نظرة فيها من الحنان، بقدر ما فيها من خشية وعدم اطمئنان، وتمتمة شفتين بأدعية وصلوات، للرب أن يستجيب، ويحفظ تلك الجالسة بجواره، من كل شر خبيث، ومن كل تجارب الشيطان. هو فى الثمانين، ليس فى جبهته أو ذقنه، ما يوحى بديانته، راح وانقضى ذلك الزمن، الذى لم يكن يخطر على بالنا أن نهتم، بل أن نستطيع التفرقة بين المصريين. الفتاة بجواره، ردت على استفسارى، بثوب فضفاض وحجاب أنيق يغطى شعرها، تحتضن كشكول محاضرات. أومأ إليها: المحطة الجاية. تهم بالنهوض، بينما يتابعها من نافذة الترام، وكأنه يحوطها بكلتا ذراعيه. ما إن نزلت وابتعدت حتى بادلنى الحديث: حفيدتى الكبرى دعوت له بدوام الصحة، وأن يفرح بها. قال: - ابنتى - أمها ساكنة فى سيدى بشر وأنا والحاجة قاعدين لوحدنا، بيتنا على بعد محطتين من كليتها. تخيلت أمها، بل جدتها أيضاً، وهما فى نفس عمرها ذاهبتين إلى الكلية بفستان عصرى محتشم وأنيق، وتسريحة شعر وقورة، ونظرة أمل وتفاؤل بالمستقبل. تعرف؟ لا تتصور مقدار سعادتنا بها، ملأت علينا البيت. ودعته، وعلى وجهه ارتسمت نفس النظرة التى رأيته عليها فى بداية المشوار. سوق السمك ساعة صبحية، والبائعون بهمة ونشاط، يجهزون معروضاتهم أمام الدكاكين، يوزعونها حسب أحجامها ونوعياتها، وهناك على الأرض صينية بها كمية كبيرة من صغار السمك أو «البساريا» ولأنها أقل قيمة، فقد ركنها البائع على الأرض، وعلى الرائحة الشهية تأتى قطة كبيرة تشمشم بمنخارها الصغير، وتتطلع بعينيها الزرقاوين إلى أعلى فى توسل واستجداء حيث يقف البائع لعله يعطف ويرمى لها سمكة، ولكنه لا يلتفت إليها، تموء وتنظر إليه لعله يأخذ باله، ولكن بلا جدوى، تبدأ فى التقدم بخطوة حذرة فى اتجاهه، تشب بقدمها اليمنى حتى تصل إلى حافة الصينية، تموء وتلتفت إلى البائع، لكى تبرئ ذمتها من ذنب على وشك أن تقترفه، ثم تبدأ تتحسس بأرجلها الأمامية صغار السمك، وبسرعة خاطفة تلتقط إحداها، وقبل أن تضعها فى فمها، تطلعت إلى البائع بعينين حذرتين، ولما لم تجد أى ممانعة أو اعتراض، جلست فى هدوء واطمئنان تلعق السمكة بتلذذ واستمتاع، وقبل أن تنصرف لم تنس أن ترسل نظرة امتنان للبائع، الذى كان مشغولا مع أحد الزبائن، فلم يلتفت إليها. فى الساحة الواسعة أمام مكتبة الإسكندرية، وتحت تمثال فتاة إغريقية رأيتها جالسة فى استرخاء، أبرع جمالا من صاحبة التمثال. نظرت إليها، وكأننى أنهل من عذوبة جمالها الأخاذ، ويبدو أن النظرة أعجبتها فلم تشأ أن تردنى خائبا، فأجابت بعينين باسمتين، وابتسامة ساحرة من شفتين منفرجتين، وكأنها دعوة صريحة للتواصل. نظرة. فابتسامة ارعشتنى. كنت على استعداد أن أرد عليها بالتى هى أحلى منها، فكرت للحظة أن أرجع وأحادثها، ولكن ماذا بعد؟ أنقذنى من حيرتى، صوت داخلى، جعلنى أترنم بمطلع من أغنية شهيرة: «حظنا منه النظر.. والنظر راح يرضى مين» وقلت لو أنها عرفت اسم الأغنية، واسم مؤلفها الشهير ومطربها الأشهر لرجعت إليها فى الحال. ولكن لما كانت تلك الأغنية من ثلاثينيات القرن الماضى فلم أشأ أن أنظر إلى الوراء فى حسرة، لقد فات الأوان، وهيهات أن يرجع الزمان.؟