رئيس جامعة كفر الشيخ يترأس لجنة اختيار عميد كليتي الحقوق والطب البيطري    إبراهيم عيسى: الإيجار القديم قانون يمشي على حقل ألغام    وزير التموين: إقامة نحو 10 أسواق ل "اليوم الواحد" في الإسكندرية    ترامب يوضح سبب رفضه تشديد العقوبات على روسيا    دول أوروبية تدعو لقبول فلسطين عضو كامل العضوية بالأمم المتحدة    جدول ترتيب الدوري المصري الممتاز بعد فوز الأهلي على فاركو    زيزو يُشعل تتويج الأهلي بلقب الدوري المصري في مواجهة فاركو    حريق «مُروع» في الإمارات.. ما الحقيقة؟    «مبفوّتش مباراة».. كريم عبد العزيز يكشف انتمائه الكروي ويوجه رسالة ل محمد صلاح (فيديو)    نوران ماجد تتعاقد على تقديم مسلسل «للعدالة وجه آخر» ل ياسر جلال    «ابتعدوا عن هذه التصرفات».. 3 أبراج الأكثر عرضة للانفصال    اغتنموا الطاعات.. كيف يمكن استغلال العشر الأوائل من ذي الحجة؟ (الافتاء توضح)    تسبب فى «عماه».. السجن 5 سنوات لمتهم بضرب زوج أخته بالدرب الأحمر    أمن الغذاء.. «هيئة ضمان الجودة» تعتمد برنامجين جديدين ب كلية الزراعة جامعة بنها    محافظ سوهاج: يعقد اجتماعًا لبحث الموقف التنفيذي لمشروعات "حياة كريمة" بمركز جرجا    تشكيل تشيلسي الرسمي لمواجهة ريال بيتيس في نهائي دوري المؤتمر الأوروبي    إيران وعُمان تتفقان على دعم القضية الفلسطينية    عمرو الورداني: الحب بوابة الدخول إلى هذه الأيام العشر من ذى الحجة    عاجل.. «الصحة العالمية» تحذر من متحور جديد ل «كوفيد 19»    سقوط طائرة الحجاج الموريتانية.. اعرف التفاصيل الكاملة    حسن الرداد وإيمي سمير غانم يرزقان بمولودتها الثانية    دانا أبو شمسية: اتهامات حادة لنتنياهو بالفشل فى استعادة المحتجزين داخل الكنيست    «الوفد»: 200 عضو أبدوا رغبتهم الترشح في الانتخابات المقبلة.. وسندخل في تحالفات مع حزب الأغلبية    أموريم: أشعر بالذنب بعد كل خسارة لمانشستر يونايتد.. ولا توجد أخبار عن كونيا    حكم صلاة العيد يوم الجمعة.. أحمد كريمة يوضح    غدًا الأوبرا تستضيف معرض "عاشق الطبيعة.. حلم جديد" للفنان وليد السقا    نائب وزير الصحة يشيد بأداء عدد من المنشآت الصحية بقنا.. ويحدد مهلة لتلافي السلبيات    دعاء الإفطار في اليوم الأول من ذي الحجة 2025    رئيس وزراء كندا يؤكد سعي بلاده لإبرام اتفاق ثنائي جديد مع أمريكا لإلغاء الرسوم الجمركية    مسؤولة أممية: المدنيون بغزة يتعرضون للاستهداف المباشر    إصابة شخص في غارة إسرائيلية على سيارة بجنوب لبنان    حسن الرداد وإيمي سمير غانم يرزقان ب «فادية»    اتحاد الصناعات يبحث مع سفير بيلاروسيا التعاون بالصناعات الثقيلة والدوائية    الفيوم تحصد مراكز متقدمة في مسابقتي المبتكر الصغير والرائد المثالي    مواقيت الصلاة بمحافظات الجمهورية غدًا.. وأفضل أدعية العشر الأوائل (رددها قبل المغرب)    مدير «جنيف للدراسات»: تزاحم أوروبي أمريكي للاستثمار في سوريا    عطل مفاجئ في صفقة انتقال عمرو الجزار من غزل المحلة إلى الأهلى    الجيش الإسرائيلي ينشر مشاهد لنصب مستوصف ميداني جنوب سوريا ل "دعم سكان المنطقة"    مسئول أوروبي يتوقع انتهاء المحادثات مع مصر لتحديد شرائح قرض ال4 مليارات يورو أواخر يونيو    13 شركة صينية تبحث الاستثمار فى مصر بمجالات السياحة ومعدات الزراعة والطاقة    طارق يحيي: لن ينصلح حال الزمالك إلا بالتعاقد مع لاعبين سوبر    رومانو: تاه يخضع للفحص الطبي تمهيدًا للانتقال إلى بايرن ميونخ    طريقة عمل الموزة الضاني في الفرن لغداء فاخر    د.