من الذى يقف وراء الدعوات إلى ما تسمى بثورة الغلابة؟ ما الائتلافات السياسية أو القوى الثورية أو الأحزاب التى تدعم هذا الحراك؟ ما بواعث حالة الرعب التى تجتاح وسائل الإعلام من «القيامة» التى ستقوم فى مصر؟ حتى كتابة هذه السطور، قبل طباعة المجلة بساعات، لم تدعُ أى قوة سياسية إلى التظاهر، باستثناء جماعة الإرهاب، التى أطلق «مطاريدها فى تركيا وقطر» النداءات إلى «الشعب» حتى يتظاهر ضد الغلاء الذى يعتصره. لكن التعويل على أن دعوات الإخوان ستجد آذانًا صاغية، هو فى الواقع حماقة، ذلك أن الجماعة واقعيًا خسرت أرضيتها بالكامل فى مصر، والمتمعن لمظاهراتها يرى جليًا أنها تقلصت إلى مسيرات من عشرات تخرج فى الأزقة الملتوية، ومن ثم سرعان ما تتبخر. قولاً واحدًا.. لا تملك الجماعة القدرة على صناعة حشد، هذا مع ملاحظة أن التعامل الأمنى مع المظاهرات وقانون التظاهر معًا، يدفعان كل من يفكر فى الخروج إلى التردد ألف مرة، قبل أن يلقى بنفسه فى التهلكة، ما يثير السؤال مجددًا عن بواعث القلق من مظاهرات أشبه ما تكون ب«مولد وصاحبه غائب»، أو كأنها «مش موجودة فى الوجود» وفق مقولة «المواطنة الشريفة» التى كانت تتظاهر ضد باسم يوسف قبل أن يحمل عصاه ويرحل إلى الولاياتالمتحدة. أى كلام آخر هو طنطنة فارغة، والنعيق الإعلامى على الفضائيات، وصرخات التحذير من مصير سوريا والعراق وليبيا، تبدو غاية السخافة، فالظرف لا يشبه الظرف، والمقارنة تبدو مبتسرة غبية لا أساس لها على أرض الواقع. لكن.. هذا لا ينفى أن مخاوف الدولة المصرية لها ما يبررها نظريًا، إذا روجعت الصورة فى سياق أشمل وأوسع من الدعوة إلى التظاهر فى الحادى عشر من سبتمبر على التخصيص، فالوضع الاقتصادى ضاغط إلى حد كبير، وهناك درجة عالية من التململ وسط مؤشرات قاتمة إلى أن الخروج من المحنة ليس قريب المنال، وأن الصبر الذى هو «مفتاح الفرج» لن يؤتى ثمارًا على المدى القريب أو المتوسط. إذن.. هناك خوف من المصطلح بحد ذاته «ثورة الغلابة»، ذلك أنه مصطلح يقارب مخاوف حقيقية ومنطقية. عدد «الغلابة» فى تصاعد، وارتفاع سعر الدولار، يزيد الموقف التباسًا، وهناك تجريف شديد الخطورة إثر ذلك للطبقة الوسطى التى أصبحت تنسحب شيئًا فشيئًا إلى تحت. تلك حقيقة لا ينكرها مؤيد أو معارض، بل إن عبارة «ربنا يستر على البلد» أصبحت تجرى على ألسنة «عتاة المؤيدين» بوتيرة ليست أقل من جريانها على ألسنة المعارضين، ولعل الدعاء إلى السماء لا يكون كثيفًا إلى هذه الدرجة إلا فى حالات الشدة.. والمؤكد أن الانهيار الذى يعترى الجنيه يمثل شدة، وأى شدة، على الكادحين فى الأرض. على بلاطة.. نحن إزاء مشهد يوحى بأن أسباب الغضب تتضافر، ومن يقول بأن «كله تمام يا فندم» هو محض كاذب مخادع، يضلل صانعى القرار، أكثر مما يضلل نفسه، والحقيقة أن الخلافات بين الدولة والفئات المهنية المختلفة، لم تستثن فئة مؤثرة، فمن صدامات مع الأطباء إلى الصحفيين، ومن المدرسين إلى العمال والموظفين والفلاحين، والمنهج الواضح أن القوة الخشنة تُستدعى بمبرر ومن دون مبرر، بما لا يستأصل مسببات الاحتقان، بقدر ما يجعلها مثل «الصديد على اللوزتين» إذا لم يُعالج بالمضادات الحيوية القوية، فالنهاية الحتمية هى الارتفاع الحاد فى درجة الحرارة، هذا بغض النظر عن «القيامة المزيفة» التى يحذر