اكتشفت أن النص الذى رشحه لى الأستاذ سيد بدير هو نص للكاتب الساخر «جليل البندارى» الشهير جدا فى هذه الأيام وكان الرجل قد خصنى بالسب والشتم فى إحدى مقالاته وليس بيننا سابق معرفة.. بالطبع رفضت قراءة النص وقلت لسيد بدير لو قرأت النص ولم يعجبنى وعلم البندارى بالأمر فماذا سيصنع معى.. ولكن الأستاذ سيد بدير أصر بشكل عجيب أن أقرأ الرواية ووعدنى أننى سوف أغير رأيى.. وبالفعل قرأت الرواية فوجدت فكرتها رائعة ولكنها تحتاج لإعادة كتابة النص من أجل تجويد الحبكة الدرامية.. فقد تمت كتابة النص بشكل متسرع وغير مدروس، يعنى هى فى حاجة إلى حرفى فى الكتابة للمسرح وبشىء من الجهد قد تصبح عملا مسرحيا جيدا جدا.. وقلت هذا الرأى للأستاذ سيد بدير فقال.. إذن نجلس مع البندارى للاتفاق على كل الأمور.. فقلت.. لا لا لا أعفينى أنا مش قد جليل البندارى، فقال: لماذا لا تصارحه بوجهة نظرك ورؤيتك لإصلاح النص.. قلت له أبدا مش ح يحصل.. لقد شتمنى ولم يعرفنى.. فماذا لو حدث اختلاف فى وجهات النظر.. ما سوف يفعله هذه المرة. والحقيقة أننى لم أعرف جليل البندارى حتى هذا الوقت وما كان يربطنى به مجرد أننى قارئ لما يكتبه فى «أخبار اليوم» فكان يكتب فى الفن كتابات تتسم بالسخرية اللاذعة وكان قلمه شديد القسوة، ولكن بخفة ظل عجيبة.. وقد حدث أن قابلته مرة واحدة فى مكتب الأستاذ سيد بدير أيام كان مديرا لمسرح التليفزيون وبمجرد أن عرف شخصى شتمنى فى حضرة الأستاذ سيد ولم يكن بيننا اى سابق معرفة. المهم أن سيد بدير دبر موعدا للقاء وعندما حضر الأستاذ جليل البندارى وجدته شخصا رائعا، كان خجولا رغم لسانه السليط وقلمه اللاذع واختار الأستاذ جليل اسم المسرحية «بمبة كشر».. واستمع الأستاذ جليل لملاحظاتى دون أن يعترض وامتدت اللقاءات وتكررت لدرجة أننا سافرنا سويا إلى الإسكندرية لاستكمال التعديلات ومن خلال السفر اكتشفت رجلا طيب القلب، نقى السريرة محبا للبشر ساخطا على الأوضاع المقلوبة حالما بالتغيير.. وعندما وصلنا إلى الفندق وجدته يقول لى.. أنه سوف يبدأ من الآن الكتابة.. وتركته وذهبت إلى المسرح.. وبدأت شخصية جليل البندارى تتحول إلى كتاب مفتوح.. فقد اكتشفت أن أعتى أسلحته هى لسانه وقلمه، وأنه لشدة طيبته وخجله الشديد يحاول أن يلبس ثوب القوى من خلال كتاباته ولسانه، ولكن إذا أنس لك تكتشف أنك أمام شخصية شديدة العذوبة لا تستطيع أن تهرب من جاذبيتها ولقطاته البارعة وتعليقاته الظريفة وحكاويه التى تجبرك على الإنصات وأنت لا تشعر بالوقت على الإطلاق. وأغرب شيء أن جليل البندارى كان لا يشتم ولا يهاجم ولا يسخر إلا من اقرب الناس إليه وأحبهم إلى قلبه.. وإذا حدث واختلف مع صديقه خارج العملية الفنية فإنه لا يستخدم قلمه مطلقا فى تصفية الحسابات بل إنه يتجاهل هذا الصديق تماما وكانت أعظم مميزاته أنه لم يستخدم قلمه للمصلحة الخاصة أبدا. واكتشفت أن مثله مثل كل الساخرين «كامل الشناوى