أصر السعدنى على أن يصحب عبدالحليم فى رحلة كروية تشمل مدن القناة الثلاثة على أن تكون الإسماعيلية هى نقطة الانطلاق، ولكن العندليب لم يبد فى تلك الأيام أى نزعة كروية.. فقد تأخرت كثيرًا ميوله الكروية على الظهور، حتى جاء الوقت الذى تحققت فيه شهرة لم يعرفها أحد من أهل الفنون من قبل ولا من بعد، أصبحت لحليم شعبية له وحده تصحبه أينما حل وارتحل.. شعبية لم تصحب أحدًا فى دولة الفنون ولا حتى رافقته لفترات متقطعة، فقد كان وحيدًا منفردًا متميزًا فى رهبته للغناء والعطاء معًا. عندما تصبح فى وضع مثل وضع حليم لا بُد أن تكشف عن حقيقتك الكروية التى لا تخرج عن اختيارين لا ثالث لهما.. إما أهلاوى وإما زملكاوى، وبالطبع أغلبية أهل مصر من مشجعى الفانلة الحمراء، وكان العم صلاح السعدنى يؤكد لى دائمًا أن تشجيع الأهلى ليس اختيارًا، ولكنه فرض، ذلك لأن الأهلى هو تاريخ الحركة الوطنية ونادى الشعب المصرى ضد أندية الاحتلال، رغم أننى ذكرت للعم الجميل صلاح أن الاحتلال الإنجليزى ولله الحمد انتهى من على أرض مصر وكل أندية مصر للمصريين.. ولكنه يظل متمسكًا بالحركة الوطنية ومصطفى كامل وسعد زغلول وعمر بك لطفى.. ولم يكن العم صلاح يشجع الأهلى ليكتسب جماهيرية أو ليحقق شعبية زائفة، فهو ولله الحمد فنان حقق تاريخًا مشرفًا وناصعًا فى دولة الفنون، ولكن هناك من أهل الفن من حسبوها بالورقة والقلم؛ خصوصًا العندليب الأسمر الذى تصدى لحل مشاكل بدت عسيرة للقلعة الحمراء. مثلاً نشرت الصحف أن هيديكوتى أحد أعظم مدربى الأهلى فى تاريخه عندما جاء إلى القاهرة تولى حليم توفير مسكن شديد الفخامة للمدرب الكبير، وتولى بعض أصحاب القلم مهمة إفشاء الميول الكروية للعندليب والجميع أكد أنه أهلاوى صميم ومشجع متعصب ومريد من مريدى الفانلة الحمراء ذات مرة فى نهائى كأس مصر وكانت المباراة تجمع بين فريقى النادى الأهلى والاتحاد السكندرى ووعد حليم الفريق الفائز بليلة من الليالى الملاح.. على اعتبار أن الفوز من نصيب الأهلى دومًا ومن نصيب الآخرين «نادرًا»، ولكن الذى حدث هو ال «نادر»، فقد فاز الاتحاد السكندرى وتصور كل مشجعى الأهلى أن حليم سوف يلحس الوعد.. ولكن الذى حدث أن حليم أوفى بوعده شأنه شأن الكبار دائمًا... فقد أصبح أمام أعين الجميع أحد المشجعين البارزين والمفيدين للنادى الأهلى.. ولكنه فى حقيقة الحال كان زملكاويًا تخفى وراء الستار الأحمر.. فقد كان هناك رجل أهلاوى.. مريض بحب وعشق النادى الأهلى وهو يرتدى ملابسه كان قلبه يهفهف كلما رأى قميصًا أحمر ولو كان بيده كان فَصّل بنطلونه بذات اللون وصبغ حذاءه بنفس الورنيش، ولكن لأنه تعذر وجود كل شىء أحمر فقد ارتضى فى شبابه بالقميص. وعندما هجر قريته وجاء ليستكمل دراسته فى القاهرة وأصبح محاميًا