مع كل استحقاق انتخابى أو حدث سياسى أو رياضى مهم، يلجأ عدد كبير من المصريين تعبيرًا عن مشاعرهم للرقص الجماعى، سواء فى الميادين أو عند لجان الاقتراع، وهو أمر ليس جديدًا على الثقافة المصرية، غير أن كتائب من الناقدين انهالت فى توجيه اللوم والشتائم للنساء اللائى رقصن أمام اللجان فى الانتخابات الرئاسية الحالية ووصل الأمر حد الطعن فى أعراضهن واتهامهن بالعهر والفسق. أصابت الطلقة التى أرادت السيدات المصريات توجيهها للمعترضين على النظام بل والعملية السياسية برمتها من عناصر جماعة الإخوان الإرهابية هدفها بدقة، فقد استشاطت عناصر تلك الجماعة غضبًا من مشاركة المصريين رغم كل المجهود المبذول لإحباطهم، ولم يكن توجيه الشتائم والذم للنساء الراقصات إلا تعبيرًا عن حالة من الإحباط فى الناحية الأخرى التى لم تعد تفهم ما يريده المواطنون بدقة. اللافت أن الذين هاجموا المشاركات فى الانتخابات وأنكروا عليهن تعبيرهن عن مشاعرهن بالرقص باعتباره نوعًا من المخالفة الدينية، هم أنفسهم الذين رقصوا رجالًا ونساءً احتفالًا بفوز مرشحهم «الإسلامي» محمد مرسى ولم ينكر عليهم أحد ما فعلوه. بغض النظر عن الأبعاد السياسية فى القضية تظل المشكلة الأساسية فى الأمر هى الرغبة فى الهيمنة على تصرفات النساء وتوجيههن فيما يجب أن يفعلن وما لا يجب عليهن فعله، علاوة على أن اعتبار الرقص نوعًا من الفجر هو جهل بأنه من أهم مظاهر الحضارة المصرية، حيث كان يتم استخدامه فى الاحتفال والعبادة. شكّل الرقص جانبًا جوهريًا فى طقوس الأعياد والمناسبات على امتداد التاريخ المصرى، وقد لفت عشق المصريين للرقص أنظار باحثين مثل «ويل ديورانت»، كاتب «قصة الحضارة»، عندما قال إن المصريين القدماء كانوا يتقربون من آلهتهم بالغناء والرقص فى حين كان اليونانيون يلجأون إلى البكاء والتضرع. كان ديورانت يظهر للعالم أنّ المصريين هم أقدم من عرفوا توافق وانسجام الأصوات وهو ما يُطلق عليه تعدد الأصوات أو الهارمونى، كما أظهر الرقص الإيقاعى على بعض الجداريات صورة لامرأة تنحنى إلى الخلف حتى وصلتْ يداها إلى الأرض، بينما راقصة أخرى تفعل نفس الحركة فوقها وثالثة تمد ذراعيها فوقهما. فى الرسومات المنحوتة على جدران بعض المقابر نجد رسومًا تمثل نساء يلعبن بالكرات وراقصات تقف الواحدة منهن على ساق واحدة أو تقفز عاليًا فى الهواء أو تمتطى واحدة منهن ظهر زميلتها وهو ما يسمى فى العصر الحديث ب «الأكروبات». الدكتور وسيم السيسى الباحث فى علم المصريات، تحدث عما يمثله الرقص فى الحضارة المصرية القديمة وكيف كان يستخدم ويزدهر فى عصور مختلفة، قائلًا: «إن مصر دائمًا وفى مختلف العصور القديمة وهى تبدع فى أنواع الرقص المختلفة من الرقص الشرقى وحتى رقصة الباليه، موضحًا كيف أبهرت الرسومات الدالة على ثقافة الرقص فى الحضارة المصرية أحد العلماء الغرب واكتشف أن لكل صورة موجودة على الجدريات معنى مختلفًا فقرر أن يحول ما يزيد على 300 رسمة من صورة إلى عمل سينمائى أسماها رقصة الباليه». ويضيف السيسي: حتى الآلات الموسيقية فى الحضارة المصرية كانت تؤكد على إبداع المصريين فى الفنون واهتمامهم الزائد بالرقص والموسيقى، وبالتالى علمت مصر الحضارات المختلفة ثقافة الفن، فلا يوجد بلد بلا رقص أو غناء حتى السعودية عرُفت برقص الجمال ولبنان برقصة الدبكة وغيرهما من الدول. ويرجع الدكتور وسيم النقد الذى تعرضت له السيدات المصريات فى محاولتهن للتعبير عن السعادة خلال المشاركة فى الانتخابات إلى تراجع ثقافة الشعب بتاريخ حضارته، فضلًا عن الحقد المتوغل فى نفوس البعض والذكورية المهيمنة على تصرفاتهم، لافتًا إلى أن التعبير السياسى باستخدام الرقص موجود فى كل العصور