فى أكتوبر الماضى، وقف نائب الرئيس الأمريكى مايك بنس، يُلقى خطابًا فى احتفالات الصين الشعبية بالذكرى 69 لتأسيس الجمهورية، وكعادة مسئولى إدارة دونالد ترامب، تحدث «بنس» بلهجة متعالية قائلًا، إن بلاده هى التى أعادت بناء الصين خلال السنوات ال25 الماضية. الصينيون تلقوا الخطاب الذى ترجمته سفارة الولاياتالمتحدة لدى بكين من الإنجليزية إلى الصينية، ونشرته فى حسابها الرسمى على «ويتشات» (موقع تواصل اجتماعى صينى)، بغضب شديد، منتقدين زعمه بأنه من بنى بلدهم هى واشنطن، وليس نضال الشعب الصينى، الذى أعاد بناء نفسه مرارًا، ولم يعتمد على قوى خارجية. وتساءل الصينيون بسخرية، على مواقع التواصل الاجتماعى: «إذا كانت الولاياتالمتحدة استطاعت إعادة بناء الصين فى وقت قصير، فليس صعبا عليها فعل الأمر ذاته فى العراق وأفغانستان وسوريا»، فى إشارة إلى تسبب الولاياتالمتحدة فى دمار تلك البلدان الثلاث. ولم يسلم «بنس» من سخرية الأمريكيين أنفسهم، إذ ردوا على تصريحه بأن «الصين تريد رئيسا أمريكيا آخر»، قائلين: «ونحن أيضا!». الثلاثاء الماضى، وبعد مرور أكثر من 5 أشهر على خطاب «بنس»، قرر «التنين الصينى» الرد على هذه التصريحات التى تأتى كحلقة من حلقات «حرب تكسير العظام التجارية» التى تنتهجها إدارة «ترامب» ضد بكين، بمشهد يتجاوز كثيرا مرحلة السخرية والتهكم، هو عقد «القمة الدافئة» فى العاصمة الفرنسية باريس، والتى جمعت بين الرئيس الصينى شى جين بينغ، وقيادات الاتحاد الأوروبي: المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، ورئيس المفوضية الأوروبية جان كلود جونكر، والرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون. مشهد بدت فيه واشنطن معزولة وغائبة عن قمة يحضرها أثنان من أقرب حلفائها فى التحالف الغربى، فى الوقت الذى لا تزال تعانى فيه من عزلة مماثلة عن بقية أعضاء مجلس الأمن الدولى، بسبب قرار الرئيس الأمريكى دونالد ترامب بالاعتراف ب«سيادة إسرائيل» على هضبة الجولان السورية المحتلة. ووسط هذه العزلة، جاءت أول جولة خارجية للرئيس الصينى شى جين بينغ فى عام 2019، وحققت نتائج مثمرة، من حيث رفع علاقات الصين مع كل من إيطالياوفرنسا إلى مستوى جديد، وضخ قوة دافعة جديدة فى علاقات الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين الصين وأوروبا. فخلال الأسبوع المنصرم، حضر الرئيس الصينى أكثر من 40 حدثا خلال زياراته إلى 5 مدن أوروبية، هي: روما وباليرمو وموناكو ونيس وباريس، فى جولة موسعة تركزت بالأساس على تعميق علاقات شراكة التعاون، وتحسين الحوكمة العالمية، ودعم التعددية، كما ألقى خطابا فى «منتدى الحوكمة العالمية» الذى انعقد فى باريس، قدم فيه توصيفًا دقيقًا لحال النظام العالمى فى عصر الاضطراب الذى نعيشه حاليا، وعرض وجهة نظر بلاده فى كيفية الخروج منه، بدلا من استمرار الانزلاق أكثر فى ممارسات «الحرب الباردة»، بشكل أظهر إحساس الصين بمسئوليتها كدولة كبرى. وعلى الرغم من المخاوف الأوروبية، التى تمثلت فى تصريح الرئيس الفرنسى ماكرون، الخميس الذى سبق «قمة الثلاثاء» مع الرئيس الصينى،بأنه «ينبغى التنبه والدفاع عن السيادة الأوروبية أمام بكين»، وكشفت عن حذر فرنسى أوروبى من طموحات الصين الاقتصادية، وانتقادهم لإيطاليا حيال انضمامها إلى مبادرة «طريق الحرير»، استثمرت بكين- التى تعمل مع دول وسط أوروبا فى إطار (مجموعة 16 + 1)- فى العديد من المنشآت الإستراتيجية فى أوروبا على غرار ميناء «بيرايوس» اليونانى،وأكبر شركات تزويد الكهرباء فى البرتغال، ووقعت مع إيطاليا مؤخرا اتفاقات تتضمن استثمارات صينية فى مرفأى «جنوى» و«ترييستى». وتمكن «التنين الصينى» فى الزيارة الأخيرة، من صياغة علاقات شراكة استراتيجية شاملة أكثر صلابة واستقرارا وحيوية مع فرنسا، بل إن الحذر والتخوف الأوروبى من «الهيمنة والتبعية الاقتصادية لبكين»- الذى سبق الزيارة- تحول إلى ترحيب، بعد محادثات الرئيس الصينى التى أكد فيها أن بلاده ستواصل دعم عملية الإصلاح والانفتاح الشاملة، ودعم تحرير وتسهيل التجارة والاستثمار، حتى «يستطيع الأصدقاء الأوروبيون تقاسم فرص تنمية الصين بشكل أفضل». وأعرب القادة الأوروبيون، عن سعادتهم برؤية تنمية أكبر