محمد سامى عبدالصادق: حقوق السربون بجامعة القاهرة تقدم أجيالا من القانونيين المؤهلين لترسيخ قيم الإنصاف وسيادة القانون والدفاع عن الحق.    نائب وزير الصحة تعقد اجتماعًا لمتابعة مستجدات توصيات النسخة الثانية للمؤتمر العالمي للسكان    سليمة القوى العقلية .. أسباب رفض دعوى حجر على الدكتورة نوال الدجوي    نسرين أسامة أنور عكاشة ل«البوابة نيوز»: مفتقد نصيحة والدي وطريقته البسيطة.. وأعماله تقدم رسائل واضحة ومواكبة للعصر    الإعدام لمتهم والسجن المشدد 15 عامًا لآخر ب«خلية داعش قنا»    اسكواش - تتويج عسل ونوران جوهر بلقب بالم هيلز المفتوحة    5 أهداف مهمة لمبادرة الرواد الرقميون.. تعرف عليها    حملة أمنية تضبط 400 قطعة سلاح وذخيرة خلال 24 ساعة    «بيت الزكاة والصدقات» يصرف 500 جنيه إضافية لمستحقي الإعانة الشهرية غدًا الخميس    ألف جنيه انخفاضا في سعر الأرز للطن خلال أسبوع.. الشعبة توضح السبب    وزير التعليم: 98 ألف فصل جديد وتوسّع في التكنولوجيا التطبيقية    صحة أسيوط تفحص 53 ألف مواطن للكشف عن الرمد الحبيبي المؤدي للعمى (صور)    قرار من «العمل» بشأن التقديم على بعض الوظائف القيادية داخل الوزارة    محافظ بني سويف يراجع الترتيبات النهائية لامتحانات النظري للدبلومات الفنية قبل انطلاقها غدا    الحماية المدنية بالقليوبية تسيطر على حريق مخزن بلاستيك بالخانكة| صور    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمد إبراهيم.. صفحة فى تاريخ ثورة مصر!
نشر في صباح الخير يوم 24 - 01 - 2012

أن تحتفل بثورة 25يناير بطريقة متعهدى الحفلات .. وبمنطق العيد فرحة فهى جريمة بجميع المقاييس، أن تحتفل ودماء الشهداء لم تبرد رغم مرور العام والأشهر .. لأن حق الدم الذى أريق دون عقاب من أهدره، يجعل الدم ساخناً مغلياً فى قلب الثورة.
أن تحتفل دون أن يرد اعتبار آلاف المصريين من خيرة شبابها ورجالها وبناتها ممن أصيبوا وفقدوا صحتهم أو أعينهم أو أحد أعضائهم أو حتى خدشوا دون عقاب السفاحين الذين تعمدوا تشويه هؤلاء الشباب أو الرغبة فى إبادتهم ... فالاحتفال علينا جرم ومحرم.
المعنى الحقيقى للاحتفال فى ذكرى الثورة هو أن نقيم حفل «صحصحة» الذاكرة. أن نذكر أنفسنا بأن الحقوق الضائعة كثيرة، نذكر أنفسنا بأن المشهد يملؤه ظلم وفجر وقسوة وتعمد واضح بأن «ينكفئ الماجور على الثورة» .. لكن لن يحدث إلا إذا انتعشت ذاكرة المصريين من جديد، إلا إذا ذاقت الذاكرة الوجع والمرارة، إلا إذا خرجت ذاكرة وضمائر الكثير من «المواطنين الشرفاء» من كفن الخوف والجهل والغباء.
وحتى لا ننسى .. ومع نزولنا يوم 25 لاستكمال الثورة نذكركم بمحمد إبراهيم - ليس مجرد اسم أو رقم فى سجلات مصابى الثورة، فهم كثيرون كثيرون، وكل مصاب منهم ومن شهدائنا وثيقة رسمية كافية لإثبات أن الثورة مستمرة .. والرهان هو صبر المصريين.
