مهما كتبت من أشعار، فإن القصيدة التي نظمها الشعب المصري - ولا يزال - هي «القصيدة»، التي تحلم بها، كل شاعرة حرة، وكل شاعر حر، بل هي القصيدة، التي يشتاق إليها، تاريخ الشعر. «قصيدة».. ليست «معلبة» بعد انتهاء تاريخ صلاحيتها.. وليست «مجمدة» من طوال مدة التخزين. قصيدة، ليست «مكبلة»، بقواعد الكهنوت الشعري.. ليست محبوسة، في القوافي المعتقة.. وفي الأوزان المستهلكة. قصيدة «موزونة» تماما «شاعرية وممتعة»، رغم الإرهاب النقدي، والأدبي. قصيدة «وطنية» «خالصة».. مكتوبة، بأصابع مصرية، نزيهة.. شريفة المقصد.. جادة النوايا.. عاشقة للعدل وللحرية.. متعففة، عن الحكم، والمناصب، وانتهازية محترفي السياسة.. لا تريد الحصول علي جوائز.. أو أمسيات تكريم.. أو شهادات تقدير.. أو أوسمة الإبداع. إنها قصيدة «حرة» مثل الذين صنعوها.. قصيدة تلقائية، كتبها الملايين من النساء، والرجال، والأطفال، والشابات، والشباب، وكل مَنْ يحمل الجنسية المصرية.. ولا يحمل انتماءات إلي أحزاب هشة، تكونت بقرار رئاسي، وليس بإرادة الناس. قصيدة متجددة كل يوم، يكتب بيت جديد من أبياتها المبدعة.. قصيدة منطلقة.. قصيدة طازجة.. شهية المذاق. قصيدة، لم يكتبها الحبر.. ولكن الدم.. قصيدة ثورية، ولكن تمتد جذورها في التربة المصرية.. وتتدفق عذبة، مثل ماء النيل، ولكنها صادمة، غاضبة، مثل أهالي الضحايا. وهي صامدة، واثقة، لا تبيع الوطن، مثل المواهب الحقيقية، المشبعة بالتمرد، والوفاء. قصيدة ديمقراطية، عادلة فكل مَنْ يريد المشاركة، ولو بسطر واحد، ترحب به، وتفسح له المكان.. وتؤمن له الميدان. أمامي علي الشاشة، مجموعات من الناس، خلعوا زي التهاون، وثوب الخوف، ويقولون أشياء.. يقترحون حوارات.. ينادون بالمطالب.. يحللون الثورة الشعبية في الشوارع، وينظرون للثورة، وهم في حجرات مغلقة.. مكيفة بالدفء والطعام، وزجاجات الماء المعدنية.. الوجوه تحولت فجأة بعد ثورة 25 يناير، من الملامح الانتهازية.. الراكبة فوق كل موجة لها قوتها، وشعبيتها، إلي الملامح الوطنية، خالصة النوايا.. ولا يشوبها، أي رغبة في حكم، أو منصب، أو خطف محطة من قطار الثورة. الآن، الجميع الملوثون، بعدم عمل أي حساب، إلا للحزب الحاكم، يقولون: «نحن مع الشباب الطاهر.. الشريف.. غير الملون. أعتقد، وكما عبرت قصيدة الثورة أن كل هذا «باطل».. ولا يعنيها.. ولا يمثلها. إنني حقا في حالة استغراب يصل إلي حد الاستفزاز. قصيدة الثورة - التي لن ينهيها، إلا مَنْ كتبها - مكتوبة.. معلقة علي كل جدار.. ومرسومة علي الوجوه، باللغة العربية، وليست باللغة اللاتينية، أو اللغة الهيروغليفية مثلا وبالتالي، فإنها مقروءة بوضوح.. مفهومة دون وساطة، من أحد.. ودون وصايا من أحد.. ولا تحتاج إلي ترجمة فورية من أحد. وبناء عليه، يحق لي، التساؤل، مَنْ هؤلاء الذين يقفزون الآن، علي حصاد ثورة الشباب؟! مَنْ الذي منحهم، حق التفاوض وحق التحاور.. وحق ترشيح شخصيات بعينها.. و حق التوجه إلي صناع الثورة، بمطالب، ووصايا؟! أراهم علي الشاشة، مجتمعين، في غرفة فخمة، ويخططون كيف يجهضون ثورة مصر، التي ستغير معالم المنطقة، كلها وملامح الشرق الأوسط كله. بالطبع، وبالعقلية القديمة التي ترفضها الثورة، لا يستطيعون التصريح، بأنها محاولات لإجهاض الثورة.. أو محاولات لإعطاء الفرصة للتغيير المطلوب، من قبل ناس، وأحزاب، وتيارات، لا ثقة فيها.. ولا شرعية لها.. وتاريخها من إمساك العصا من المنتصف، أو ركوب الموجة.. أو مهادنة جماعة سياسية قائمة علي أساس ديني.. أو التعتيم علي أنصار التغيير الجذري.. أو تشويه سمعتهم بأنهم يتلقون أجندات خارجية.. وتمويلات عابرة للحدود. المشهد في غاية الهزل. شخصيات عُنيت، وتم اقتراحها «وهي الوجوه القديمة نفسها» تجلس، وتتكلم، وتبتسم، وتطرح أجندتها الخاصة بها.. وعلي الناحية الأخري، مطالب الثورة،. وصمودها، وغضبها، تعتبر كل هذا، «باطلا».. ولكن لا أحد يسمع.. لا أحد يستجيب.. لا أحد يتعظ.. لا أحد يقرأ قصيدة الثورة.. لا أحد يريد أن يصدق. هل حقا، ما تنقله الجرائد، أن النائب العام، قد منع بعض الوزراء السابقين، من السفر، وأمر بتجميد أرصدتهم في البنوك، حتي انتهاء التحقيقات في البلاغات المقدمة ضدهم؟! أم أنه خبر للتهدئة؟ وإذا كان الخبر صحيحا فلماذا يحاكم النائب العام، بعض الوزراء السابقين، دونا عن باقي الوزراء، الذين شاركوا في ارتكاب جرائم مختلفة، ضد الشعب المصري.. طوال ثلاثين عاما، وقدمت بلاغات كثيرة، ضدهم؟! ولا يمكن أن تبدأ الثورة الشعبية، في خلق نظام جديد، إلا بعد المحاكمة العادلة العلنية، لكل من تسبب في قتل الناس، ماديا ومعنويا، وجسديا.. وخطف أعمارهم، وحياتهم، وفلوسهم، وأحلامهم البسيطة. «اسكب الماء الملوث، قبل أن تملأ الإناء بالماء النظيف».. هذا مثل معروف وينطبق تماما، علي ما يحدث ب«مصر»، الآن. إن الثورة الشعبية التي قامت في 25 يناير، لن تسمح، بوجود قطرة واحدة ملوثة، وهي تملأ «مصر» بالماء النظيف. كذلك، لن تنفع مع هذه الثورة «النقية»، الألعاب «الدنيئة»، التي هي جوهر السياسة، ومحور العمل السياسي.. مكمن الفساد، في كل حركة طامحة للاستيلاء علي كراسي الحكم. إنها ثورة منزهة، عن عفن لعبة السياسة تلك اللعبة، التي تحركها المصالح للحكم والسيطرة، وإن تلونت بألف لون، في كل عهد.. ولا تعرف شيئا، اسمه «المبادئ».. صراع «انتهازي» لسرقة جهد وشجاعة الآخرين. صراع بين «لصوص»، تخصصوا في سرقة ثورات الشعوب تمهيدا لتحقيق أغراضهم الشخصية ومصالحهم في الهيمنة السياسية. الذي صنع الثورة يوم 25 يناير، ولم يخف من البوليس، الذي كان في ذروة تحفزه، وسطوته، وبطشه، الذي وصل إلي حد الضرب، والاعتقال، والترويع، والقتل، هو الذي يصنع دستور العهد الجديد.. هو الذي يعدل من المواد الدستورية.. هو الذي تؤخد بمشورته، وترشيحاته، ومطالبه.. وليس الفقيه القانوني الذي كان ممجدا في العهد السابق.. وليس السياسي المحنك الذي وقف يسبح بحمد الحزب الحاكم.. وليس الحزبي الذي احتلت صورته ومقالاته الإعلام المقروء في العهد السابق.. وليس خبراء البورصة.. أو رجال البيزنس.. أو أصحاب رأس المال، الذين يختزلون الثورة، في بضعة أرقام مهما ارتفعت، فهي أرخص بكثير، مقارنة بمعدل إفاقة بلد، وثورة الملايين.. وبطولة «مصر». وكما أنني أستبعد التليفزيون المصري، من النزاهة، والشجاعة، وتصوير الحقائق بصدق.. فإنني أيضا، غير راضية، عما يحدث في القنوات الفضائية المختلفة، التي شاهدتها قنوات، تقول «تغطي الأحداث».. وهي هكذا فعلا، تغطي الأحداث، بالحقد علي شعب مصر الذي فاجأ الجميع، بشجاعته، وإصراره علي الحرية والعدالة.. و«تغطي الأحداث»، باستضافة تيارات محددة تكفل لها، ساعات طويلة من الكلام، وتيارات أخري، لا تستضيفها، أو لا تمنحها إلا لحظات تقاطعها فيها، أكثر من أن تترك لها فرصة التعبير الكامل، بحجة أن الوقت انتهي.. أو بحجة أن المذيعة، أو المذيع التالي، قد حان وقت ظهوره. وأنا أقول لهذه الفضائيات، إذا كان وقتها لا يسمح، بنقل حقائق «ثورة شعبية» لأكبر بلد عربي، فلماذا لا تتخصصون في نقل حفلات الغناء، والرقص، والعري، وتقديم برامج تجميل النساء، والإعلان عن «ثورة» الكريمات في «تغطية» أحداث التقدم في العمر؟! الثورة الشعبية، لا تريد «تغطية» الأحداث، بل تريد «تعرية» الأحداث، من الانحيازات التي تختارها الفضائيات، ومن وصايا الضيوف المكررين، الذين، يختارونهم، من الحجرات المغلقة الآمنة، وليس من الشوارع، والخيام، والطرق الجانبية التي افترشها صناع الثورة، في ظل مناخ غير آمن.. شديد البرودة.. شديد الاحتراف في البلطجة.. شديد الرغبة، في هزيمة الشعب الذي رفع رأسه بكرامة، شديد الرغبة، في انتكاسة «قيامة» مصر الثورة. مهما حدث.. لن ترجع مصر كما كانت.. مهما حدث، هناك شعب جديد، ولد عملاقا ولن يرضي القبوع في جحور الاستسلام، والخنوع.
من بستان قصائدي بعد طول المخاض أفادت التحاليل والأشعات أن الحَمْل غير كاذب والولادة بعد ساعات وفي 25 يناير يوم الثلاثاء ولدت مصر الملايين من الرجال والنساء لكن البعض مازال يعيش في عصر ما قبل الميلاد وفي الزمن اليتيم مسجونا في أوهام شخصية محبوسا في أجندة الحزب العقيم.