شهيرًا وسكن وسط البلد وتعرف على صالح سليم وكل أعمدة الفريق الذهبى لكثرة ما سافر مع الفريق مشجعًا ليس له مثيل.. فقد كان سعيد سيدهم المحامى صاحب صوت لا تكاد تسمعه، فهو أقرب إلى الهمس وصاحب نكتة لا تنتزع الضحكات، ولكنها ترسم البهجة والبسمة على الشفاه، وكانت له قفشات يطلقها بصوت خفيض فيتلقفها من هم حوله من أصحاب الحناجر الحديدية فيطلقونها فتنسب لهم.. وهو لأنه اسم على مسمى يصبح سعيدًا برد الفعل. سعيد تَعرف على صالح سليم منذ الخمسينيات من القرن الماضى.. وكان يقصد المدرج الأيسر الخاص بالأعضاء كلما ذهب ليشجع الأهلى.. وذات يوم ضبط سعيد سيدهم مشجعًا من نوع خاص يشبه سعيد سيدهم تمامًا.. فهو مشجع لا يرتفع صوته عندما يتأثر بأحداث المباراة ولا يهتف عندما يتحمس ولا يسب عندما تضيع فرصة ذهبية من أحد أفراد الهجوم وانفعالاته كلها يحبسها داخله.. وانجذب سعيد سيدهم لهذا المشجع النادر الحدوث فاقترب منه، وكلما شاهده فى مباراة الزمالك والأهلى حرص على الجلوس إلى جانبه، ولكن ما أدخل السرور على سعيد سيدهم أن هذا المشجع نفسه ظهر بعد ذلك فى التليفزيون ليحيى أعياد ثورة 23 يوليو باسم عبدالحليم حافظ، وعندما تحققت الشهرة أصبح ظهوره فى الملاعب نادرًا وذات مرة.. وفى إحدى مباريات الأهلى والزمالك وفى نفس المكان الهادئ فى الجانب الأيسر وقعت عينا سعيد سيدهم على العندليب الأسمر، ولأول مرة تشتت ذهن سعيد سيدهم بين الملعب والمدرج معًا، فهو يشاهد المباراة ويراقب رد فعل العندليب الأسمر وأحرز الأهلى هدفًا فحدث لسعيد سيدهم انشكاح حقيقى فوقف وعلى طريقة كبير الرحيمية قبلى ظل «على الوضع».. «سجفوا».. حتى التهبت كفاه، ثم نظر إلى العندليب فوجده يضع رأسه بين يديه ونظرات الأسى تتسلل من بين عينى حليم.. وتصور سعيد أن حليم ربما من شدة الفرح أو من شدة الغيظ استراح لأن الأهلى أضاع أكثر من فرصة سهلة للتهديف فتصور أن لسان حال العندليب يقول: أووف.. أخيرًا.. ثم عاد سعيد سيدهم إلى المباراة حتى عزز الأهلى فوزه بهدف ثان، هنا اشتعلت المدرجات بالصفافير والتصفيق، وكان سعيد سيدهم مشاركًا فى الأفراح والليالى الملاح، ولكن على طريقته الهادئة البسيطة المتوازنة ويلمح سعيد العندليب يحرك رأسه ذات اليمين وذات اليسار والأسى يكسو ملامح الوجه البرىء، وبعد قليل أحرز الأهلى ثالث الأهداف، ثم يحقق الزمالك المنى من هجمة مرتدة يحرز أول أهدافه فى اللقاء، فيقف حليم وهو يضع يديه فى جيوب بنطلونه، ثم يرفع قامته إلى السماء وكأنه يرسل دعوة من دعواته لعلها ساعة استجابة، وهنا يظن سعيد سيدهم أن حليم داخله القلق.. فربما أحرز الزمالك هدفين وخرج متعادلاً.. ويقترب سعيد من حليم ويقول له: مافيش داعى للقلق.. الفرق جونين وفاضل تلت ساعة مش ممكن طبعًا النتيجة