24يناير 2011.. الطالب محمد إبراهيم سليمان .. الذى يدرس فى كلية الحاسبات والمعلومات جامعة القاهرة، وأحد أبطال الملاكمة، الشاب الرائع ذو الأحلام والطموح الواسع، أكبر أبناء هذه الأسرة الصغيرة «أب وأم ومحمد ومصطفى».. يتحدث مع أصدقائه على الفيس بوك ويتحاورون حول ما سيحدث فى اليوم التالى، منهم من قرر النزول ومنهم من يعتقد أنه لا جدوى من المظاهرات، .. واختلفت الآراء حول اليوم، ولكن جاء الغد ومعه25يناير .
25 يناير 2012.. محمد إبراهيم .. كان اختياره هو أن يذاكر فى نفس اليوم حيث امتحانات التيرم.
بعد يوم طويل من المذاكرة ومع قسط من الراحة، يدخل محمد على الفيس بوك، شم رائحة التوتر والقلق، شم رائحة العنف والغدر، شم رائحة الغاز الذى بدأت تتناقل معلوماته على شبكة الإنترنت .
محمد إبراهيم .. فى آخر يوم 25 يناير، يحاول أن ينزل إلى الشارع، ولكن والدته تمنعه قائلة: عندك امتحانات .. مش وقت مظاهرات، لما تنتهى الامتحانات تبقى تنزل - هكذا اعتقدت الأم أن اليوم سينتهى اليوم وغداً، وكالعادة قبل هذا التاريخ : «وكأن شيئاً لم يكن».
26 -27 يناير 2011: محمد يذاكر ويذهب إلى الامتحان .. والبلد يشتعل والمعالم تتضح .. لا تراجع ولا استسلام.
28يناير 2011: انتهت امتحانات محمد .. وبدأت الثورة، وبدأت معها حياة مختلفة لهذا الشاب الذى انقلبت حياته رأساً على عقب . لم تستطع الأم التى وعدته بالنزول للمشاركة فى المظاهرات أن تمنعه بعد أن أتم امتحاناته، لم تستطع أن تواجه مخاوفها أمام انفعال ابنها وهو يقول : «إللى استشهدوا وأصيبوا مش أحسن منى يا أمى .. لم تستطع الرفض رغم عدم ارتياح قلبها وهو يقول شبه باكٍ: «مش ح احترم نفسى يا أمى لو ما نزلتش» .. ونزل محمد يوم جمعة الغضب، جمعة الشهداء ...28 يناير 2011.
اليوم .. قبل 25 يناير 2012بساعات .. تذكروا كل حرف وكلمة قالها، تذكروا دمه وآلامه .. تذكروا عينيه الاثنتين المفقودتين، تذكروا الرصاصة الحية التى أصابت رئته، تذكروا السبعين بلية خرطوش التى رشقت فى رأسه، تذكروا عجزه عن الحركة، تذكروا النزيف فى المخ، تذكروا إصابة الأم العنكبوتية بالرصاص الخرطوشى لشرطة العادلى وقتها - لم نكن نعلم أن شبابنا سيصاب بخراطيش ومطاطى ورصاص حى لكل وزير جاء بعد العادلى أيضاً - تذكروا إصابة الغشاء البللورى بالمخ، تذكروا غيبوبته، تذكروا محاولة إبادته، تذكروا بقاءه فى الرعاية المركزة طويلاً، تذكروا الإهمال الطبى المصرى، تذكروا إهانة وكذب الأطباء على أهله، تذكروا قسوة المعاملة التى لاقاها فى مستشفيات عدم، من أهمها المعادى للقوات المسلحة، تذكروا أن المسئولين بهذا المستشفى قد طردوه ، تذكروا أن أحد الأطباء المسئولين هناك قد هدد والده المهندس إبراهيم سليمان وهو يتوسل لهم أن يبقى محمد فى المستشفى لأنه طريح الفراش وهم لا يعلمون إلى أين يأخذونه، فإذا بهذا الطبيب فى معادى القوات المسلحة يهدده بالاعتقال إن لم يأخذ ابنه ويخرج من المستشفى، تذكروا جيداً الإهانة التى تعرضت لها الأم فى كل مرة تحاول فيها الفهم والمناقشة ومتابعة ما يجرى لابنها، تذكروا عجمة طبيب القوات المسلحة الذى قال لأهل محمد : «هى الشرطة تعملها وإحنا إللى نقع فيها ونشيلها»، تذكروا قسوة المعاملة من الممرضات اللاتى كان يقول بعضهن لمحمد الراقد على الفراش الذى فجأة فقد عينيه وحركته وأصبح طريح الفراش: «عجبك كده إللى عملته فى نفسك ...كان إيه إللى نزلك»؟
تذكروا محمد إبراهيم .. وتذكروا معه 25 يناير 2011، ذلك التاريخ الذى غير خريطة مصر، وغير معها خريطة حياة محمد إبراهيم وآلاف المصريين الذين فقدوا أبناءهم وذويهم أو فقدوا صحتهم.