ومأمون الشناوى ومحمود السعدنى» يعشق الليل.. وكانت أحواله الصحية غير مستقرة فقد كان يعانى من أمراض القلب ولم يكن يذهب إلى الطبيب بل كان الطبيب من شدة عشقه لجليل الفنان الكاتب والإنسان يمر عليه بشكل يومى بعد الانتهاء من عيادته وفى كل مرة ينصحه بعدم السهر والانتباه لأحواله وتنظيم حياته من أجل أن يساعد على الحفاظ على عضلة القلب وبمجرد أن يخرج الطبيب كان جليل يتصل بى ويسألنى أين أنت اليوم.. فأقول هل تنوى السهر والطبيب منعك حفاظا على صحتك.. فيقول: إذا جاء الأجل هل يستطيع الطبيب أن يحيينى ساعة واحدة بعده.. فإذا رفضت مقابلته والخروج معه يقول: أمامك ربع ساعة إذا لم أجدك فسوف أخرج بمفردى ولن أكمل المسرحية وكان داخل جليل البندارى طفل صغير جميل أحيانا تجده عنيدا جدا وأحيانا متمردا وأحيانا يلبس ثوب القوة.. فإذا به فى أول مواجهة تجده انهار تماما أمامك. فى أول يوم لعرض مسرحية «بمبة كشر» والتى لعبت بطولتها إحدى أكبر نجمات عصرها وفاتنة السينما العربية نادية لطفى فى أول وآخر ظهور لها على المسرح، وبينما النجوم كلهم رهبة من اليوم الأول للعرض وطبعا نادية لطفى الرعب عندها كان مضاعفا.. فهى تقف أمام الجمهور للمرة الأولى فى حياتها.. وجدت سيارة ضخمة جدا مكتوبا عليها الإذاعة الخارجية.. واندهشت وأرسلت من يستفسر عن الأمر.. فإذا بأحد المهندسين يقول لقد اتفقنا على تسجيل المسرحية للإذاعة.. قلت للمهندس: حضرتك بتتكلم جد فقال وجد جدا كمان.. قلت له ومن الذى اتفق معك.. فأجاب.. الأستاذ جليل البندارى.. وتركت المهندس واتجهت إلى جليل وقلت له وأنا فى ثورة وعصبية لا حدود لها.. أنت اتفقت مع الإذاعة تسجل المسرحية.. فقال نعم اتفقت معاهم قلت له بأى حق!! فأجاب.. دى مسرحيتى وأنا حر فيها.. هنا انفجرت فيه.. وقلت: «هى فعلا مسرحيتك.. ولكن أيام ما كانت على الورق أما بعد أن تحولت إلى عمل مسرحى وتم الصرف عليها كل هذه الأموال وبذلنا فيها كل هذا الجهد فلم يعد لك أى حق فى التصرف بأى شكل من الأشكال». وفجأة.. وجدت الساخر الكبير وصاحب اللسان اللاذع الذى لا يجاريه أحد قد تحول إلى طفل صغير.. وأحسست أن تعبير وجهه ارتسم عليه علامات الطفل الذى أنبه أبوه وأنه على وشك البكاء.. فقلت يا جليل هناك أصول.. ليس من بينها تسجيل المسرحية فى أول يوم عرض.. ده يبقى خراب بيوت وانصرفت سيارة الإذاعة وبقى جليل منزويا من شدة الخجل. وصارحنى جليل البندارى أن أمنيته أن تقوم شويكار ببطولة المسرحية.. وبالفعل كانت تجمعها جلسات قراءة للمسرحية.. وكان جليل يقوم بقراءة النص لشويكار ويطلب منها ترديد جملة معينة فى الرواية وهى تجيبه وكانت شويكار تعيد الجملة ولكن بدلع جعل جليل البندارى يقول.. يا سلااام هى دى.. هى دى والله «بمبة كشر» وكان جليل فى قمة السعادة بأداء شويكار ولكن عندما علم أن المهندس يرفض تماما أن تعمل شويكار بدونه حاول أن يقنع المهندس بأن الدور هو دور