قبل عامين ونصف، بدأ الحوار المجتمعى حول البيوت الصغيرة، حيث أُجريت العديد من المناقشات والحوارات، التى انتهت بكتابة طلب وإرساله إلى الوزارة فى محاولة لوضع تصور واضح لمفهوم البيت الصغير. قيل لنا آنذاك إن هناك بيوتًا صغيرة قائمة بالفعل، حيث كانت هناك تصاريح لإقامتها، ولكن لم تكن هناك معايير محددة لها. لذا قمنا بجولة فى المحافظات لزيارة تلك البيوت القائمة، بهدف وضع معايير ثابتة لها، لكننا فوجئنا بأنها تحمل فقط مُسمى «بيوت صغيرة»، بينما هى فى الواقع مجرد دور أيتام. معايير محددة للبيوت الصغيرة وأخيرًا، نجحنا فى وضع معايير واضحة للبيوت الصغيرة، وهى أن يتكون كل بيت من ستة أطفال، إما فتيان أو فتيات. وفى حالة وجود الجنسين فى المكان نفسه، يجب تخصيص غرفة للفتيات وأخرى للفتيان، بحيث يكون فى كل غرفة ثلاثة أطفال من الجنس نفسه. كما يجب أن يكون هناك ثلاث أمهات فى البيت، وفى حال كان الأطفال أكبر من ثلاث سنوات، يمكن أن يضم البيت اثنتين من الأمهات. ويُفضَّل أن يكون القائمون على الرعاية أبًا وأمًا، ولكن حتى هذه اللحظة لم نجد زوجين يوافقان على هذا الدور. تُصرف مرتبات القائمين على الرعاية من قِبل «يلا كفالة»، كما تتولى المؤسسة مسؤولية البيت بالكامل. الميزة الأهم فى هذه البيوت الصغيرة هى أنها توفر للأطفال منزلًا دائمًا وليس مؤقتًا، إذ تكون الأمهات مُقيمات مع الأطفال بشكل مستمر، مع وجود أيام إجازة للراغبات فى العودة إلى منازلهن. كما يجب أن تكون الأمهات القائمات على الرعاية قد أنهين تعليمهن الجامعى، ولديهن خبرة فى التعامل مع الأطفال. لذلك بدأت «يلا كفالة» بالفعل فى تقديم دورات تأهيلية للأمهات لتطوير مهاراتهن. رحلة مليئة بالتجارب والدروس خلال رحلتى، تعلمت الكثير، وكأن كل ما مررت به من تجارب تعليمية مع الأطفال طوال هذه السنوات كان يصب فى مشروعى الإنسانى لكفالة الأطفال فى النهاية. أتمنى أن يأتى شخص يساعدنى فى إنقاذ هؤلاء الأطفال قبل أن يكبروا، لأنهم قادرون على النسيان الآن، ولكن بعد عامين، سيكون الأمر أكثر صعوبة. تجدر الإشارة إلى أنه فى عام 2024، تغيرت قوانين الكفالة، وأصبح بإمكان أى فتاة تخطت الثلاثين، ولم يسبق لها الزواج، كفالة طفل. 2 4 5