لم تكن امرأة عادية بكل تأكيد، انقسمت حولها آراء المؤرخين والمتدينين، وحتى أولئك الذين ليس لديهم «إيمان» حقيقى بهذه الحقبة من التاريخ من أساسها.. هناك من اعتبروها قديسة وكذا هناك من رأوا فيها تجسيداً لكل أفكار الفجر المنفلت، أيقوناتها تتناقض ما بين العرى الفاسق أو يتوارى فيها الجسد بين السرابيل البيض التى تتشح بها الراهبات.. هى إحدى المريمات الثلاث- وفى روايات أخرى الأربع- اللاتى أحطن بالمسيح المخلص، وارتبطت ذكراهن ارتباطا لصيقا به. هى سيدة الشياطين السبعة.. رسولة الرسل.. تلميذة يسوع التى شهدت القيامة.. مريم الجدلية.. القديسة الفاجرة! بعد أكثر من ألفى عام عادت لتطل بوجهها - حرفاً لا مجازاً - عبر قرون خلت لتظهر سافرة للعالم كله، والفضل لتقنيات العلم الحديث التى أتاحت لنا فرصة تاريخية لنتعرف إلى المرأة التى «كرزت» للخطيئة بمفهومها المجرد، بيد أن المسيح أبى أن يرميها بحجر! المهمة تبنتها ال«ناشيونال جيوجرافيك» لإعادة إحياء ملامح «مريم المجدلية» ورسمها بتقنية ال«ثرى دي» وذلك بحسب بقايا الجمجمة المحفوظة متحفياً لها مما يعطى صورة واضحة ومجسمة لصاحبة الجمجمة التى جرى عزلها فى حافظة زجاجية خاصة تخلو تماماً من الهواء والرطوبة والظروف الجوية المهيئة لنمو البكتريا الدقيقة مما ساعد على حفظ هذه الجمجمة فى حالة جيدة جداً لسنوات طويلة فى متحف فرنسى باعتبارها حفرية أثرية لجمجمة «مريم المجدلية»، حتى أن بالجمجمة آثاراً دقيقة لبقايا شعر حريمى أمكن الاعتماد عليها لبناء شعر المجدلية وفقاً للمواصفات الوراثية لعينات الحفرية. لكن كيف وصلت مريم المجدلية لفرنسا أصلاً؟ وهل عاشت فيها حقاً؟ حسناً، أصل الحكاية هو اتفاق الأناجيل على نقاط بخصوص شخصية المجدلية، واختلافها حول نقاط أخري، ناهيك عن «الأبوكرينا» التى رأى بعضها فى «مريم المجدلية» رمزاً لكل أنواع الانحلال وتجسيداً للفجور والإغواء الجنسي، فيما سما بها بعض واضعيها إلى حالة من القدسية والروحانية وصلت إلى حد اعتبار «المجدلية» بحد ذاتها سراً من أسرار المسيح الذى ينسب له أنه قربها كثيراً منه حتى سأله عنها التلاميذ كيف تكون من رواة تعاليمه وتفوقهم علماً وخبرة وفهما لنصوصه، فيما ذهبت بعض الكتب إلى القطع بزواجه منها! لم تكن مريم بنت بلدة مجدل - هكذا تكتسب نسبها المجدلية - فقيرة، بل كانت من طبقة ميسورة بل يمكن القول إنها كانت امرأة ثرية جنت ثورتها من العمل بصناعة الغزل والصباغة التى اشتهرت بها مدينة «مجدل» - الصناعية بمفهوم الصناعات البدائية آنذاك، وكانت تنفق من مالها على نشر تعاليم المسيح وتدبير حياته وحياة تلاميذه بعد إيمانها به وشهادتها له، وكانت تلك عادة النسوة الثريات اللاتى آمن بيسوع، فكن يوقفن مالهن للطاعة ونشر العقيدة. يرى مؤرخون أن ثروة المجدلية كانت سبباً فى حياتها اللاهية العابثة التى لم تترك خطيئة إلا وارتكبتها، لاسيما أن هذه الكتابات التاريخية رأت فى «المجدلية» جمالاً وأنوثة عززهما الثراء والنعمة فكانت تجسيداً لإغواء الدنيا يسير على الأرض، وفى هذا يستدل البعض على أن المسيح لما استخرج من جسدها الشياطين السبعة كانت هى شياطين الرغبة وحماقة الجسد والجهل.. إلخ، وهو ما يمكن اعتباره «طريقة سردية بلاغية أخري» لوصف حالة العبث والمجون التى غرقت فيها المجدلية. يميل رجال الدين - الأرثوذوكس غالباً - إلى التمسك بظاهر النص الإنجيلى لوصف حالة المجدلية النفسية والذهنية والعقلية والتى تقطع بتلبس المرأة من قبل شياطين سبعة عتية خربت حياتها وأفسدت عليها إدراكها للأمور دون السقوط بالضرورة فى فخ الانحراف والإغواء الجنسي، وعلى هذا فالمجدلية، أو المرأة الخاطئة ليست بالضرورة «زانية» حسبما تروى