يمثل مؤتمر باليرمو الذى تم مؤخرًا بين الفرقاء الليبيين فى جنوبإيطاليا منعطفًا مهمًا فى مسار تسوية الأزمة الليبية، ليس لما أسفر عنه من قرارات، بل لما كشف عنه من توافقات جديدة محلية ودولية بشأن هذا الملف، خاصة بعدما أوضح تراجع تأثير بعض القوى الدولية التى ظلت فاعلة فيه منذ البداية. فما الذى حمله هذا المؤتمر من متغيرات؟، ولماذا يجب الاهتمام به أكثر من اللقاءات السابقة بين الفرقاء الليبيين؟، وما أسباب الغضب التركى المبالغ فيه كما ظهر فى تصريحات فؤاد أقطاى نائب الرئيس عقب استبعاده من بعض جولات المحادثات؟، وأخيرًا ما أهم التطورات التى ستسفر عنها هذه الجولة وما تأثيرها على إمكانات التسوية فى ليبيا؟ باليرمو.. كيف أجهضت محاولات خلق مسار موازٍ للتسوية؟ منذ اللحظة التى أعلن فيها الرئيس المصرى عبدالفتاح السيسى وقائد الجيش الليبى المشير خليفة حفتر عزمهما الحضور إليه، أصبح لمؤتمر باليرمو أهمية كبرى فى مسار التسوية الليبية، فى ظل ما مثّله حضورهما من ضربة موجعة للمحاولات التركية المستمرة لخلق مسار تسوية بديل للأزمة أسوة بما تحقق فى نظيرتها السورية. ونظرًا لأن تركيا حاولت طيلة الأعوام الماضية تعويم حلفائها الرئيسيين فى تنظيمات الإسلام السياسى المسيطرة على بعض مدن الغرب الليبى للحصول على مكاسب سياسية على أمواج الخلافات الفرنسية الإيطالية بشأن التصور النهائى للتسوية فى ليبيا. ونظرًا لأنها عولت أكثر مما يجب على وجود قضايا خلافية عالقة بين مصر وإيطاليا مثل حادثة مقتل ريجينى، ولم تضع فى اعتبارها حقيقة تغير توجهات الحكومة الإيطالية الحالية بقيادة رئيس الوزراء جوزيبى كونتى عن سابقتها، فإنها فوجئت ببعض الحضور إلى المؤتمر، كما فوجئت باستبعادها من بعض فعالياته. ومثل ذلك مفاجأة حقيقية لفؤاد أقطاى أو «أوكتاى» نائب الرئيس التركى، لذا خرج فى تصريحات غاضبة الثلاثاء الماضى يؤكد فيها أنه لا يمكن إقصاء تركيا من المباحثات، ومتوعدًا جميع الأطراف المشاركة من تدهور فى الأوضاع على الأرض لمجرد استبعاده، بقوله: «سيؤدى أى لقاء تم إقصاء تركيا عنه إلى نتائج عكسية ولن يسهم فى حل المشكلة». ومع حقيقة أن بلاده ليست من بين القوى العظمى الفاعلة فى الملف الليبى مثل إيطاليا وفرنسا، وإن اعتقدت نفسها كذلك، كما أنها ليست دولة جوار معنية مثلما هو الحال بالنسبة لمصر وتونس والجزائر يمكن تفهم الصدمة التركية مما حدث لكونه يشكل إجهاضًا لخطتها الهادفة إلى خلق مسارات موازية للتسوية الليبية برعاية إيطالية من أجل ضمان حصة من المكاسب فى الغرب الليبى تماثل ما حصلت مؤخرًا فى الشمال السورى. ولإثبات فاعلية الدولة التركية فى الملف الليبى ومن أجل فرض الأمر الواقع دوليًا - عبر التنظيمات الإسلامية المسلحة العاملة بالوكالة لخدمة أنقرة وتوجهات رئيسها رجب طيب أردوغان - لم يكن مستغربًا أن يصدر الأتراك فور استبعادهم من «باليرمو» أمرهم لصلاح بادى أحد مؤسسى كتائب «فجر ليبيا» الإخوانية بالتحرك الفورى للاستيلاء على مطار طرابلس، وهو ما حدث بالفعل الأربعاء الماضى. وينذر التحرك الأخير لإخوان ليبيا المدعومين بغضب تركى هذه المرة بمزيد من التصعيد فى عدة مناطق من أجل إجهاض أى محاولة للتسوية تهدف لتوحيد مؤسسات الدولة الليبية مع الوصول لانتخابات برلمانية، بما يغير من قواعد لعبة (ميليشيات - مفاوضات - مكاسب) التى يجيدها أردوغان وإخوانه. وبهذا انضم التصعيد الأخير وما سيتلوه فى الفترة المقبلة إلى التوجه العام من ميليشيات الإسلام السياسى لعرقلة مخرجات اتفاق الصخيرات ولقاءات باريس والقاهرة وباليرمو، الهادفة جميعها إلى التوصل لتسوية فى ليبيا عبر مسار سياسى واضح بدلا من فرض الأمر بقوة السلاح على الأرض. الحاضرون والمستبعدون من الملف الليبى بعيدًا عن الغضب التركى، كشفت لقاءات باليرمو عن تراجع دور بريطانيا – المنشغلة بالخروج من الاتحاد الأوروبى - والتى ظلت حتى وقت