تذكروا جيداً أننا من العبث والجرم أن نحتفل بثورة لم تكتمل أركانها الأساسية ولا حتى أولى مطالبها .
بعد أن انتهى محمد إبر اهيم من صلاة الجمعة فى مسجد الفتح برمسيس يوم 28 يناير 2011، ومع المسيرة المتجهة إلى التحرير كان سائراً، قوات الشرطة تضرب بمنتهى العنف .. ومحمد يخرج ليشق الصفوف هاتفاً : سلمية سلمية .. لم يكمل المرة الثالثة وعلى حد قوله الساخر : «التالتة كانت تابتة».. لم أشعر وقتها بأى شىء، سوى ظلام حالك، وأسمع صوت صراخ الناس : «مصاب .. مصاب»، كنت لا أعرف أنهم يتحدثون عنى، وانتهى المشهد عند هذه الجملة ولا أعلم فى أى يوم تحديداً، وبعد أسابيع عدت من الغيبوبة .
تكمل المهندسة رضا والدة محمد بمنتهى الدقة والاسترسال الممزوج بالمرارة وكأن المشهد يمر تفصيلاً أمام عينيها:
عندما كلمونى على التليفون الأرضى ليخبرونى بإصابة محمد وأنه فى مستشفى التأمين الصحى بمدينة نصر، تصورت أنه بخير متصورة أنه أعطى المتصل رقم البيت، وذهبت إلى هناك وفوجئت بأنه فى الرعاية المركزة وأول جملة واجهتها كانت من طبيبة تصرخ فى وجهى قائلة : «روحى ادفعى ثمن الأشعة» .. طلبت منها أن أرى ابنى فقالت صارخة: ادفعى الأشعة خلينا نعرف نشتغل فى حالة ابنك، كنت أهرول بين الأدوار والأقسام، شخص يقول لى : «ابنك طالب ومن الثورة، ما يدفعش حاجة، أذهب إليها فتعاود الصراخ فى وجهى، لدرجة أننى رميت حقيبة يدى أمامهم: «أهه شنطتى خدوا منها إللى أنتوا عاوزينه بس أشوف ابنى»!
ومن هنا بدأ مسلسل الكذب والعنف والإهمال والذل معنا!
منعونى من الزيارة بحجة الحفاظ على ابنى من الميكروبات، أوهمونى أن الضرب برصاص مطاطى يرتد مباشرة للخارج بعد اصطدامه بالجسم، كل هذا وابنى فى الغيبوبة، وبعدما تمكنت من مشاهدته، فوجئت بأنابيب تخرج من صدره، ووضعوا ابنى على جهاز التنفس الصناعى، لأنه مصاب بميكروب فى الرئة، نتيجة إصابته بطلق نارى، رغم أن التقرير الأول الصادر من المستشفى كان بتاريخ 29يناير ومكتوب أن الإصابة كانت برصاص مطاطى، سألتهم فى المستشفى: ابنى أصيب يوم 28يناير، ليه كاتبين التقرير بتاريخ 29 فأجابونى: مش مهم، مش هتفرق .. لكننى رفضت وصممت على تعديل تاريخ التقرير .. وكل هذه الأفعال لم تكن مجرد صدفة.
أسابيع طويلة مرت علينا فى التأمين الصحى ودرجة حرارة ابنى مرتفعة ولم يستطيعوا السيطرة عليها، وأثناء هذه الفترة ذهبت لمستشفى الفرنساوى الذى تم الإعلان أنه يستقبل مصابى الثورة، فإذا بأحد المسئولين هناك يقول : «هو أنتوا أول ما تسمعوا كلمة فى الإعلام تجروا علينا».
