«لقد صدقت أننا قادرون على صنع المعجزة» هكذا علق مارك فيش - 22 سنة - مدافع منتخب «البافانا بافانا» لوكالات الإعلام، العالمية المبهورة بفوز جنوب إفريقيا ببطولة «أمم إفريقيا 96». المعجزة التى قصدها «فيش» ليس الفوز بالبطولة فى حد ذاته، وإنما الفوز فى ظل ما تعانيه بلاده من تراكم عنصرى أعاد جنوب إفريقيا إلى عصور الظلام، فقبل هذه البطولة بعامين فقط كانت جنوب إفريقيا فى نظر العالم العنوان الأشهر والأكثر دموية للعنصرية، ولا شيء آخر، ربما لديها دورى ومنتخب كرة قدم لكنه مجهول تماما خارج حدود الدولة، حتى فازت أيقونتها الخالدة نيلسون مانديلا بحكم البلاد بأغلبية ساحقة بدت أقرب للتزكية، مانديلا بدأ حكمه بقناعة تعجيزية، فهو مقتنع أن بلاده لن تتجاوز تراكم العنصرية إلا إذا صدق الشعب أنه قادر على تحقيق معجزة المسامحة والغفران لأقلية بيضاء تفننت فى إذلال الأغلبية السوداء، هذا الشعب لن يصدق إلا إذا فعلها فريق منه يلعب دور الملهم لأسرى الانتقام. هل يمكن أن يحقق هذا الفريق المنبوذ البطولة وهو الذى كان بالأمس يمارس اللعبة على طريقة سداسيات الشوارع الخلفية، هذا بخلاف الحصار الذى تمارسه الأقلية البيضاء ضد المنتخب الذى يمثل السود قوامه وقوته الضاربة؟ لا.. مستحيل أن يفعلها فى ظل وجود منتخبات قوية منها الكاميرون ومصر ونيجيريا وكوت ديفوار، ثم كيف يمكن أن يتجاوز التصفيات المؤهلة للبطولة أولا. الاتحاد الإفريقى لكرة القدم - الكاف - تكفل بحل العقدة الأولى حين كرم مانديلا وأهدى جنوب إفريقيا حق تنظيم البطولة سنة 96 وهو ما يعطيها حق المشاركة دون تصفيات، ويتبقى فقط أن يصدق لاعبو الفريق أنهم قادرون على تحقيق المعجزة والفوز بالبطولة. قبل أيام من انطلاق البطولة كان مانديلا قد استغل كامل سحره ونجوميته وبريقه ومنصبه فى شحن لاعبيه بأنه لا بديل أمامهم إلا الفوز بالكأس، فخسارتها تعنى انتكاسة رهيبة لأغلبية لن تقوى على تحقيق معجزة الغفران ومسامحة أقلية أهانته وأذلته بجميع الوسائل وأشدها بؤسا وانحطاطا، وبالتالى سندخل دائرة انتقام يحترق فيها الجميع. انطلقت البطولة وجماهير المنتخبات المشاركة تصنف منتخب جنوب إفريقيا على أنه حصالة مجموعته، لكن كانت المفاجأة أن هذا المنتخب الآتى من المجهول بدا وكأنه أحد تجليات أمريكا اللاتينية، قارة المواهب الفذة وحرفنة الحوارى والكرة الشراب، ساحر وسط الملعب «دكتور كمالو» الذى أبهر الجميع بمراوغاته وتمريراته المتقنة، أداؤه وطريقته تشبه إلى حد كبير «أوكوشا» ساحر نيجيريا، «زوما» الهداف المخيف والمدافع الصلب «مارك فيش» الذى احترف بعد البطولة فى الدورى الإنجليزى، والمدافع الأكثر منه صلابة «لوكاس راديبى» وماسنجا، ومارك ويليامز، الفريق كله خطف الأنظار من جميع المنتخبات وأكثرها عراقة. بانتهاء دور ال 16 - المجموعات - صعدت الترشيحات بالأولاد إلى المباراة النهائية، وكثيرون راهنوا على فوزهم بالكأس، أداء الفريق كان تصاعديا مذهلا، لقد روعوا كل المنتخبات المشاركة، حتى كانت المباراة النهائية والتى جمعت الأولاد بالمنتخب التونسى، وتلاعبت جنوب إفريقيا بالمنتخب التونسى وسحقته بثلاثة أهداف مقابل واحد، ورفعوا الكأس بينما كان مانديلا منتشيا فرحا وهو بين جماهير أبيض * أسود يرتدى قميص المنتخب. لقد حقق مانديلا إنجازه الأهم وخطوته الأولى حين حول منتخب بلاده إلى ملهم للشعب الذى صدق هو الآخر أنه يستطيع تحقيق معجزة الغفران للأقلية البيضاء ومسامحتهم على ما فعلوه بعد إعادة فتح القضايا القديمة ومحاسبة الذين أجرموا منهم. مبروك الكأس ل جنوب أفريقيا.