قريب إحدى أكثر القوى الدولية انخراطًا فى الشأن الليبى. وصب هذا التراجع فى صالح الفاعلين الدوليين الآخرين، كما أتاح المجال لإشراك قوى أخرى بديلة فى مسار التسوية. كما كشف المؤتمر أيضًا عن تقلص الدور القطرى، ما يؤشر لتراجع نفوذ الدوحة التى ظلت حتى وقت قريب حاضرة بقوة فى جميع المباحثات الدولية حتى لو كان ذلك بالوكالة عن طريق عملائها المسيطرين على المناصب القيادية فى تنظيمات الإسلام السياسى المهيمنة بالقوة على طرابلس ومصراتة. ومع تراجع قوة الثلاثى أنقرة ولندن والدوحة، سمح مؤتمر باليرمو بمساحة جديدة من التوافقات الإقليمية والمحلية تبدى أهمها فى انضمام روسيا، ممثلة فى رئيسها السابق ورئيس وزرائها الحالى ديميترى ميدفيدف إلى محادثات التسوية السياسية فى ليبيا بشكل فاعل لأول مرة. ويمكن القول إن التواجد الروسى، المدعوم بنجاحات عظمى فى الملف السورى، يضيف ثقلاً جديدًا فى مسار التوافق على طرح آليات موضوعية للحل السياسى فى ليبيا. كما أن التفاهم الإيطالى الفرنسى شكل دفعًا حقيقًا نحو التوجه لتسوية سياسية فى هذا الملف تقوم على توحيد المؤسسة العسكرية الليبية والذهاب خلال عدة أشهر إلى انتخابات برلمانية واستحقاقات دستورية تنهى بانعقادها هيمنة الميليشيات المسلحة طيلة السنوات الماضية على مقدرات الدولة. وإلى جوار هذا التوافق الثلاثى الدولى المتكون حديثًا بين إيطاليا وفرنسا وروسيا، أظهرت لقاءات باليرمو أيضًا وجود توافق ثلاثى إقليمى بين دول الجوار الأكثر انخراطًا فى الملف الليبى وهى مصر وتونس والجزائر على دعم هذا المسار السياسى للحل الذى يمكن اعتباره مكملاً لا بديلاً لاتفاق الصخيرات المدعوم من الأممالمتحدة. وتبدت تفاهمات دول الجوار فى حضور الرئيسين المصرى والتونسى وتصريحات رئيس الوزراء الجزائرى أحمد أويحيى الإيجابية حول فاعليات مؤتمر باليرمو ونتائجه، بالإضافة إلى تأييده للمسار الحالى من أجل الحل. 3 ملاحظات توضح مستقبل الملف بعد باليرمو رغم صعوبة التكهن الدقيق بما يمكن أن تسفر عنه الأحداث فى ملف شديد التعقيد مثل الملف الليبى، نظرًا لتعدد القوى المتداخلة فيه محليًا وإقليميًا ودوليًا، إلا أن مؤتمر باليرمو وما أسفر عنه من نتائج كشف عن 3 ملاحظات مهمة يمكن على إثرها استشراف المستقبل الليبى ورسم صورة أمة عن توجهاته. الملاحظة الأولى تكمن فى تزايد احتمالات التصعيد بين الفرقاء الليبيين وبالتحديد بين تنظيمات الإسلام السياسى وميليشياتها المسلحة وبين الجيش الليبى بقيادة المشير خليفة حفتر، انتقامًا من محاولات إعادتها إلى حجمها الطبيعى بعد استبعاد راعيها التركى من مؤتمر باليرمو. أما الملاحظة الثانية فتدور حول تزايد دور المبعوث الأممى إلى ليبيا غسان سلامة فى المرحلة المقبلة، فى ظل ما يحوزه من رضا دولى واسع ظهر فى حرص جميع الأطراف الليبية والإقليمية والدولية الحاضرة إلى مؤتمر باليرمو على الإشادة به بشكل خاص. ويؤشر حضور غسان سلامة مؤخرًا إلى منتدى شباب العالم الذى انعقد مطلع الشهر الجارى فى شرم الشيخ إلى طبيعة علاقته الجيدة مع النظام المصرى أحد أقوى الفاعلين فى الملف الليبى حاليًا. كما تشير تصريحات المسئولين فى الخارجية الروسية وإشادات الرئيس التونسى الباجى قائد السبسى، ورئيس الوزراء الجزائرى أحمد أويحيى إلى أننا بصدد التعامل مع مبعوث أممى يختلف عن سابقيه الخمسة من حيث قدرته على منح زخم حقيقى لتوجه التسوية فى هذا الملف. أما الملاحظة الثالثة والأخيرة التى كشف عنها الحضور الموسع فى مؤتمر باليرمو فتتعلق بوجود مناخ دولى عام يسعى إلى التهدئة فى عموم المنطقة بعد 8 سنوات كاملة من الاضطراب. لذلك فإن الملف الليبى يمكن أن يكون أحد الملفات الموضوعة على طاولة التهدئة الدولية خلال الأشهر القليلة المقبلة. ويبشر ذلك بتطورات إيجابية أخرى فى الملف اليمنى فى ظل تشابك ملفات المنطقة خاصة بعد بدء الدفع به فى هذا الاتجاه مؤخرًا.