فى هذه الأثناء، لم أكن أعرف ولا أتابع أى شىء إلا حالة ابنى، وكان أصدقائى يقترحون علىّ أن أذهب إلى مستشفى الجلاء العسكرى أو المركز الطبى العالمى الذى طلب منى لاستقبال حالة محمد 15 ألف جنيه ثم 5 آلاف جنيه عن كل ليلة فى الرعاية التى لم يكن بها مكان خالٍ فى الأساس، ولهذا لم أجازف بنقل ابنى إلا بعد أن أجد له مكانا فى مستشفى آخر، وبالفعل ذهبنا إلى مستشفى المعادى القوات المسلحة .
∎ وهل تم اكتشاف فقد محمد لبصره فى عينيه الاثنتين ؟
- للأسف خلال هذه الفترة لم ننتبه إلى العين، لأنه فى مستشفى التأمين الصحى قالوا لنا أن ورم العين الكبير هذا بسبب الإصابة، لكنها مسألة وقت وطمأنونا بأن العصب البصرى وقاع العين سليمان، فركزنا كل انتباهنا حول كارثة ميكروب الرئة المميت ودرجة الحرارة المرتفعة. وعندما ذهبنا إلى المعادى، لفت انتباه الأطباء أن محمد يعانى من مشكلة فى الكبد، وربما تكون الإصابة قد أثرت على وظائف الكبد مثلاً، وأننا بحاجة إلى متابعة جهاز هضمى، فكان الرد : «مالناش دعوى غير بالإصابة، إحنا مش هنتابع التاريخ المرضى كله»!
فى ذلك الوقت كانت هناك مبادرات من أهل مصر الوطنيين مثل السيدة هبة السويدى وزميلتها السيدة إيمان فوزى - التى تابعت حالتنا وساعدتنا فى السفر إلى النمسا، حيث اختارت الحكومة النمساوية 25 حالة من شباب الثورة لتتم معالجتهم، كان محمد من بينهم وهذا من فضل الله علينا، وإلا كان محمد فى سيناريو آخر مختلف لا يعلمه سوى الله.
طلبنا من المستشفى تقريراً طبياً بحالة محمد للسفر إلى الخارج فقالوا لنا : مش محتاج سفر! لم أحصل على التقرير إلا عندما أخبرتهم أنه للكلية حتى يتم تأجيل السنة الدراسية له.
المفاجأة هى أن محمد كان وقتها مازال طريح الفراش، درجة حرارة مرتفعة، أنابيب تخرج من صدره، جرح عميق بعرض الصدر لاستخراج الرصاصة أسفل القلب، عجز حركى فى النصف الأيمن من الجسم، فقدان بصر .. ومع كل هذا، يصدر قرار من مسئولى المستشفى : محمد غير محتاج للبقاء فى المستشفى، أوقفوا عنه العلاج حتى المضاد الحيوى، وأوقفوا عنه الأكل لإجبارنا على الرحيل، نتوسل، نرجو، نناقش، نصرخ ولم تكن الإجابة سوى : خلاص الأمر انتهى، اذهبوا به إلى البيت، يعمل علاج طبيعى فى البيت!
فى اليوم الذى طردنا فيه من مستشفى المعادى للقوات المسلحة، دخلنا فيه مستشفى محمود لمدة أسبوع قبل سفرنا إلى النمسا .
وهنا تدخل السيناريو الإلهى .. وصلنا إلى النمسا، من الطائرة على سيارة الإسعاف ومنها إلى المستشفى، وكان محمد وقتها لا يزال يعانى من ارتفاع درجة الحرارة، وعدم السيطرة على التلوث والميكروب فى الرئة، وكأننا فى منطقة إنسانية أخرى، فعلى المستوى الطبى والعلاجى، شعرنا بالاهتمام وكأنه لا يوجد مصاب غير محمد فى المستشفى، وعلى مستوى التعامل، الكل كان يتعامل مع محمد بمنطق أنه البطل الذى أصيب فى الثورة المصرية العظيمة، الكل فخور به، وعندما تمت السيطرة على مشكلة الرئة وتم التأكد أن الوضع خال من أى مخاطر، تمت بعد ذلك متابعة العين وقد اكتشفنا المصيبة أن العصب البصرى تمت إصابته ولم تعد العين قادرة على الإبصار، كانت المفاجأة مروعة، ولكن الأطباء تعاملوا مع محمد بمنتهى الذكاء والإنسانية، تشجيع، عدم مبالغة فى الكارثة، التهوين عليه بشكل عملى ومنطقى، تم التركيز بعد ذلك على نصفه الأيمن غير القادر على الحركة، وبدأ مشوار آخر طويل.
