أصرت صديقتي الفرنسية العجوز أن تشارك سكان العمارة في ثمن الإصلاحات .. وكانت حجة السكان أنها تسكن في الطابق الأرضي وبالتالي لا تستخدم السلم أو المصعد .. وكان منطق صديقتي أن إصلاح المصعد والسلم سيحسن من شكل العمارة وهي تقيم في هذا المكان .. والأهم هي مسئولة أيضاً مثلهم تمامًا. واستوقفني الموقف .. فصديقتي مواردها بسيطة وتعيش وحدها بعد وفاة زوجها وسفر الأبناء، ومجلس إدارة العمارة منحها الحق في عدم المشاركة .. ولكنها صممت علي أداء واجبها ومسئولياتها لأن مصلحة الجماعة قبل المصلحة الشخصية . وأنا لا أروي هذه الحكاية حتي أمجد في صديقتي، أو في الشعب الفرنسي لا سمح الله .. ولكن من عاش مثلي في الغرب عدة سنوات، لابد له أن يلاحظ أمورا حضارية علي المستوي الإنساني تستوقفه وتلفت نظره وتثير غيرته. وأتذكر رغما عني سكان عمارات القاهرة القديمة الذين يدفعون إيجارات زهيدة لا تساوي 10% من قيمتها الإيجارية الحقيقية ولم تتغير منذ سنوات طويلة .. ورغم ذلك يرفضون بإصرار رفع الإيجارات، أو حتي دفع الصيانة أو تجديد المدخل أو المصعد ! ومن المشاهد المألوفة أن تدخل عمارة من العمارات القديمة الرائعة .. فتجد المصعد معطل، وحالة السلالم يرثي لها .. والقذارة في كل مكان .. رغم أن ساكنيها من الأطباء المشهورين والمهندسين المعروفين والتجار الأغنياء !! طيب ليه ؟؟ والرد الجاهز: دي مشكلة صاحب العمارة ؟ ثم أنا يعني هادفع لوحدي؟! لا أحد يريد أن يدفع .. وإذا اجتمع البعض، يرفض الآخرون لأن المنطق المصري دائما: مصلحتي الشخصية المباشرة .. أهم من مصلحة الجماعة البعيدة !! وأتذكر مرغمة وأنا أغلي من الغيظ ما تعرضت له أنا شخصيا .. فقد كان زوجي الفنان الراحل يوسف فرنسيس يقيم في شقة بالزمالك منذ أيام عمله بكلية الفنون الجميلة .. وكان الإيجار يعتبر رمزيا مقارنة بالموقع .. وفكرت معه أن نجمع من السكان مبلغاً من المال كي نحسن من شكل المدخل الذي تكسرت أبوابه القديمة الجميلة .. وبليت أحجار سلالمه مع السنوات .. وياريت نركب مصعد يستعين به الجميع .. ونقنع البواب الذي يحتل المنزل بالسكن في منطقة قريبة بدلا من بير السلم .. ونظر إلي زوجي بإشفاق ثم قال لي بحسم: لا تدخلي نفسك في وجع دماغ لا ينتهي .. وصداع لن يتوقف .. فلن يوافق أحد علي مطالبك المجنونة .. ولكني كنت متحمسة .. فمعظم السكان حالتهم المادية متيسرة ويصرفون آلاف الجنيهات علي ديكورات منازلهم من الداخل. وبدا لي الأمر شديد البساطة .. سأقنعهم أن من واجبهم تجاه هذا المكان الذي يسكنونه منذ سنوات طويلة بإيجارات هزيلة، أن يحسنوه ويعملوا علي صيانته .. أما البواب فسنعطي له «خلو رجل» محترما يسمح له ولأولاده بالسكن في شقة محترمة بدلا من تكدسهم في حجرة خشبية بشكل غير آدمي ومهين. واتهمت زوجي أنه يفتقد الحماس والإصرار والإيجابية .. ولكني اكتشفت فيما بعد أنني كنت الوحيدة التي تفتقد الرؤية الواقعية .. فمنذ اليوم الأول توالت الصدمات: سكان الدور الأول رفضوا بإصرار فكرة مصعد لأنهم لن يستخدموه. «طيب والمدخل يا جماعة» ؟ والرد: لا داعي لأننا مهما نظفنا سيعود من جديد إلي حالته الأولي! أما سكان الأدوار العليا .. فقد تفاوتت ردود أفعالهم .. بعضهم وافق بشرط أن يدفع الآخرون أكثر منهم لأنهم عائلة صغيرة في حين أن الجيران عائلات كبيرة، بالتالي يستخدمون المصعد والسلالم أكثر منهم! ومنهم من نظر إلي باستخفاف ورفضوا بحجة أنهم يقيمون في الخليج ولا يأتون إلا في الصيف إلي القاهرة .. وبالتالي فإن استخدامهم للمدخل والمصعد محدود للغاية..!! ومنهم من رفض تماما مناقشة الفكرة وسألوني بريبة إذا ماكنت أعمل في أي دائرة حكومية أو عقارية! والأهم .. كان موقف البيه البواب، فالبواب الذي وصل إلي القاهرة منذ سنوات طويلة وسكن غرفة خشبية صغيرة جدا تحت السلم .. ومع الوقت تزوج وأحضر زوجته كي تساعده .. ثم أنجب .. وأنجب .. وأنجب وتزوج من جديد .. واستولي علي مدخل العمارة وجزء من الجراج وحول مدخل العمارة إلي «سوبر ماركت» صغير يبيع فيه السجائر والمياه الغازية والشوكولاتة لسكان المنطقة .. وعندما عرضت عليه أن نجمع له مبلغاً من المال كي يسكن في منطقة قريبة، نظر إلي بدهشة واستنكار وكأنني مجنونة .. ثم ابتسم لي ابتسامة صفراء قائلا: ازاي يا مدام .. ده بيتي!! أما صاحب العمارة فقد اعترف لي أن دخله الصافي من العماره 200 جنيه .. ويدفع للبواب فقط 500 جنيه !! وأنه يدعو الله ليل نهار أن تنهار العمارة علي ساكنيها ليتخلص منها ومن سكانها !! وبعد أسابيع طويلة من المحاولات المستمرة عدت إلي زوجي بالحل: سنعزل من العمارة. إن ما يحدث بين سكان عمارات القاهرة هو نموذج مصغر لما يحدث في مصر .. وأنا هنا لا أظلم مجهود بعض الأفراد أو المؤسسات أو الشركات .. ولكن هذه الجهود تظلم نفسها بنفسها .. لأنها لم تخرج عن نطاق نشاط فردي واجتهادات شخصية ولم تتحول إلي قيمة اسمها المسئولية الجماعية يؤمن بها المواطن باختياره .. أو تخطيط منظم واضح يخضع له الجميع بقوة القانون الذي لا يعترف بالمحسوبيات ويضع مصلحة المجتمع قبل مصلحة بعض الأفراد. وأسير في شوارع القاهرة .. مدينتي المفضلة .. وأحس بها موحشة رغم الزحام .. مظلمة رغم تناثر الأضواء .. ويرغمني شعور مؤلم بأن أقسي الأسلحة التي تصيبنا في الصميم وتدمرنا، هي من صنعنا نحن: الإهمال واللا مبالاة والأنانية!