المحذرون من تداعياتها فى المظاهرات المزعومة «بعد صدور المجلة بساعات». وبالدخول إلى تفاصيل المشهد، فإن الخلافات مع الفئات المهنية والدولة المصرية ينطلق من محورين أساسيين، أولهما: التعامل الأمنى الخشن أو بعبارة أكثر صدقًا «انتهاكات الداخلية» حتى وإن قيل إنها حالات فردية، وثانيهما: الأزمة الاقتصادية، حيث ترتفع الحناجر بمطالب فئوية، معظمها يدور حول تحسين الظروف المادية، فلا تجد إلا تجاهلاً، مع تكرار لأحاديث حول فضل الصبر و«جوعوا تصحوا»، وما إلى ذلك من شعارات لا تسكّن حركة «الأمعاء الخاوية». الصدام مع الأطباء فى حالة الأطباء، فبعد اشتعال شرارة الأزمة مع تعرض أطباء بمستشفى المطرية للضرب على يد أمناء شرطة، وما استتبع ذلك من مظاهرات حاشدة أمام مقر «دار الحكمة»، وهى المظاهرات التى وصفتها النقيبة الدكتورة منى مينا بالتاريخية، لم تحرك الدولة ساكنًا، أو لعلها تحركت على نحو لم يرض الأطباء، الأمر الذى لم يجتث جذور الأزمة، فجموع الأطباء إلا قليلًا، يشعرون بأن حقهم لم يأتِ، وبأن فئة الأمناء فوق القانون، وبوسعهم البطش بمن يريدون من دون حسيب أو رقيب. إلى جوار الاعتداء على الأطباء، يأتى ملف بدل العدوى ملفًا «شديد الالتهاب»، فرغم حكم المحكمة الإدارية العليا فى نوفمبر الماضى بأن يرتفع البدل من تسعة عشر جنيهًا «نعم تسعة عشر فحسب» إلى ألف جنيه، أى نحو ستين دولارًا أمريكيًا، وفق أسعار التعويم، امتنعت وزارة الصحة ومجلس الوزراء عن التنفيذ، ما دفع النقابة إلى طرق باب المحاكم مجددًا، لاختصام الدكتور أحمد عماد الدين، وزير الصحة، وشريف إسماعيل رئيس الحكومة، لامتناعهما عن الامتثال لحكم قضائي، وهكذا أصبحت القضية قضيتين، وبدلاً من أن تنطفئ كرة اللهب ازداد الاشتعال وإن كانت النيران تحت الرماد. ويرفض الأطباء، وهم على حق، حرمانهم من بدل عدوى عادل، فى حين يحصل القضاة على بدل يقدر بثلاثة آلاف جنيه، بل إن المبررات الرسمية بأن الأزمة الاقتصادية الخانقة تجبر الدولة على عدم تلبية مطالبهم، رغم الاعتراف بمشروعيتها، لا تجد قبولا لديهم، فى ظل هذه المفارقة «الفاقعة» التى لا تسر الناظرين، بما يجعل الشد والجذب مرشحًا لما هو أخطر، بحيث يصبح مؤكدًا أن «فيه حاجة غلط»، وهذا الملف لا يحظى بتعامل رشيد يستأصل الأزمة عبر ترضية مقبولة، أو حل وسط يرضى هذا وذاك. الضرب فى المدرس «حرام» وليس الأطباء وحدهم فى بؤرة الغضب، فالمدرسون بدروهم يعضون على أسنان الغيظ، جراء شعورهم بالغبن، إلى حد أن عنوان رواية الراحل الكبير طه حسين «المعذبون فى الأرض» يمكن جعله «المدرسون فى الأرض» بضمير مطمئن. ما من منطق فى أن يبدأ السلم الوظيفى للمدرس براتب أساسى لا يزيد على مائتين وخمسين جنيهًا، وهذا مبلغ لا يكفى فى الوقت الراهن ليسدد ثمن «انحشاره يوميًا» فى ميكروباص مع زيادة أسعار البنزين، حتى يصل إلى مقر عمله ويعود منه. على أن اندلاع الخلاف بين المدرسين والدولة، لا يعود إلى تدنى الرواتب، فالأمر ليس جديدًا، وقد تحمل المدرسون الراتب الهزيل كونهم يحسنون دخلهم عبر الدروس الخصوصية، حتى قرر وزير التربية والتعليم الدكتور الهلالى الشربيني، أن يستل «سيف الهلالي» ليصدر قرار منع الدروس، وغلق المراكز، ومنح الضبطية القضائية لمديرية الشئون القانونية بالوزارة، ل«القبض على أى مدرس