كان من المفترض أن تظل دعوتنا هناك لمدة ثلاثة أشهر على نفقة الحكومة النمساوية، ولكن عندما بدأ علاج الحركة لمحمد، تحدى الأطباء بحالة محمد، وقالوا .. لن يسافر محمد من هنا إلا إذا وقف على قدميه مرة أخرى، وتم تمديد الفترة شهرين ثم ثلاثة أشهر أخرى لإتمام العلاج الطبيعى الذى كان يتم بمنتهى الصبر والهدوء والدقة، لدرجة أنه تم نقل محمد إلى مستشفى علاجى متخصص، ورغم عدم أحقية بقائى معه كمرافق فى هذا المستشفى، إلا أنهم تجاوزوا، ووافقوا على إقامتى معه فى ذلك المستشفى على قمة جبل، وكنت أبكى من كثرة الإحساس بالامتنان لمعاملتهم معى ومع ابنى، وكنت أتذكر لحظات الإهانة أثناء علاج محمد فى مصر، وأشعر بالضيق والتساؤل : لقد أكرمنا الله بالسفر، فما بالكم بالمصابين الذين لم يحصلوا على هذه النعمة!
يقول محمد : لا أستطيع أن أصف إليك الفرحة عندما كنت أتمكن من الوقوف لمدة نصف دقيقة، ثم تزيد بعد فترة إلى دقيقتين، عندما كنت أخطو بعض الخطوات القليلة بمساعدة أحد.
أجمل ما كان فى هذا المشهد هو ثقة الأطباء بى، فقد سعدت جداً بتشجيعهم ودعمهم النفسى لى، حتى عندما قال لى كبير الأطباء هناك، قوة تحمل محمد وإرادته، فاقت توقعاتنا.
∎ هل كنت ترى فى نفسك هذه القوة يا محمد ؟
- بصراحة كنت أعرف أننى قوى، مثابر، لكننى لم أتوقع يوماً أن تمر على كل هذه الأحداث والصعاب وأستطيع تحملها، وأكثر ما يفاجئنى هو حالة الرضا والسلام بداخلى . والحقيقة أن السبب فى ده كله أمى .. هى سبب قوتى !
فى لحظة ما، كنت أتمنى بصدق أن أستشهد كالذين استشهدوا فى سبيل الله وفى سبيل حرية مصر لكننى بعد وقت أدركت أن الله اختارنى لكرم الإصابة وليس لكرم الاستشهاد، «يعنى ربنا لسه عاوز منى حاجة تانية أعملها .. وإن شاء الله هاعملها».
تمت رحلة العلاج الطبيعى، عدنا بعد ثمانية أشهر إلى مصر لاستكمال العلاج - والحديث لوالدة محمد.
∎ وماذا حدث ؟
- فى رواية وتفاصيل كثيرة كانت تحكى لى والدته عن: معاملة صندوق المصابين، وبعد فترة طويلة تم صرف مبلغ 51 ألف جنيه، ثم رفض لبقية المستحقات إلا بتقارير أخرى، كنت وقتها فى النمسا، وعرضت عليهم أن أرسل لهم التقارير بالألمانية ويترجمونها، فرفضوا وأخذوا فى تأجيل صرف المستحقات، ولم نحصل على الخمسة آلاف المتبقية سوى منذ أيام قليلة.
تصمت الأم قليلاً وتقول: المشكلة أنهم بيتعاملوا مع مصابى الثورة بمنطق العقاب، تصدقى أننى منذ إصابة محمد، لا أريد أن أقرأ جرائد ولا أتابع تليفزيونا، لأن ما يحدث على أرض الواقع مغاير لما يقال، هم يريدون أن يصوروا أهالى الشهداء والمصابين على أنهم متسولون لحقوق أولادهم، كم من مرات يطالبنى الأهل والأصدقاء بتصوير محمد فى المستشفى وإرسال حالته إلى الجمعيات الحقوقية، لكننى لا أستطيع وقتها أن أصور ابنى وهو فى غيبوبته، لم أكن قادرة على أن أذهب إلى وزارة الدفاع للشكوى وإثبات ما كان يحدث معنا فى مستشفى المعادى، لأننى كنت أقول الثلاث ساعات التى سأذهب فيها، ولا يعلم نتيجتها سوى الله، هى من حق ابنى فى رعايته والبقاء معه، أنا على علم بأن نهاية الظلم والظالم ستأتى، لكنها مسألة وقت.
