فى سنى طفولتى الأولى وبعد أيام قليلة من بدء عامى الدراسى الأول، أوقفتنى (مس سلوى) من بين تلاميذ الفصل بالمدرسة الخاصة التى التحقت بها ورددت اسمى الثلاثى على قبل أن تتوقف لثانية لتسألنى بحزم (إنت مسلمة ولا مسيحية)!! للحق تلعثمت واضطربت بشدة، لم أعرف كيف أجيب إذ لم أفهم السؤال أصلا، لم أفهم ما الذى تعنيه الكلمتين (مسلمة) و(مسيحية) كما أن الأداء الدرامى للمعلمة التى لم أرها قبلا أخافنى قليلا حتى ظننت أن الكلمتين (تهمة) ينبغى نفيها فورًا قبل أن أعاقب بسببها، فلم أجد ما أقوله لمدرسة الفصل سوى (لا كدة ولا كدة)! الإجابة لم تقنع (مس سلوى) بالطبع فنبهت عليًّ أن أسأل ولى أمرى ما إذا كنت مسلمة أم مسيحية، لتبدأ فى بيتنا دراما أخري! اندهش أبى بشدة للسؤال، وسألتنى أمى منزعجة بدورها (مين سألك عن الحكاية دى)، فلما رويت لها ما حدث بالمدرسة، قال أبى بهدوء (كلنا نعرف ربنا، ولما المس تحب تعرف دين تلميذ تروح تشوف ملفه)، ثم أصر على اصطحابى للمدرسة فى اليوم التالى وملاقاة المدير مستنكرا - رحمه الله - بشدة أن يوجه سؤال كهذا لطفل فى سنوات عمره الأولى، ليس من واجبه ولا من ضرورة تربيته أن يدرك ثمة فارق بين مسلم ومسيحى! على أية حال كان هذا من زمن بعيد قبل أن يصير كل الأولاد اسمهم (إسلام) و(عبدالرحمن) وكل البنات اسمهن (آية) و(جويرية)!! لغويا الطائفية هى التعصب لطائفة أو جماعة ذات مذهب معين، وهى وضع اجتماعى وسياسى قائم على التركيب الطائفى، والمجتمع الطائفى هو المجتمع الذى تتحكم فى سياسته الطوائف، و(الطائفة) فى المعاجم العربية هى الجماعة من الناس دون الألف عددا، وقد يطلق اللفظ على (الواحد) فيصير بذاته (طائفة)! والمفارقة اللغوية كذلك أن جذر (الطائفة) من (ط، و، ف) أو (ط، ى، ف)، والطيف عند العرب هو (الجنون)! اصطلاحيا كما نرى لا يمكن اعتبار الفتنة الطائفية حالة حقيقية تسود المجتمع المصرى، إذ إن الإسلام - كديانة لا كممارسة سياسية مرفوضة - لا يشكل (جماعة حراك طائفى) فى مواجهة المسيحية، كما أن القياس المعكوس غير جائز أيضا، فالمسيحية فى مصر لم تكن يوما تيارا انفصاليا أو له طبيعة الجيتو بحيث يمثل نواة صدام طائفى. السؤال هنا إذًا قد يكون بوضوح ودون مواراة هو (متى أصبحت الفتنة الطائفية) (موضة) فى مصر ؟ الإجابة للحق تقتضى نظرة إقليمية شاملة، إذ إن (مصر) باعتبارها مركز منطقة الشرق الأوسط ومحور استقراره السياسى لا يمكن فصلها فى هذا السياق عن (اللعبة) الاستعمارية التى تمارس فى المنطقة منذ عقود، فورقة الضغط الخارجى دوما إما مذهبية أو طائفية بحسب (حالة الدولة) المراد تفكيكها، بل إن إبان فترة الاحتلال الإخوانى جرى تطبيق السيناريو بشقيه الطائفى المسيحى والمذهبى الشيعى عبر افتعال أزمات ممنهجة لا تخلو من عمليات عنف واستهداف على الهوية، بغية إشاعة الإرهاب وزعزعة الأمن وتقويض الدولة لصالح الجماعة. تيارات رصد العنف الطائفى بالخارج كثيرا ما تعوزها الحيادية والوضوح كذلك، ففى الوقت الذى يتعرض فيه مسيحيو (سوريا) و(العراق) و(لبنان) و(فلسطين) للاستهداف الطائفى والقتل على الهوية والاضطهاد وتدمير للكنائس والأديرة وأكثرها تاريخى ونهب للأيقونات والممتلكات الكنسية والشخصية، نجد أن هذه التقارير الإعلامية تشير إلى هذا الواقع اليومى