التراجم المتواترة للكتاب المقدس، وفى هذا السياق أيضاً فإن سبب تقاربها مع المسيح هو اعترافها الحقيقى وخالص امتنانها لفضله فى طرد الشياطين من جسدها وتخليصها من آلامها وعذابها، حتى إنها أصرت على أن تكون من بين متقدمى الصفوف الأولى ، لتشهد بنفسها الافتداء حين جرى صلبه، وكانت أول من وصل إلى قبره قبل بزوغ الشمس، لتطيب جسده بالحنوط الذى اشترته وتنتحب موته كما يجب وكما جرت عادة اليهود مع الموتى آنذالك، فكانت بشارة الرب لها بأن كانت أول من شهد معجزة القيامة وانطلقت تبشر بها تلاميذه، واعتبرتها بعض القراءات المقدسة مكلفة برسولية للناس كلهم وليس للتلاميذ وحدهم لتبشر بمعجزة قيامة المسيح! حياة المجدلية بعد الصلب اقتصرت على العبادة ومساعدة المنضوين تحت جناح المسيح لفهم تعاليمه جنباً إلى جنب مع أمه السيدة مريم العذراء، وترجح الأسفار أنها ماتت بعد حياة قصيرة عاشتها إلى جوار سيدة المحنة فى «أفسس» لكن تزعم روايات تاريخية أنها جاهدت لنشر تعاليم يسوع ووصاياه فى كل مكان حتى سافرت بحراً من «مجدل الفلسطينية إلى بلاد الغال» - فرنسا الآن - حيث عاشت فى سلام وعزلة منقطعة للكرازة والصلاة حتى ماتت ودفنت «بفرنسا»، لكن رفاتها سرقت ونقلت من مكان لآخر، وهو ما يفسر بناء عدة كنائس لها معروفة باسمها حتى الآن! حسناً، لو صحت هذه الرواية الأخيرة عن «الهوية الفرنسية» للمجدلية» إذاً لأمكن التصديق أن تلك الجمجمة القروسطية المعثور عليها ببلدة صغيرة ريفية بالشمال الفرنسى منذ عقود تعود فعلاً «لمريم المجدلية»، خاصة أن فحوصات «ناشيونال جيوجرافيك» وجدت آثاراً صلصالية طينية على بقايا الشعر وبعض مناطق الجمجمة القريبة من جذوره والتى تعود لخلطة شرق أوسطية كانت النسوة يستعملنها آنذاك لترطيب الشعر وحفظ نظافته وقتل حشرات الرأس بحسب تحليلات المجلة العلمية ومشروعها الذى وضع فى الاعتبار التفاصيل الجينية المأخوذة عن دراسة عظام الجمجمة، وشكل محجرى العين وتركيب الفك والوجنتين، وكلها حفظت بشكل جيد جداً ومشجع علمياً للبناء عليه بواسطة الكمبيوتر الذى قدم للحق صورة مفاجئة للمجدلية الفرنسية جاءت قريبة الشبه إلى حد كبير بالسمت العام لراهبات أوروبا الكاثيوليك حتى على الرغم من الصبغ الداكن لشعر الرأس والحاجبين والرداء الكنسى الذى هيأته افتراضياً برامج النحت الكمبيوتري، فمريم بنت مجدل/ مجدلة الفلسطينية شرق الأوسطية ذات أنف رفيع طويل به عقفة وبشرة فاتحة تقترب كثيراً ملامحها التجعيدية من عمر الخمسين بحسب حالة عمر عظم الجمجمة، ولها شعر داكن خفيف وحاجبان رفيعان نسبياً وعينان غائرتان قليلاً بنيتا اللون بهما مسحة حزن وشفاه أوروبية رفيعة ووجنتان دقيقتان عاليتان فى وجه مستدير، بشكل عام تبدو صاحبة الجمجمة أقرب لنساء جنوب أوروبا، بعبارة أخرى «امرأة طيبة عادية» شجنة بها كثير من سمت الزهد - بغض النظر عن الحجاب الكنسى الافتراضى على رأسها - وهى بعيدة كل البعد عن الصهباوات البضات شاحبات البشرة مرسلات الشعر ذوات السمت الرومانى العابث اللاتى تصورهن الأيقونات الزيتية الكلاسيكية التى تكاد تلمس بيديك العاريتين عبث ومجون المرأة صاحبة الصورة يتسرب عبر ثقوب التوال. النحت العلمى - إن جاز التعبير - يبدو أنه انتصر أخيراً للمجدلية كقديسة لا كامرأة لعوب، على نحو ما الصورة تأسرك لتضبط نفسك من آن لآخر تسترق النظر إليها كأنها امرأة تعرفها، ربما قابلتها فى مكان ما... ربما ترغب فى لمس جلدها أو حتى احتواء كفيها العظيمتين جيداً بين راحتيك.. حتى إنك لربما تسأل ترى كيف يكون صوتها، كيف عساها أن تنطق اسمك الآن وبعد ألفى عام من إغوائها الأول؟ كيف تعود المجدلية - إن كانت حقاً هى - لتمارس إغواءها الثانى فوق الزمن.