أخيرا تمرد شباب الأقباط ضد سلاطين الكاتدرائية من المطارنة والأساقفة وأتباعهم من القساوسة والرهبان وعلي رأسهم قداسة البابا شنودة.. وانطلقوا متجاوزين الحوائط الخرسانية التي بناها البابا لإغلاق أبواب الكاتدرائية في وجه خطر هجوم أشاوس «الإخوان المسلمين» - المتخيل أو الافتراضي - فيما يشبه موقعة «الجمل والخيول والبغال» في إطار خطتهم لقتل الأقباط ونسف الكنائس شاهرين سيوفهم يهدرون بهتاف: «وا إسلاماه».. وهي الخطة التي اكتشف أبعادها وفك شفرتها وأشاعها بين جموع المصلين في المئات من كنائس مصر والمحافظات سكرتير البابا «الأنبا يؤانس» حفظه الله. انطلق شباب الأقباط إلي ميدان التحرير مع إخوانهم المسلمين متشابكي الأيدي ومتوحدي المشاعر والأفئدة لإسقاط نظام جائر، والدعوة إلي فجر يوم جديد يرفع شعار الحرية والكرامة والعدل، ويرسي دعائم الديمقراطية والمساواة، والعدالة الاجتماعية وحقوق المواطنة غير مبالين بغضبة البابا الذي دعاهم إلي قداسات صلاة لحفظ مصر من المظاهرات «التخريبية» التي تقوم بها قلة مندسة من الأشرار الضالين المحرومين من دخول ملكوت السماوات مع الأبرار والقديسين.. كما يدعو في الصلاة إلي أن يحفظ رئيسنا المحبوب، ويبارك خطواته الفاسدة، ويزيد ملياراته المتكاثرة هو وأولاده وزوجته ونسلهم من بعدهم وحتي انقضاء الدهر. -- تلاحم الشباب القبطي مع المسلم، وأقيمت القداسات يومي الأحد والجمعة علي أرض ميدان التحرير التي سجد عليها المسلمون خمس مرات في اليوم - يحميهم المسيحيون بسياج من ألأيدي المتشابكة.. وبقلوب تخفق بالحب والتآخي ووحدة المصير.. كما وجه الشيخ القرضاوي في خطبته العظيمة الدعوة إلي المسيحيين للسجود مع إخوانهم المسلمين في صلاة الجمعة لأن كل المؤمنين بالله يسجدون له سبحانه وتعالي.. ولا يتعارض ذلك مع إيمانهم بالمسيحية.. وامتزجت الأناشيد مع الترانيم المسيحية.. والصليب مع الهلال.. في ملحمة رائعة تؤكد أواصر الوحدة الوطنية الحقيقية التي تختلف مع زيف تقبيل اللحي بعد أحداث فتنة أو مآرب نفاق مشتركة في مناسبات مفتعلة.. وهو ما دعي الكاتب الكبير «أحمد رجب» أن يقول إنه حينما شاهد فتاة مسيحية تصب الماء لشاب مسلم ليتوضأ في ميدان التحرير.. تأكد أن هذه الثورة سوف تنجح وتنتصر.. -- رفض شباب الأقباط إذن أن يكونوا «طائفة دينية» أو مجرد رعايا بمفهوم الدولة الدينية التي يحاول البابا أن يفرضها كما يفرض وصايته السياسية وتعاليمه الجامدة علي جموع الأقباط محاولا أن يختصرهم في شخصه. لقد انتبه الشباب في رفضهم إلي عمق المهانة التي سوف تلحق بهم إن هم تخلوا عن مبدأ «المواطنة» من أجل الانتصار ل «طائفية بغيضة» تلزمهم بها الكنيسة.. وتفرض عليهم عزلة إجبارية.. تمنعهم من المشاركة الإيجابية في الحياة الاجتماعية والسياسية للوطن.. تعكس ازدواجية غريبة بين استعلاء مرضي.. يترفع عن الاختلاط والامتزاج بمن يرونهم - ضيوفا عليهم.. يتناقض مع