تتغير.. الأهلى كده ضمن الفوز إن شاء الله.. اطمن! ويقول حليم: فعلا فاضل 20 دقيقة بس! يرد سعيد: آه.. اطمن باقولك ومع كل هجمة زملكاوية ينتفض حليم بالتصوير البطىء.. وبجانبه سعيد سيدهم يقول: ح تعدى.. ح تعدى.. بإذن الله بره.. الحمد لله.. ثم ينظر لحليم وهو يضحك .. مش قولت لك.. وعندما أطلق الحكم صافرة النهاية.. نظر سعيد سيدهم إلى حليم لكى يهنيه.. فإذا به قد اختفى.. وكأن الأرض انشقت وابتلعت هذا المشجع الأهلاوى الحقيقى أو هكذا ظن سعيد سيدهم، وبالطبع كان ظنه من النوع الإثم، فقد تبين أن العندليب زملكاوى أصيل عشق الزمالك منذ الصغر وتربى على حب الفانلة البيضاء وتعلق بكل نجوم العصر الذهبى للزمالك، ولكن عندما تعلقت كل جماهير الفن فى أنحاء العالم العربى بعبدالحليم حافظ كان عليه أن يبدو فى الثوب الأحمر حتى لا يثير غضب عشاق الفانلة الحمراء وهم ملء عالمنا العربى ومصر، ولذلك ستجد حليم تحت الأضواء أهلاوى شديد التعصب للفانلة الحمراء وأن روحه تستمد البهاء من روحها وأن مشاغله الكروية كلها تتعلق بهذه الفانلة وتلك القلعة. أما إذا اختلى العندليب وأصبح وحيدًا فكانت الفانلة البيضاء هى شاغله الأوحد وكان الجيل الذهبى للزمالك هم الأقرب إلى قلبه، حمادة إمام وعمر النور.. وحنفى بسطان وعصام بهيج ويكن حسين ونبيل نصير وطه بصرى ومحمود أبورجيلة، وبالطبع حسن شحاتة والخواجة وحتى جيل فاروق جعفر وكل عمالقة الأجيال الذهبية.. وهو الأمر نفسه الذى سوف يتكرر مع الزمن عندما تنتقل «بعض» من هالة عبدالحليم حافظ إلى نجم نجوم عصره عادل إمام ويستعيد عادل حكاية حليم مع الزمالك والأهلى بنفس السيناريو، ذلك لأنك عندما تتحول إلى ممثل لأمة بأسرها، فإنك لا بُد أن تنسى ميولك الخاصة وملذاتك وهمك الشخصى وتذوب فى المجموع وتحمل هموم الوطن وترفع راياته وتعلن الولاء للفريق المفترى.. المفترى فى إمكانياته وفى أدواته وفى تاريخه وفى جماهيره التى ليس لها نظير فى المعمورة، وبالطبع هذا ذكاء يحسب للعندليب ولا يحسب ضده على الإطلاق، وهو ذاته الذكاء الذى قاد الموهبة لكى تتربع على عرش لم يعرف الغناء ولا الفن له مثيلاً من قبل ولا من بعد.. إنه العرش الذى صنعه حليم وجعله عصيا على غيره.. فقد نسف كل الطرقات المؤدية إليه وأبيدت كل الأسباب التى يمكن أن تأخذك فى اتجاه هذا العرش. لقد رسم حليم الطريق الصعب وسلكه وحده وكرّس كل أصحاب المواهب التى ظهرت من أجل توصيله هو وحده ولا أحد سواه إلى ذلك المكان المهيب فى دولة الطرب والغناء وبلغ به إلى عروش حقيقية، وأصبح مقصدًا للملوك وللأمراء العرب، بل تحول إلى الصديق الصدوق لهم جميعًا.. الكل يخطب وده.. والكل فى حضرته يمارس فضيلة الصمت والاستماع إلى أعذب حنجرة أنجبتها هذه الأمة فى تاريخها بأكمله. 1 2