∎ وماذا عن استكمال العلاج فى مصر بعد عودتكم من النمسا ؟
- رضينا ورضى محمد بفقدان بصره، ربنا ينير بصيرته، لكننا الآن نحاول استكمال العلاج الطبيعى، لا توجد خطة علاجية ومتابعة من فريق محدد للعلاج الطبيعى، لم تنتبه جهة ما لعودة محمد، المشكلة أن العلاج الطبيعى فى النمسا كان يخضع لتكنيك محدد وهو العلاج اليدوى وحذرونا من استخدام الكورتيزون أو الجلسات الكهربية أو الإشعاعية، وللأسف فإن أغلب العلاج الطبيعى فى مصر بالكهرباء مما يؤدى لالتهاب العضلات وتيبسها وتأخر الحالة.
لا أعرف متى سنجد علاجا طبيعيا يمكن محمد من متابعة الحركة التدريب عليها، وإنقاذ الذراع والكتف الأيمن، حتى يتمكن من ممارسة حياته بشكل أقرب إلى الطبيعى؟!
∎ هل تشعر يا محمد أنك دفعت ضريبة غالية من صحتك ونور عينيك ؟
- لا أشعر أن الثمن غالٍ، مش بافكر بالطريقة دى، أنا لما دخلت مستشفى التأمين الصحى كنا ثلاثة، أنا وأحمد حرارة وسيف .. سيف توفاه الله، حرارة فقد عينا يوم 28 وفقد الثانية فى 19نوفمبر، وأنا فقدت عينين ونصف جسد، لكن كسبت شيئا أكبر، يمكن فى يوم من الأيام، حد يفتكر إن الشباب دول حاولوا يصنعوا تاريخ ومستقبل حلو لمصر.
أكثر ما فى مشهد حوارى مع محمد هى اللحظة التى يختنق فيها صوته، ولا يبكى أبداً، لكن عضلات وجهه تنقبض وتنبسط للتحكم فى حبس الدموع.
يتدخل والده الرائع المهندس إبراهيم سليمان وهو يقول له فى مداخلة: «ما أنت عارف يا محمد .. الأربعة وعشرين قيراط من نعم الله بيتوزعوا على كل بنى آدم، لكن طريقة التوزيع الإلهية تختلف من إنسان لآخر .. لكن كلنا واخدين النعم!
يبتسم محمد .. وكأنه راضٍ، أو يحاول أن يظهر الرضا لأجل والديه .. ما بداخل محمد كثير من البراءة والصمت.
تكمل الأم : صحيح فيه ناس تتعمد تشويه الثورة، صحيح فيه مصايب كثيرة، لكن أفظع مصيبة هى فكر الناس نفسها، إللى معتبرة إن الثورة نكسة، وإللى متصورين أن الشباب خربوا البلد بالثورة، وإن البلد بتنهار علشان الثورة، هى دى المصيبة الحقيقية .. فكر الناس وجهلهم وخوفهم من التغيير أو مصلحتهم من عدم التغيير ومن عدم إنقاذ البلد من الفساد المستشرى فيها، لكن رغم ده كله الثورة أثبتت إن الشباب هم المستقبل حتى لو حاولوا يبيدوهم، مش هيقدروا يلغوا إرادتهم .
البلد دى هتقوم والثورة هتنجح بس لو الناس غيرت من نفسها، وحست بأن إللى اتصاب أو إللى مات ده حد من ولادهم، يمكن يفهموا وقتها يعنى إيه ثورة.
يسألنى محمد فجأة ...هو صحيح فيه بلطجية هينزلوا يوم 25 ؟
- ابتسمت وأنا لا أعرف الرد .. قلت له .. يمكن يا محمد .. كلنا على الهوا، ما نعرفش إيه إللى هيحصل، هو أنتوا كنتوا عارفين إيه إللى هيحصل يوم 25 يناير 2011؟
ضحك محمد وقال : ربنا يولينا من يصلح.
لم أستطع أن أسأل محمد: كان نفسك تنزل يوم 25يناير 2012 ؟
يكفى أنه يعلم وكثيرون مثله أن «الثورة مستمرة» وأنه إحدى وثائقها المهمة ... وسجل يا زمان!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.