وليس جديدًا على المصريين، فهو شعب ينفق كل ما يملك من أجل الاستمتاع بالحياة والفكاهة، وبالتالى قرروا أن يرسلوا رسائل استفزازية لكل من انتقد رقصهم فى الأحداث السابقة بالرقص مرة أخرى «رجالًا ونساءً». لا يمكن تجاهل حقيقة أن «الرقص»، وهو نوع من الفن متأصل فى معظم المجتمعات، وله مكانة مقدسة فى التراث الثقافى، يستطرد السيسى، فيمنح الراقص أكبر قدر من «حرية الحركة»، ويساهم فى تحقيق قوة الأداء، والتعبير الفنى بمنتهى الأناقة والجمال. اتفق الدكتور رأفت النبراوى عميد كلية الآثار الأسبق، مع الدكتور وسيم فى أن كون الرقص مكون أصيل فى الثقافة المصرية، غير أنه يقول أن ثقافة الرقص تختلف من زمن لآخر، وأنه يتم توظيفها وفقًا للعصر، لكن هذا لا ينفى أنه من الفنون التى تميزت بها مصر من قديم الأزل، فضلًا عن أن العصر الفاطمى شهد ازدهارًا كبيرًا للراقصات، فكن رمزًا للمرح والترفيه وكانت لهن مكانة كبيرة حتى بدأ يتم رسمهن على الخزف والخشب بإبداع، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل كان الحاكم يخصص مبالغ مالية للإنفاق على المغنين والراقصات. واعتبر النبراوى سيل الانتقادات الذى وُجه للراقصات أمام اللجان نابعًا من التطرف ونتيجة نظرة غير واقعية للمجتمع والتركيز مع المرأة بشكل خاص وجهل بدورها منذ العصر الفرعوني. إحدى الدراسات التاريخية الصادرة عن مركز الأقصر للدراسات والحوار والتنمية قالت، إن قدماء المصريين عرفوا الاستعراضات الراقصة وأقاموا مدارس لتعليم فنون الرقص قبل آلاف السنين، ففى أبيدوس والأقصر وإدفو تحتوى المعابد والمعالم الأثرية لملوك مصر القديمة على عشرات الشواهد التاريخية التى تؤكد أن المصريين القدماء عرفوا الاستعراضات الراقصة و أنشأوا مدارس لتعليم الرقص تابعة للمعابد، وكان يوظف دراميًا وهو أمر سبقت به مصر دول العالم فى هذا المجال. وتوضح عالمة الآثار منى فتحى، صاحبة الدراسة أن مصر عرفت عبر تاريخها كثيرًا من الفنون واللعبات الراقصة ومن أهم هذه الألعاب هى لعبة أو رقصة العصا أو التحطيب، هذه اللعبة الراقصة مستمدة من الأصول الفرعونية القديمة، وقد صور الفراعنة هذه اللعبة على جدران معابدهم وكانوا يهتمون بتعليمها للجنود ويختلف نسبيًا شكل وخطوات اللعب الآن عن السابق. وجدت الباحثة فى الآثار انتصارًا غريبًا للرقص باعتباره كان سمة مميزة للحضارة الفرعونية، فعرفت مصر القديمة الرقص، ولم تكن ترى الرقص مفسدًا للأخلاق، بل احتل الرقص مكانة كبيرة فى حياة المصريين القدماء، ولعب دورًا مهمًا فى مجتمعهم، فكان جزءًا من الطقوس الدينية قبل أن يتطور، وأقيمت حفلات الرقص المقدس فى كثير من المناسبات والأعياد. عرفت مصر القديمة أنواعًا مختلفة من الرقص، فكان هو أحد أساليب التأمل الحركى، الذى يهدف للوصول إلى التوازن، ويقتضى الاحتفال بعبادة «أوزيريس» رقص المحتفلين حول التمثال بالعصا، أو حول العمود المقدس «جد» وهذا «التحطيب» الشائع فى ريف صعيد مصر على أنغام موسيقية. استطاعت جدران الآثار أن تصور لنا سلسلة كاملة من الرقصات ذات إيقاعات متعددة، منها الدوران البسيط على العقبين للفتيات الراقصات ذوات الحركات الرشيقة، كما أظهرت الرسومات الراقصات تخطو خطواتهن وراء الأخرى، مع تحريك أذرعهن، علاوة على الرقص الذى يغلب عليه التعبير عن فكرة ما، كما لجأن إليه عند وفاة عزيز لديهن، ابتغاء إدخال السرور على قلب المتوفي. مشيرة إلى أنه لا يمكن إغفال ما كتبه الباحث «أرينا ليكسوفا» فى كتاب «الرقص المصرى القديم» الذى أوضح ظهور ثقافة الرقص فى القصور والمعابد المرتبطة بشكل مباشر بالدين الرسمى والثقافة الشعبية، وطرق نشأة الرقص الشعبى وأهميته فى المجال الثقافى وتطوره.