كأن جيش برابرة استعمر المكان، فلم يترك مفردة من مفردات جماله إلا أنقاضا وخرائب، فإذا بالتى كانت عروس البحر، وطالما خطب العشاق ودها، التى يقول عنها أحمد شوقى: خيمة الشعراء، ويصفها نجيب محفوظ بأنها نبع الحرية فى الصبحية، والسحر فى العشية.. إذا بها تشيخ قبل الأوان. هل هذه هى «المارية» ذات التراب الزعفران؟ واقعيا.. لا، لم تعد الإسكندرية كذلك، لم تعد الصبية خفيفة الظل، التى تلف حول خصرها «ملاية لف» وتتمشى فى «زنقة الستات»، أو تأكل الذرة المشوية على «كورنيش الأنفوشى». الصبية الفاتنة العفية «ركبتها الأمراض»، بحرها ملوث، رمالها الصفراء اختفت تحت طبقات القمامة، مرورها الانسيابى وشوارعها النظيفة أصبحت أطلالاً، وأخيرا جاءت كارثة الأمطار التى أغرقتها فى 6 دقائق، لتكون نقطة فى آخر سطر «النكبات» التى تعرضت لها طيلة أكثر من أربعين عاما من الفساد والإهمال والعشوائية. الذى حدث للإسكندرية كثير وليس من الأمانة تحميله لهانى المسيرى، فنحن لو فعلنا فكأنما قررنا إعدام عروس البحر بدم بارد وضمير متجمد.. هذا الملف يناقش الأزمة من «ألف الفساد» إلى «ياء الطوفان».. ليكشف عما خلف الكواليس، ويرصد الرياح التى جرفت وجه العروس قطعة قطعة. خمس ضحايا لقوا حتفهم، منهم شقيقان طفلان، وخسائر مادية لا تقل عن نصف مليار جنيه، تكبدتها الإسكندرية، التى كانت عروس البحر الأبيض، فإذا بيد الإهمال تشوه جمالها، جراء سيول «الأحد العاصف»، إثر نوّة شتوية اعتيادية، تعتبر مألوفة بالنسبة للمدينة التى طالما كانت تستقبل المطر بفرحة، قبل أن يرتبط فى الكارثة الأخيرة بالموت والدمار وغرق الناس فى بيوتهم. محمد صبرى حجازى، عضو المكتب التنفيذى بحملة المحليات للشباب بالإسكندرية يقول: الاضطرابات الجوية أظهرت مدى الإهمال وعدم الشعور بالمسئولية، فالمطر لا يعتبر أمرًا استثنائيًا على شتاء الإسكندرية، والمعروف أن هيئة الأرصاد الجوية حذرت قبل الكارثة بيومين من أن المطر سيكون غزيرًا، لكن أحدًا لم يحرك ساكنًا.. كل ما فعله المسئولون القاعدون على كراسيهم الوثيرة هو أن أطلقوا تصريحات مكذوبة بأن الأمور على ما يرام، وطالب حجازى بمحاسبة رئيس شركة الصرف الصحى حسابا رادعا على تصريحاته التى ثبت تهافتها قائلا: «إما أن نضع معيار عدالة يشمل الجميع، أو لا نحاسب أحدًا». وقال إن اقتصاديين يقدرون حجم الخسائر المادية التى تعرضت لها المحافظة بنصف مليار جنيه بحد أدنى، فى حين أن المضارين يؤكدون أن التعويضات هزيلة، وكأن القاعدة «إللى مش عاجبه يشرب من البحر»، هذا على اعتبار أن المدينة كلها أصبحت بحر فساد وأكاذيب وتقاعس. مسرح الكارثة هنا كانوا يسيرون، المرأة وطفلاها، فجأة سقط سلك الترام فصعق الصغيرين وسقطت الأم أرضًا مغشيًا عليها، وهرع عامل بمقهى لإنقاذ الطفلين فصعقته الكهرباء بدوره.. رأيت المشهد بعيني، ولن أنساه ما حييت، وحسبى الله ونعم الوكيل فى كل مسئول بهذا البلد لا يؤدى عمله. بهذه العبارة بدأ كريم محمد، صاحب محل محركات بمنطقة محرم بك، حيث وقعت الحادثة التى أوجعت الرأى العام.. ويواصل كلامه قائلا: فى موعد خروج طلبة