كثيرة هى المرات التى تحدى فيها الرئيس السودانى عمر حسن البشير إرادة المجتمع الدولى، مصورا نفسه بطلا يخرج منتصرا من كل معركة حتى اعتاد السودانيون على البطولات الوهمية التى تبثها وسائل إعلامهم، ولكن وصول البشير قادما من القمة الأفريقية، هذه المرة كان مختلفا فقد تسبب وصوله الخرطوم من العاصمة الجنوب أفريقية (جوهانسبيرج)، فى حالة إحباط عامة فى البلاد، ولدى أسر وعوائل ضحايا حروبه المختلفة وبصورة أخص فى دارفور. إحدى محاكم جنوب أفريقيا كانت قد أصدرت منتصف الأسبوع الماضى حكما ابتدائيا يقضى بمنع البشير من السفر بوصفه متهما فى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وإبادة جماعية بناء على صحيفة اتهام من المحكمة الجنائية الدولية. وقال إبراهيم غندور وزير خارجية السودان على هامش القمة الأفريقية، إن حكومة جنوب أفريقيا رفضت طلبا للمحكمة الجنائية الدولية بتسليم البشير، والرئيس شارك ويشارك فى فعاليات القمة الأفريقية بجوهانسبرج، ووصف غندور قرار المحكمة بأنه طلب قديم يردد على أسماع الحكومة السودانية من وقت إلى آخر، ولكن قرارات الاتحاد الأفريقى واضحة فى هذا الشأن. ورفعت القضية من قبل (مركز التقاضى الجنوب أفريقى) - منظمة مجتمع مدنى- إلى المحكمة العليا لجنوب أفريقيا، وبعد مداولات طويلة لجلسات المحكمة قرر القاضى (هانز فابريسيوس) حظر (البشير) من السفر، حتى يتم بحث طلب القبض عليه وتسليمه للمحكمة الجنائية الدولية، وأكد القاضى هانز أن هناك ضرورة لإجراء التحقيق قائلا: (عندما يقدم طلب تحقيق بموجب قانون المحكمة الجنائية الدولية، وتوجد أسس معقولة لإجراء التحقيق، فإن الاعتبارات السياسية والدبلوماسية غير ذات صلة). واستغلت حكومة جنوب أفريقيا الطعن الذى قدمته وزارة العدل والذى جعل القاضى يمنحها ساعة، لوضع اسم عمر البشير على لائحة الحظر بالمطارات، لتهريبه عبر أحد المطارات العسكرية. المحكمة الجنائية فى أول تعليق لها لوسائل الإعلام أكدت أنها دائما ما تذكر الدول الموقعة على ميثاق روما بالتزاماتها تجاه المحكمة، وقد تأسف (جيمس استيورات) مساعد المدعى العام للمحكمة الجنائية الدولية لعجز سلطات دولة جوهانسبرج وعدم قيامها بإلقاء القبض على الرئيس السودانى. وقال استيورات لبعض وسائل الإعلام : (نحن نشعر بخيبة أمل لعدم توقيفه. موقفنا كان على الدوام يذكر جنوب أفريقيا بالواجب الملقى على عاتقها). ∎ قصة الهروب الكبير. الرئيس عمر البشير هرب من جوهانسبرج بواسطة مجموعة تنتمى إلى جهاز أمنى خاص بالتعاون مع المخابرات السودانية وعبر طائرة رئيس إحدى الدول الأفريقية، وسمحت المخابرات العامة بجنوب أفريقيا التى كانت تحرس وتراقب المطار العسكرى لطاقم وزير الداخلية (الجوزات) بمراجعة قوائم المسافرين على متن الطائرة الرئاسية السودانية المكونة من 22 شخصا معظمهم من الدبلوماسيين والمترجمين والمستشارين، بينما أقلعت طائر ة أخرى تقل الرئيس البشير ومجموعة عسكريين وأفرادا من جهاز الأمن والمخابرات من أحد المطارات العسكرية بولاية النيل الأزرق، لتحط (طائرة الرئيس الأفريقى) التى تقل عمر البشير فى نفس المطار الذى سبقتهم إليه طائرته الرئاسية، ويلتحق البشير بالوفد الذى رافقه فى زيارته لجنوب أفريقيا ويستغل طائرته الرئاسية ومعه الوفد الذى غادر برفقته فى عملية تمويه لمستقبليه فى المطار الذين تلقوا تحيته الشهيرة برفعه عصاه. ورشحت معلومات أن جهاز الأمن والمخابرات السودانى ذكر الرئيس (جاكوب زوما) بالتزاماته تجاه تأمين حضور البشير للقمة كما هدده بالقضاء على حياة 1400 جندى من دولة جنوب أفريقيا، من الجنود التابعين لبعثة الاتحاد الأفريقى (قوات اليوناميد) فى دارفور، حالة لم يعد البشير. جنوب أفريقيا وافقت على قانون الحصانة الذى يقضى بحماية الرؤساء وممثلى الدول حين حضورهم أى من القمم الأفريقية.. وضع منذ بضعة أشهر يكفل حماية الرؤساء الأفارقة، وإن كانت الحادثة سوف تؤدى إلى أزمة بين السلطة التنفيذية والقضائية نظرا لتغول الأولى على الثانية مما يعد ضربة لمبدأ الفصل بين السلطات. ويؤكد