فى الصين، ورحبوا باستعداد الصين لتقاسم فرص التنمية بها، وأعلنوا أن الشركات الصينية محل ترحيب للاستثمار فى الدول الأوروبية، وتعهدوا بعدم تبنى تدابير تقييدية ضد شركات محددة، وتوفير بيئة أعمال عادلة ومفتوحة وشفافة لجميع الشركات الأجنبية، فى دليل قاطع على نجاح جولة الرئيس الصينى الأوروبية. ومن المتوقع إذن أن تغير بكين وجه العالم على جميع الأصعدة، من الحوكمة العالمية إلى القواعد التجارية، مرورا باحترام البيئة وعمليات الاستثمار، عن طريق توظيفها استثمارات كثيفة فى جميع أنحاء العالم، فى سياق مشروعها «طرق الحرير الجديدة»، والذى أعلنته فى خريف العام 2013، من أجل تصدير منتجاتها والبيع مباشرة فى أوروبا وفى جميع أنحاء العالم، لتحتل بذلك المكانة التجارية التى كانت تحتلها المملكة المتحدة، وبعدها الولاياتالمتحدة، منذ الثورة الصناعية. رعب ترامب وتفوق «العملاق الآسيوى» كان من الطبيعى أن تثير كل هذه النتائج المتوقعة «رعب» الولاياتالمتحدة، والتى لم تخفِ قلقها من تنامى النفوذ الصينى، ونموها الاقتصادى الكبير، ومشروعها «طريق الحرير». وترى واشنطن ما تطلق عليه «التهديد الصينى» على أكثر من جبهة، لذا فإن «حربها الباردة» ضد بكين تجرى أيضا على أكثر من جبهة. فبحسب الدكتور إبراهيم نوار، مستشار الشئون السياسية بالأمم المتحدة، من أهم المؤشرات التى تنظر إليها الولاياتالمتحدة على أنها مصادر للتهديد: امتلاك الصين أقوى قوة عسكرية برية فى العالم بثانى أكبر ميزانية عسكرية، بجانب امتلاكها ثالث أكبر قوة جوية فى العالم، وتطويرها لطائرات متقدمة بتكنولوجيا محلية، لأغراض الدفاع المحلى والتصدير، فضلًا عن تطوير سلاحها البحرى بسرعة فائقة، ونجاحها فى إنتاج حاملة طائرات محلية، وصعودها إلى الفضاء بإرسال سفينة إلى سطح القمر مصنوعة بتكنولوجيا محلية. وأضاف إن الصين بدأت تسعى لإقامة قواعد عسكرية فى الخارج (جيبوتى)، كما تتوسع فى الحصول على تسهيلات فى الكثير من الموانئ، وامتلكت شركاتها حصصا فى 13 ميناء فى أوروبا، وأنشأت العديد من الجزر الصناعية فى بحر الصين الجنوبى للتحكم فى حركة الملاحة، بالاضافة إلى تبنيها استراتيجية اقتصادية توسعية، لربط الصين بالعالم من خلال مبادرة «الحزام والطريق». وتملك الصين نفوذا متزايدا فى سوق المنتجات التكنولوجية المتقدمة بمجالات الاتصالات، وتكنولوجيا المعلومات، والطاقة الشمسية، والسيارات وأجهزة الذكاء الاصطناعى،وغيرها، وهى قادرة على المنافسة، لدرجة أنها تحولت فعلا إلى «مصنع العالم» فى فترة قصيرة زمنيا، وتستخدم فوائضها المالية من أجل إقراض الدول التى تستهدفها، ثم تقتنصها عندما تقع فى «مصيدة الديون»، كما وصفتها الولاياتالمتحدة. وفى مواجهة هذه التهديدات، يشن «ترامب» حربا شرسة على الصين، فى مجالات التجارة (رفع الرسوم الجمركية)، والتكنولوجيا (حظر نشاط الشركات الصينية مثل هواوي)، العلوم (تقليل عدد الطلاب الصينيين فى الجامعات الأمريكية بحجة أنهم جواسيس)، إضافة إلى استخدام جميع مقومات القوة الناعمة، وتحريض حلفاء الولاياتالمتحدة ضد الصين فى هذه المجالات وغيرها. وفوق كل ذلك، يحاول «ترامب» استعارة الأداة التى ابتكرها الرئيس الامريكى السابق رونالد ريجان ودمر بها الاتحاد السوفيتى ألا وهى سباق التسلح. وأضاف د.نوار: «لكن الولاياتالمتحدة ستواجه مقاومة شديدة من الاتحاد الأوروبى، فيما يتعلق بالتحريض ضد الصين وروسيا وإيران، وقد شهدنا حتى الآن خلال الزيارة التى يقوم بها الرئيس الصينى إلى أوروبا، حفاوة الاستقبال الأوروبى له، والصفقات التى عقدها فى روماوباريس، وامتداد مبادرة الحزام والطريق من آسيا وأفريقيا إلى أوروبا رسميًا». ولا تحاول الولاياتالمتحدة احتواء الصين، وإنما تتعمد استفزازها وإشعال العداء معها، ما أدى إلى خلق حالة من عدم الثقة بين الجانبين، وسيؤدى إلى دعم اتجاه الصين لتطوير تكنولوجياتها المتقدمة المستقلة بسرعة، لمواجهة حرب التكنولوجيا، وإلى تعزيز قوة الطلب المحلى لتوسيع سوق منتجاتها محليا، اعتمادا على طبقة وسطى ضخمة وواعدة، فضلًا عن تطوير قوتها العسكرية بسرعة لتصبح القوة العسكرية الأولى فى العالم. وبذلك تسقط كل الخيارات الأمريكية الحالية ل«الحرب الباردة» ضدها.