شعور متدن ب «بارانويا الاضطهاد».. يتم ذلك في نفس الوقت الذي يصدعون فيه رؤوسنا ليل نهار بمطالب المساواة وتفعيل مبدأ المواطنة عملا بمقولة يلوكونها دائما.. هي أن «هذا وطن يعيش فينا وليس وطنا نعيش فيه».. بل إني أقول دون مبالغة إن الشباب فطنوا إلي فداحة أن يتم وصمهم بالخيانة إذا ما هم انفصلوا عن ثورة الشعب التي تعني ثورة المسيحيين والمسلمين من أجل إقامة دولة مدنية تختفي فيها الشعارات الدينية. -- التشدق بأن الدين المسيحي يدعو إلي نبذ التظاهر وطاعة الحاكم حتي لو كان طاغيا.. فهو ادعاء ينافيه أن المسيح نفسه كان ثائرا عظيما.. سعي إلي نسف التقاليد والطقوس والتعاليم البالية.. وشرائع اليهود المتحجرة والتي من شأنها أن تقيم الحواجز بين الإنسان وأخيه الإنسان.. كما شن حربا شرسة علي الكتبة والفريسيين.. وكل من شابههم من ذوي السلطان في الأرض.. واستجاب الناس لهذا الثائر العظيم فتحلقوا حوله مستقبلين إياه استقبال الفاتحين عندما دخل إلي «أورشليم» راكبا علي «جحش» ملوحين له بسعف النخيل.. يهتفون له بملء حناجرهم مرحبين. أما وقد نجحت الثورة وانتصرت الشرعية الشعبية وأطاح الثوار من الشباب بالنظام ورأسه فلم يكن هناك مفر من أن تنضم الكنيسة إلي جوقة المتحولين والمتلونين وتصدر بيانها الذي تحيي فيه شباب مصر النزيه «شباب 25 يناير» الذي قاد مصر في ثورة بيضاء، وبذل في سبيل ذلك دماء غالية.. دماء شهداء الوطن الذين مجدتهم «مصر» قيادة وجيشا، بل مجدهم الشعب كله.. ويؤكد البيان : «نحن نؤمن أن تكون مصر دولة ديمقراطية مدنية تقوم علي أسس قانونية تحترم العدالة والمساواة وحقوق الإنسان وكرامته علي أساس «المواطنة» وحدها».. كما أشار البيان إلي عظمة تلاحم كل أبناء الوطن شبابا وكبارا وصغارا.. مسلمين ومسيحيين دون تفرقة أو تمييز. المفارقة بين بيان ما قبل الثورة.. وبيان ما بعد الثورة يكشف موقفا انتهازيا مخزيا.. إن الكهنة الذين يأمرون الرعية بطاعة آيات الكتاب المقدس التي تنبذ الكذب والنفاق والمداهنة والرياء هم أول من يخالفون تلك الآيات والتي يهاجم فيها المسيح المرائين هجوما حادا : «الويل لكم أيها الكتبة والفريسيون.. إنكم أشبه بالقبور المكلسة التي يبدو ظاهرها جميلا أما باطنها فممتلئ بعظام الموتي وكل نجاسة».. «تبنون قبور الأنبياء، وتزينون ضرائح الصديقين وتقولون : لو عشنا زمن آبائنا لما شاركناهم في دم الأنبياء، فأنتم تشهدون علي أنفسكم بأنكم قتلة الأنبياء.. الويل لكم يا علماء الشريعة.. تحملون الناس أحمالا باهظة وأنتم لا تمسون هذه الأحمال بأحد أصابعكم» يقول «ميخائيل نعمة» في كتابه المهم «من وحي المسيح» في مثل ذلك الأمر: -- «تري لو عاد يسوع المسيح اليوم إلي الأرض فهل سيقول في الذين يتولون تطبيق تعاليمه غير ما قاله في الكتبه والفريسيين؟!». أسقطت إذن ثورة «25 يناير» الأقنعة من فوق وجوه كثيرة.. ولعل تلك فضيلة من أهم فضائلها. [email protected]