عمرها.. ولكنه ولم يستطع أن يقنع المهندس بالأمر. أما الجملة التى كان جليل يذوب عشقا كلما طلب من شويكار أن ترددها فهى: «الحق يا شاكر.. بيقول مش فاكر» وقد لاحظت أن جليل يريد أن يسمعها فقط من شويكار ولا أحد سواها لذلك بذل مجهودا خارقا لكى يقنع المهندس ولكنه فشل. لا أدرى لماذا قفز اسم نادية إلى ذاكرتى وكانت نادية من الممثلين الذين حرصوا على التواجد فى مسارح التليفزيون للفرجة على كل ما قدمناه هناك من أعمال أيام كان الأستاذ سيد بدير مديرا للفرق المسرحية.. فكانت تحرص على مصافحة الممثلين وتشجيعهم.. فقد كانت نجمة كبيرة فى هذه الأيام وكانت تخصنى بعبارات التشجيع والثناء. حتى جاء يوم.. وكنت أسير على قدمى فوق كوبرى قصر النيل.. حتى وجدت سيارة سبور رائعة تهبط منها فتاة شقراء أكثر جمالا من السيارة وتقترب منى وهى ترتدى نظارة سوداء كبيرة تغطى وجهها، نزعتها من عينيها فوجدتها نادية لطفى. وكان الزحام شديدا على الكوبرى من السيارات ومن المارة الذين وقفوا مندهشين لوجود النجمة الكبيرة وسطهم، وسلمت عليها فوجدتها تقول: بشوف أنا من خلال المرات القليلة اللى عرفتك فيها حسيت إنك صديق قديم ويسعدنى أنك تكون صديقا بحق وحقيقى وبالمناسبة النهاردة عيد ميلادى وأتمنى أشوفك النهاردة تحتفل معانا بعيد ميلادى.. وبالفعل ذهبت إلى منزل نادية لطفى واحتفلت معها وسط أصدقاء من داخل وخارج الوسط الفنى فوجدت فيها إنسانة ترتفع بمعنى الصداقة وتقدسها وتحافظ عليها بقدر حرصها على الأشياء الثمينة ومنذ ذلك اليوم دخلت دائرة صداقات نادية لطفى. وعندما طرحت اسم نادية لطفى على جليل البندارى.. تغيرت ملامح الوجه.. وقال على الفور: ح تعرف تقول «الحق يا شاكر.. بيقول مش فاكر» زى ما شويكار بتقولها!! ضحكت من أعماق قلبى وتركت البندارى وذهبت إلى نادية لطفى وصارحتها بالأمر، فى البداية اندهشت وقالت: كيف يمكن أن أواجه جمهور المسرح وأنا كل عملى أمام الكاميرا فهى الواسطة بينى وبين الجمهور. أما أن أقف وجها لوجه هذا شيء مخيف ومحتاج تفكير عميق ودراسة يا سمير. المهم أن نادية فكرت بصوت مسموع مع أصدقائها.. وفى النهاية قالت: ليس هناك أى مانع يا سمير هى تجربة.. نخوضها.. يمكن يكون فيها خير.. وأنا باعشق الجديد وهى مغامرة أتمنى أن تنجح.. وطلبت أن تقرأ النص.. وفى اليوم الثانى اتصلت بى نادية لطفى واسمها الحقيقى كما يناديها كل اصحابها «بولا محمد سعيد». قالت: أنا موافقة يا سمير، النص هايل وفى المساء ذهبت إليها.. وكانت فى هذه الأيام تستعد لواحد من أهم الأفلام التى حققت جماهيرية غير مسبوقة «أبى فوق الشجرة» مع عبدالحليم حافظ وكان المخرج الجميل حسين كمال.. وعندما طرحت اسم حسين كمال.. قلت لها: إذن ننتظر حتى يقوم حسين كمال بإخراج المسرحية وكان العرض استعراضيا، فيه موسيقى وغناء ورقصات فى حاجة إلى إبهار وكان حسين كمال أفضل من يقدم هذا اللون.. وعرضت عليه الأمر فوافق على الفور.