المزرى بحكم تفاقم الوضع السياسى - تشير إليه - عرضا فيما تفرد تغطيات مطولة ومفصلة وقد يكون بعضها غير دقيق البيانات لحادثة عرضية فى (مصر) لمجرد أن أحد أطراف النزاع فيها (مسيحى)! ناهيك عن جرائم الاضطهاد المنظم للمسيحيين فى (الصين) وفى (ماليزيا) ذات الجماعات الإسلامية شديدة العنف والتطرف المتغلغلة فى عمق البنية السياسية للدولة. على سبيل المثال تقرير صادر عن (التربيون) مؤخرا جاء فيه أن فى المتوسط فإن حوالى 300 شخص يقتلون شهريا فى العالم لأنهم يعتنقون الديانة المسيحية، وأن أكثر من 200 دار عبادة مسيحية تستهدف أو تدمر شهريا، وأن ما يزيد عن 800 جريمة عنف دينى ترتكب شهريا بالأساس ضد المسيحيين، وقد أسمت الخارجية الأمريكية 60 دولة متهمة باضطهاد المسيحيين سيما فى الدول ذات التشدد الدينى الإسلامى والتى يعد المسيحيون فيها أقليات هامشية، إلا أن التقرير فى طياته يعترف بنقص البيانات الدقيقة حول موقف المسيحيين فى شرق آسيا بالرغم من اعترافه بحالات اضطهاد وعنف دينى واسعة هناك، كما يتجاهل التقرير كذلك البيانات والمعلومات رغم توافرها بحكم التداول الإعلامى - على الأقل - حول الموقف المؤسف من مسيحيى الشرق سيما فى (سورية) بعد العدوان، ورغم تعرض قيادات كنسية بارزة فيها للاختطاف والتعذيب، فيما يركز التقرير على ما اعتبره تقاعس المسئولين فى مصر عن التعاطى مع حالات تدمير الكنائس واستهداف المسيحيين وأكثرها - حسبما يشير التقرير نفسه- إبان فترة الاحتلال الإخواني! مجددا هل يمكن ل (يحيا الهلال مع الصليب)، ولقاءات القيادات الدينية الواجبة الفاترة أن تكون عنوانا لمشهد الوحدة الوطنية ؟ أظن أن المجتمع المصرى تجاوز هذه الكادرات منذ زمن، فالواقع الاجتماعى طاحن للجميع - مهما كان دينه - التطرف والتشدد والغلو الدينى يتفق فيه المسيحيون والمسلمون ويعانون ويلاته جميعا كل على شريعة (محمد) ودين (عيسى)، الشهيد الضابط (على الركايبى) مسلم أدى واجبه وفاضت روحه الطاهرة فى بيت الرب بالإسكندرية فى الحادث الإرهابى القذر الذى استهدف الكنيسة المرقسية فى أحد السعف. الواقع الذى نعيشه جميعا- على مرارته - هو ذاته الذى يكشف عن وجهه الوطنى الحقيقى بعيدا عن الشعارات، فنجد كبار القيادات الكنسية فى (الخارجة) يصطحبون المسلمين فى حملة (قبطى.. مسلم.. إيد واحدة) لتشجير المقابر لمواجهة هجير الطقس الصيفى، وهو ذاته الواقع حيث يتبرع (عمدة مسلم) بقطعة أرض لبناء كنيسة فى قريته ويخصص حصة من شنط (رمضان) للفقراء المسيحيين، فيما يهب مسيحى مصرى (500 م) لبناء مسجد فى القليوبية يفتتح الصلاة فيه الشيوخ والقساوسة معا. فى العاصمة الإدارية الجديدة تقرر إنشاء مسجد وكنيسة، وربما تلك كانت سابقة يُعلن فيها عن تخصيص دار عبادة مسيحية دون طلبات ومخاطبات روتينية معقدة لمؤسسات الدلة، تبرع لكليهما الرئيس السيسى لأن المسجد والكنيسة كلاهما بيت الله يذكر فيه اسمه، كما تبرع البابا (تواضروس) بجائزة صندوق وحدة الشعوب الأرثوذكسية التى حصل عليها للغرض نفسه، لم يفرق بين المئذنة والجرس، تلك هى روح المواطنة المصرية التاريخية التى تمنح (مصر) ذاتها البقاء، والتى ستعبر بها وبمواطنيها حتما عواصف التكفير وأنواء التصحير ورياح الردة الوهابية التى ما عصفت يوما بقوم إلا وشرذمتهم!