المدارس والموظفين كان انهمار المطر قد ازداد للغاية، وحينئذ مرت سيدة بصحبة طفلين عمرهما 8 و6 سنوات، فسقط عليهم سلك الكهرباء المغذى للترام على الأرض المبللة، فأصيب الطفلان بالصاعقة التى قتلتهما على الفور، فى حين عامت الأم فوق المياه.. ولما رأى «إسلام القهوجي» المشهد، التقط كرسيًا خشبيًا، فأخرج الأم من المياه، ثم هرع إلى الطفلين، فكان قدره ينتظره فسقط قتيلًا.. واستقرت على الأرض الباردة الجامدة جثامين ثلاثتهم معًا، فى مشهد شديد الإيلام والكآبة. وقال: إن الحكومة كلفت خاطرها وصرفت تعويضًا عن كل ضحية عشرة آلاف جنيه، لا أعرف إلى أى نص استندت لتقدير هذا المبلغ، هل يكفى لمواساة أم فقدت صغيريها؟.. إن الكارثة هى خطيئة الحكومة من الألف إلى الياء، وهذا التعويض الهزيل لا يغطى على جريمة الفساد التى ترتكب كل لحظة ضد الإنسان المصري. وتساءل: «هل تعطينا الحكومة ثمن الكفن؟ أم أنها تقدم لنا ثمن المقبرة؟.. الأمر مثير للغثيان حقًا». السيد محمد تاجر آخر بشارع الحدينى يقع متجره على مقربة من مسرح الكارثة يقول: «من مات ارتاح، وتبقى الحسرة والمرارة فى قلوب ذويهم وأحبابهم.. المأساة فوق الكلمات، كل الناس ذاهلون غير قادرين على تصديق أن ما حدث كان حقيقيًا وليس كابوسًا مخيفًا». ويضيف: «متجرى متخصص فى بيع السجاد، وبعدما غمرت المياه بضائعى فإن تقدير الخسائر مبدئيًا، لن يقل عن 30 ألف جنيه، فقد أرسلت السجاد إلى المغسلة لتنظيفه، لكن هذا سيؤدى إلى زوال رونقها فتبدو مستعملة، وعندئذ سأضطر لبيعها بنصف الثمن، وربما أقل. وقال: «لا أنتظر من الحكومة تعويضًا، ولن أسعى إلى ذلك، فإذا كانت قدرت التعويض للمتوفى بعشرة آلاف جنيه، فكم يا ترى ستمنح المضارين ماليًا؟». يقول حسام زاهر متولى، شقيق «القهوجى إسلام»، إن الفقيد أصبح يلقب فى منطقة محرم بك بأسرها بشهيد الإهمال، وهناك حالة حزن طاغية على الجميع، فإسلام كان محبوبًا من الجميع، وهو نموذج للشاب المكافح المثابر، ترك دراسته الأزهرية بعدما حفظ القرآن، إثر وفاة والده، واضطراره للإنفاق على أمه وشقيقته، خاصة أن الوضع المالى لشقيقيه الأكبر منه ليس على مايرام، فضلا عن كونهما متزوجين لهما أطفال ينفقان عليهم. ويتهم حسام الدولة بالإهمال قائلا: «الأمر على بلاطة، من دون تزويق للكلام أن الدولة أهملت، وهى تقدم المحافظ كبش فداء، وترمى لذوى الضحايا عشرة آلاف جنيه على سبيل رفع العتب ليس إلا». ويقول: «أمى تكاد تموت من فرط الحزن، وهى امرأة طاعنة فى السن، وعندما علمت بالتعويض صرخت وأقسمت بأنها لن تمس منه مليمًا»، مضيفًا: «أخى استشهد وهو يحاول إنقاذ ضحايا الدولة من إهمال الدولة فقتله إهمال الدولة». ويختتم كلامه بتساؤلات مبهمة قائلا: ماذا ستفعل المحافظة لعدم تكرار الكارثة؟ هل ثمة خطة لتحديث شبكة الصرف الصحى بالمحافظة المطيرة؟ ما الإجراءات الاحترازية لشتاء ما زال فى بدايته؟ هذه الأسئلة وغيرها، هى ما ينبغى أن تجيب عنه المحافظة، لكن مكتب الدكتورة سعاد الخولى التى تم تكليفها بأعمال المسيرى بعد رحيله، أغلق أبوابه فى وجهنا بذريعة أن «معاليها» مشغولة.