خبراء القانون الدولى أن ما حدث سوف يترك تأثيرا بالغا على الوضع فى جنوب أفريقيا ومن المتوقع أن ينشأ نزاع قانونى بين الحكومة والسلطات القضائية. ويرى كثير من السودانيين أن تهريب البشير تم بشكل غير لائق لا يتناسب مع الشعب السودانى ولا برئيس دولة عربية وأفريقية كبيرة مثل بلادهم. المعارضة السودانية جميعها تتفق على ارتكاب البشير لجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية فى مناطق دارفور، وتضيف إليها عدد من الجرائم ارتكبت فى مناطق لم تشملها المحكمة الجنائية الدولية ضمن التهم الموجهة إلى البشير أثناء فترة حكمه التى استمرت 21 عاما، كما تتفق أغلب أطراف المعارضة بضرورة تسليم البشير لنفسه أو إلقاء القبض عليه، وإن كان بعضهم يفضل محاكمته بعد سقوط النظام باعتباره يستحق الإعدام. ويقول محمد ضياء الدين الناطق باسم «حزب البعث الاشتراكى»: البعض كان يعلق الأنظار على نتائج تطورات الأحداث بعاصمة جنوب أفريقيا وذهبت بهم الأمنيات نحو اعتقال البشير وتقديمه للمحكمة الجنائية الدولية نتيجة ما ارتكبته سلطة الإنقاذ من جرائم بحق الشعب، وهى جرائم خلفت مآسى وأحزاناً قاسية يعانيها شعبنا فى مختلف مناحى حياته.. وتأسف ضياء الدين على مواقف بعض القوى السياسية السودانية التى راهنت على المحكمة الجنائية والمجتمع الدولى بالتنسيق مع دولة جنوب أفريقيا، قائلا: «لابد من التأكيد على أن المحكمة الجنائية نفسها تمثل أداة ابتزاز تستخدمها الدول المتنفذة فى المجتمع الدولى «أمريكا»، للضغط على بعض الدول لإجبارها واستغلال تجاوزاتها والضغط عليها لتنفيذ مخططات ومشاريع تتعارض مع مصالحها الوطنية. ويرى ضياء أنه ثمة تواطؤ من قبل المجتمع الدولى مع نظام البشير ومع الكثير من الأنظمة والكيانات المستبدة المماثلة التى استباحت شعوبها بالقتل والتنكيل وامتدت جرائمها خارج حدودها لتشمل تعدياتها السافرة الكثير من شعوب العالم. وحول عودة البشير إلى الخرطوم يقول ضياء الدين: «الآن تكشفت المؤامرة والحبكة التى تمت بها المسرحية، وظهرت حقيقة ما يسمى بالمجتمع الدولى، الذى تحج إليه بعض من أحزابنا فى السلطة والمعارضة، وتبين وتكشف الآن مقدار تواطؤ هذا المجتمعع واتضح أنه لن يفرط فى نظام البشير الذى يخدمه ويطبق له وينفذ كل شروطه السياسية والاقتصادية والأمنية، كما أنه وبالمقابل لن يستبدل النظام ورئيسه». ويتساءل ضياء الدين قائلا: بعد هذه التجربة المفضوحة هل لعاقل أن يستقوى بالمجتمع الدولى فى مناهضة النظام؟ وأن من يراهن على الشعب حتما سينتصر ومن يراهن على غيره مصيره الخسارة. ويضيف: النظام لم يترك لنا سوى خيار واحد، وهو خيار الانحياز للشعب خيار الانتفاضة والعصيان المدنى من يراهن على الشعب حتما سينتصر، ومن يراهن على غيره مصيره الفشل. يقول على محمود حسنين الخبير القانونى ورئيس الجبهة الوطنية العريضة: «جنوب أفريقيا من مؤسسى ميثاق روما ومن الدول الموقعة عليه، وأجازه برلمانها، ويلزم قانون روما كل الموقعين عليه بتنفيذ أوامر المحكمة الجنائية الدولية دون حاجة لأمر من القضاء الوطنى، ولكنها لم تفعل. ويواصل حسنين قائلا: عندما لا تفعل ذلك يقوم القضاء بتطبيق القانون، وخوفا من أن يفعل القضاء ذلك سارعت الحكومة بإصدار مرسوم بمنح كل رؤساء الدول الحاضرين للمؤتمر حصانة، وقد فصلت المحكمة فى مشروعية ودستورية ذلك المرسوم، وكان لزاما على الحكومة إلقاء القبض على البشير حتى لا يهرب قبل إصدار القرار. ويواصل حسنين: أصدرت المحكمة قرارها بعدم مشروعية المرسوم، بالتالى يصبح تلقائيا أمر تنفيذ القبض على البشير واجبا على حكومة جنوب أفريقيا تنفيذه لتقوم بترحيله إلى لاهاى، وهذا لم يحدث وهنا يثور إشكال آخر عن مدى رغبة حكومة جنوب أفريقيا فى تنفيذ أوامر القضاء، قانونيا ودستوريا هى ملزمة وفق النظام الديمقراطى ومبدأ فصل السلطات. ويتهم حسنين الحكومة فى جنوب أفريقيا بأنها تعاملت مع أوامر القاضى بصورة غير قانونية، وقال: إن حكومة جنوب أفريقيا خالفت دستورها ونظامها الديمقراطى وانحطت إلى مستوى الدول غير الراشدة.∎