تسول له نفسه إعطاء دروس متلبسًا»، وتوقيع غرامات تتراوح بين عشرة ومائة ألف جنيه، وسجن «المدان بالدروس الخصوصية» من خمسة إلى خمسة عشر عامًا. تلك «الفرمانات الهلالية» لم تعن شيئًا للمعلمين إلا أن الدولة التى تمنحهم راتبًا هو والعدم سواء، تريد أن تسد باب الرزق فى وجوههم، ما يعنى أن عليهم أن يسعوا إلى تحسين أوضاعهم عبر العمل فى حرف لا علاقة لها بالتعليم، فلنقل «سائقى توكتوك» مثلاً، وهو الأمر الذى يشكل امتهانًا فظًا لمهنة صناعة المستقبل. والواقع أنه رغم الاعتراف بأن الدروس الخصوصية ليست من الأمور التى يجب تشجيعها، غير أن ضرورات واقع الحال قد توحى بأن التغاضى عنها يمثل ضرورة، فالرواتب الهزيلة للمدرسين تستدعى أولاً أن يسعوا لتحسينها وإلا ماتوا جوعًا، كما أن الكثافة الدراسية التى بلغت مائة طالب فى بعض المدارس تعنى أن مدارسنا لا تقدم تعليمًا بالمعنى المتعارف عليه، ليبقى البديل هو مراكز الدروس التى تؤدى الخدمة فى مجموعات بمقابل مادى معقول، وليس غلق المجال تمامًا، ما يؤدى إلى انعكاسات سلبية على مستوى التحصيل الدراسى لقطاع هو الأوسع من الطلاب، هذا من ناحية تربوية تتصل بالطالب ذاته، وليس من الناحية الاقتصادية ذات الصلة بالمدرسين. وهناك بالتوازى أزمة أخرى مع المدرسين، فقانون الخدمة المدنية الجديد، ينتزعهم البدلات السنوية التى كانت تحتسب وفق التميز والمشاركة فى مراقبة الامتحانات وتصحيحها، وأصبح يقدم لهم نسبة مئوية ثابتة، تقول نقابة المعلمين إنها مجحفة، وهى ترفع شعار «الضرب فى المدرس حرام»! سيف الخدمة المدنية على رقبة الموظف وبما أن الحديث عن قانون الخدمة المدنية، فالجدير أن نصل أوله بآخره، وهنا ينبغى التوقف أمام «صرخات الموظفين». فالاضطرابات والمظاهرات التى عمت مصر، وبلغت فى الإجمالى أكثر من مائة وخمسة وسبعين احتجاجًا خلال العام الماضي، فى حين شهدت الفترة من يناير حتى أبريل من العام الجاري، أربعمائة وثلاثة وتسعين احتجاجًا، الكثير منها ضد القانون الذى يرى العمال فيه عصا غليظة تهوى على ظهورهم، نظرًا لبنوده التى تقضى بعدم زيادة الحوافز، لموظفى الدولة إلا بالرجوع إلى مجلس الوزراء، مع إطلاق يد المديرين فى تقارير الأداء بما يسمح لهم بحرمان صغار الموظفين من الحوافز التى يعتبرها كثيرون قبلة حياة تنقذهم من ذل السؤال. وعلى الرغم من تحفظات موظفى الدولة الذين يبلغ عددهم نحو ستة ملايين «أى أنهم كتلة ليست هينة وليس من العقل إغضابها»، مضت الدولة رسميًا تشدد على أن القانون ضرورة، حتى صدر «الخدمة المدنية» فى مارس الماضي، بعدما مرره البرلمان الذى كان رفض بنودًا محدودة منه، وسط تطبيل مدوٍ بأن ذاك الرفض «السابق» يأتى انطلاقًا من الانحياز للشعب. الأوقاف تخسف بالرواتب الأرض ومع شكوى جموع الموظفين، تتأتى أزمة الدعاة والوعاظ والأئمة فى هيئة الأوقاف الذين تقلصت أجورهم فجأة من ألف ومائتى جنيه إلى ستمائة جنيه، بما يخالف قوانين الحد الأدنى للأجور، وبذريعة أن الأجر يجب أن يرتبط بالإنتاجية وعدد الخطب والمواعظ وما إلى ذلك من معايير اعتبرها الذين «استيقظوا فوجدوا رواتبهم مخفضة بالنصف» ظلمًا بينًا وانتزاعًا للقمة اليابسة من أفواه صغارهم. ورغم التصعيد والمظاهرات والوقفات الاحتجاجية والمناشدات والتوسلات، مضت الدولة فى تطبيق القرار، حتى انحسرت المظاهر الاحتجاجية، لكن الوهم، كل الوهم أن يتوهم واهم أن الاحتجاج ذاته انتهي. والغريب حقًا أن يتخذ هذا القرار فى حين تقول الدولة إنها تشن حربًا ضد الفكر المتطرف، وتعتبر الدعاة والوعاظ رأس حربتها فى تلك الحرب التى لن يتأتى لها النصر ما لم يضطلعوا ببيان صحيح الدين وسماحته للعامة، وبالتوازى مع محاولات جماعات التطرف استقطاب الدعاة إلى أفكارها ليكونوا أبواقًا تروج لمناهج «الدعوشة» فى الوجدان الجمعى المصري، خاصة فى القرى الأكثر فقرًا.. غريب حقًا. «استمارة 6» للعمال.. واستفزاز لصبر الفلاحين أما العمال فحالهم «صعب»، ويكفى الرجوع إلى اعتراف وزير القوى العاملة بأن المظلة النقابية لا تغطى معظم عمال مصر، الذين يضطرون إلى التوقيع على «استمارة 6» أى استقالة مع التوقيع على العقود، بحيث يستطيع صاحب العمل طردهم متى شاء من دون أن يصبح تحت طائلة القانون. وخلال العام الماضى احتج العمال على أوضاعهم الوظيفية مائة وخمسة وسبعين مرة، وفق إحصائيات مراكز مستقلة، وكان التعامل الأمنى معهم خشنًا، وهناك حالات فض لاعتصامات عمالية بالقوة المفرطة، مثلما حدث فى الإسكندرية، ولدى منع وقفة احتجاجية أمام نقابة الصحفيين بالقاهرة. ويبلغ عدد المشتغلين بالزراعة فى مصر ما لا يقل عن ثمانية ملايين وخمسمائة ألف فلاح، والمعروف أن الفلاح بطبعه صبور، وهو الأمر الذى تقرره دراسات علم الاجتماع التى تفسر الأمر فى ضوء أن النشاط الزراعى يرتبط به بممارسات تتطلب «طولة بال» من حرث وبذر ورى وانتظار للمحصول ثم حصده. ودائمًا ما كان الفلاحون صمام أمان المجتمع، بل إن نسبة مشاركتهم فى الاحتجاجات لا تكاد تذكر، وحتى فى غضون ثورة الخامس والعشرين من يناير، بقيت القرية المصرية نموذجًا للهدوء، تتحرك بوتيرة مستقرة مثلما حركة «الشواديف والسواقي». لكن «الفلاح الحليم» قد أصبح يفور غيظًا، من قرارات برفع أسعار السماد، إلى محاصيل لا تشتريها الدولة، ومن ثم الاستيراد من الخارج إلى آخر قائمة الضغوط.. ومع موافقة البرلمان مؤخرًا على قانون بنك الائتمان الزراعى الجديد، وتحويله إلى البنك الزراعى المصري، ونقل تبعية إلى البنك المركزي، دون تمثيل الفلاحين والجمعيات التعاونية فى مجلس إدارته، ثارت الشكوك فى نفوس الفلاحين من أن استبعادهم يمثل انحيازًا من الدولة لمصلحة رجال الأعمال وكبار المستثمرين. ومؤخرًا اندلعت أزمة مزارعى قصب السكر إثر تضارب المصالح بين الحكومة والفلاحين؛ فالحكومة ترغب فى مواجهة العجز المائى من خلال ترشيد استهلاك المياه وتقليل المساحات المزروعة من المحاصيل الشرهة للمياه، ومن ضمنها قصب السكر، وفى المقابل يرغب الفلاحون فى توفير أصناف جديدة من القصب أقل استهلاكًا للمياه، هذا بجانب أن الحكومة ترفض رفع سعر طن القصب من أربعمائة إلى خمسمائة جنيه، بما يحقق هامش ربح يكفل الحد الأدنى من الحياة الكريمة للفلاحين الذين تحاصرهم تكاليف الإنتاج المرتفعة مع الصعود الدراماتيكى لسعر الدولار. ومع أزمة النقص فى السكر، أخذ الفلاحون يلوحون بالامتناع عن توريد المحاصيل من الأرز، اعتراضًا على تسعيرة الحكومة التى يقولون إنها غير عادلة، بينما لم يجد وزير التموين ردًا على هذا الإجراء إلا دعوة الشعب إلى الامتناع عن «أكل المحشي» وهو الأمر الذى يجعل الضحك فى مصر كالبكاء.